بقلم: د. نصر محمد عارف 218
البداية هناك, بعيدة في الزمان, بعيدة في المكان, يقصها عليكم الطفل الذي لم يزل في صدري, يأبي أن يكبر, حتي لا يكون شريكا في تعاستنا وقبحنا. يقول الطفل العنيد الذي يعيش خارج الزمان والمكان.
يا سادة يا كرام في قرية صغيرة في حضن الجبل الغربي, يطل عليها دير الأنبا شنودة أو الدير الأبيض في الجنوب الغربي ودير الأنبا بشاي أو الدير الأحمر في الشمال الغربي, وكلاهما من أقدم الأديرة في مصر, حتي أنه يقال أن الدير الأبيض دفن فيه بعض من تلاميذ سيدنا المسيح عيسي بن مريم عليه وعلي سيدنا محمد الصلاة والسلام, لم يكن في هذه القرية الصغيرة أو النجع أحد متعلما إلا والدي, وكان صديقا لجارنا المسيحي الذي كنا نسهر عنده كل ليلة وكان أبي يذاكر لابنه جميع دروسه بما فيها كتاب الدين المسيحي وأجزاء من الإنجيل, فكان أن عرفت الإنجيل وما يقول قبل دخولي إلي المدرسة أو ذهابي إلي كتاب القرية. وعندما يأتي عيد الأضحي كان مسيحي آخر صديق لجدي هو الذي يذبح الأضحية, وعند ذبحها يرفع صوته بسم الله, الله اكبر, وعندما كبرت وأدركت أن لعائلتي عائلة مسيحية متحالفة معها, مثل باقي عائلات القرية, كل عائلة مسلمة لها عائلة مسيحية تتشارك معها في كل شئ, في العزاء نقف معهم ويقفون معنا, في الأفراح نكون كتفا لكتف كعائلة واحدة, نخدم ضيوفهم ويخدمون معنا, هم ينادوننا هوارتنا ونحن نناديهم نصارتنا وسألت وعرفت أن هذه العلاقة أمنا جاءت من الحماية التي كان يقدمها الأقباط للمسلمين في بداية الأمر ثم تحولت من المسلمين إلي الأقباط في نهايته, وعندما ذهبت إلي الاعدادية دخلت في أول خناقة في حياتي دفاعا عن واحد من نصارتنا, اعتدي عليه مسلم من قرية مجاورة, ووقف المسلمون من أبناء قريتي.
وكبرت وعرفت أن لي أخا من الرضاعة مسيحي, أرضعته أمي مع أختي وفي أواخر السبعينيات دخل قريتنا أغراب لم نعرفهم من قبل, بعضهم جاءوا بلحي طويلة وجلابيب قصيرة يضعون علي رؤوسهم طرحا بيضاء تشبه ما تضعه النساء في قريتنا وقاموا بهدم مقامات الأولياء فطردهم أكابر القرية ومنعوهم من الصلاة فيها, وفي نفس الفترة دخل معهم مدرسون مسيحيون جاؤوا من المدينة ليعلموا أبناء المسيحيين في قريتنا أشياء غريبة مثل أن القرآن محرف وأنه ليس صحيحا, وبدأت تدخل هذه الموضوعات في حواراتنا وبدأنا نختلف ونتشابك بالأيدي.
ثم تطور الأمر وظهر شيخ في مسجد مشهور في مدينة سوهاج ينتقد المسيحيين ويسبهم من فوق منبر أقدم مسجد في سوهاج, فما كان من مجموعة مسيحية, إلا أن قامت وأحرقت المسجد المبني معظمه من الخشب.
ثم تغير الأمر, وبدأت الحكومة تعتقل أصحاب اللحي والجلابيب ولكنها لم تتعرض لأي من المسيحيين وأصبح المسلمون يخافون من التعامل مع المسيحيين.
واكتملت الصورة بأن أرسل دير وادي النطرون رهبانا يلبسون زيا غريبا لم نعهده من قبل, قاموا بطرد القساوسة من دير الأنبا شنودة الذي كانت احتفالات مولده تستمر لاربعة اسابيع في الصيف, وكانت بالنسبة لنا عيدا سعيدا,وكنا نظن أن الدير لنا جميعا, للمسيحيين والمسلمين, إلي أن جاء رهبان وادي النطرون وأحاطوا الدير بسور كبير وتخلصوا من كل القساوسة الذين ينتمون الي قريتنا وأهلنا, واصبحوا هم المسيطرون وهم لايعرفون أحدا. ومنعوا المسلمين من الاقتراب من الدير, بل أحاطوا الدير ومساحات واسعة حوله بسور كبير, وحولوه إلي مزرعة ثم توسعوا وتوسعوا إلي أن اعتدوا علي مقبرة المسلمين وضموها لمزرعة الدير, فهب شباب القرية للدفاع عن عظام آبائهم وأجدادهم, فما كان من رجال الأمن إلا أن قاموا بوضع عسكري امن بجانب كل شجرة, وإذا اقترب الشباب من المقبرة التي تحولت إلي مزرعة يأخذ رصاصة مطاطية في جسده, وقد أخذها أخي الشقيق المسلم وليس أخي من الرضاعة الأصغر القبطي الذي كان يداوم علي زيارة أخيه في المستشفي.
وانتهت حكاية الطفل بدون تعليق لأنه لم يستطع أن يفهم من المسئول عن تفجير مجتمعه, وضياع السلام الجميل الذي كان يعيشه مع جميع أهل قريته, وارباك العلاقات مع جيرانه, من المسئول عن هذه الفتنة؟ هل هي السلفية البدوية الوافدة؟ أم القبطية السياسية الناشئة؟ أم الدولة المرتبكة الفاسدة؟
ساحة النقاش