بقلم: د. زغلول النجار 1272
... وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا}( النساء:58) هذا النص القرآني الكريم جاء في أواخر الثلث الأول من سورة النساء وهي سورة مدنية, وآياتها مائة وست وسبعون(176).
{ بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لكثرة ما ورد فيها من الأحكام الشرعية التي تتعلق بالنساء, ولذلك عرفت بوصف سورة النساء الكبري, تمييزا لها عن سورة الطلاق التي عرفت بوصف سورة النساء الصغري. ويدور المحور الرئيسي للسورة حول قضايا التشريع لكل من المرأة, والأسرة, والمجتمع, مع عدد من الضوابط التربوية والأخلاقية والسلوكية التي تضبط المجتمع المسلم وتقيمه علي قواعد من هذا الدين العظيم.
من أوجه الإعجاز التشريعي في النص الكريم
يقول ربنا- تبارك وتعالي: إن الله يأمركم أن تؤدي الأمانات إلي أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا( النساء:58). و(الحكم) وجمعه( أحكام) هو القضاء والفصل; يقال( حكم)( حكما) و(حكومة); في البلاد أي: تولي إدارة شئونها فهو( حاكم) وجمعه( حكام); و(الحكم) وجمعه( أحكام) هو تولي إدارة شئون البلاد, و(الحكومة) تشمل أرباب السياسة والحكم, وهم الهيئة الحاكمة المؤلفة ممن يتولون إدارة شئون البلاد علي مختلف المستويات.
أولا: الأمر بالعدل بين الناس جميعا وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل:
ومن معاني قوله تعالي...وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل... أي يأمركم ربكم إذا قضيتم بين الناس في حقوقهم أن تقضوا بينهم بالعدل والإنصاف, بغض النظرعن أية اعتبارات باطلة شاعت بين الناس.
وأصل العدل: التسوية, ومعني أن تعدلوا بين الناس في أحكامكم: أن تسووا بين الناس في الحقوق والواجبات, دون أدني تمييز لعرق أو لون أو مستوي اجتماعي. وإطلاق لفظ( الناس) هنا يشمل كل الناس دون أي تفريق بين غني وفقير, أو أمير وغفير, أو أبيض وأسود أو غير ذلك من الفروق الاجتماعية أو الخلقية بين جميع الناس. فالعدل في الحياة الدنيا حق لكل إنسان بوصفه إنسانا, لأن البشر جميعا ينتهي نسبهم إلي أب واحد, وأم واحدة, هما آدم وحواء- عليهما السلام- ولذلك قال- تعالي: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم علي ألا تعدلوا إعدلوا هو أقرب للتقوي واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون( المائدة:8).
وفي الحديث القدسي يقول الحق تبارك وتعالي: يا عبادي إني حرمت الظلم علي نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا, يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها, فمن وجد خيرا فليحمد الله, ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).
ولذلك قال رسول الله- صلي الله عليه وسلم: الناس سواسية كأسنان المشط, ألا لا فضل لعربي علي عجمي ولا لعجمي علي عربي ولا لأحمر علي أسود ولا لأسود علي أحمر إلا بالتقوي, إن أكرمكم عند الله أتقاكم. وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت الرسول صلي الله عليه وسلم يقول: كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته; الإمام راع ومسئول عن رعيته, والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته, والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها, والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته, وكلكم راع ومسئول عن رعيته. وعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم:ما من وال يلي رعية من المسلمين, فيموت وهو غاش لرعيته, إلا حرم الله عليه الجنة( أخرجه البخاري)وقال رسول الله- صلي عليه وسلم- من ولي أمر عشرة من المسلمين ولم يعدل بينهم يأتي يوم القيامة مكبلا ويداه مقيدتان إلي عنقه إما أن يفكهما عدله وإما أن يبقي مقيدا. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله, إمام عادل.... وعن رسول الله- صلي الله عليه وسلم أنه قال: من ظلم قيد شبر طوقه من سبع أرضين, وفي رواية.... خسف به يوم القيامة إلي سبع أرضين.
ثانيا:... إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا:
إن الأمة المسلمة مطالبة بتحقيق العدل بين الناس متي حكمت في أمرهم. وهذا العدل الإسلامي لم تعرفه البشرية أبدا في تاريخها الطويل إلا في ظل التحكيم الدقيق لشرع الله بأيدي عباده المؤمنين, كما حدث في عهد الرسول الخاتم- صلي الله عليه وسلم- وفي عهود خلفائه الراشدين.
فالعدل كان- ولا يزال- أساس الحكم في الإسلام, وأداء الأمانات إلي أهلها- بمختلف أشكالها وصورها- هو من أسس الحياة في المجتمع الإسلامي, ومن أهم ضوابطها, لذلك ختمت الآية الكريمة بقول الحق- تبارك وتعالي-.. إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا وأصل التعبير هو: أنه خير ما يعظكم به الله تعالي, وهو تأدية الأمانات إلي أهلها والحكم بين الناس بالعدل. وإطلاق تعبير الناس دون أدني تقييد أو تمييز يشمل الناس جميعا: غنيهم وفقيرهم, أميرهم وغفيرهم. ومن معاني ذلك تعظيم الله- تعالي- الذي يعظكم بهذا السلوك النبيل. والأمر الإلهي وصف في نهاية الآية الكريمة بأنه عظة, حتي يكون أقرب إلي القلب, وأبلغ في الوصول إلي العقل, وأدعي إلي تحقيقه بقناعة ورغبة طلبا لمرضاة الله. وفي قوله تعالي:... إن الله كان سميعا بصيرا فيه تحذير واضح من مخالفة أمر الله في حتمية أداء الأمانات إلي أهلها, والحكم بين الناس بالعدل, لأن الله- تعالي- سميع لجميع أقوال عباده, بصير بكل من أعمالهم وأحكامهم يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ومن هنا كان لا بد من الرجوع إلي شرع الله في الحكم علي كل أمر من هذه الأمور حتي يتم تأدية الأمانات إلي أهلها دون أدني تقصير, ويتم الحكم بين الناس بالعدل دون أدني قدر من الجور أو الظلم.
المزيد من مقالات د. زغلول النجار
ساحة النقاش