بقلم: د.أحمد ابوزيد 494
من الأقوال الشائعة انه لن يوجد سلام بين الشعوب بدون سلام بين الأديان ولن يوجد سلام بين الأديان بدون إجراء حوار بينها.
والهدف من حوار الأديان هو الوصول إلي نوع من التفاعل الإيجابي بين أتباع هذه الأديان والعقائد المختلفة علي كافة المستويات وإيجاد أرضية مشتركة من التفاهم واحترام القيم والالتزامات نحو العالم وتقدير جوانب الخلاف بين الأديان باعتبارها كلها تخاطب الإنسانية ككل وإن اختلفت وسائل التعبير اللفظي أو الشعائري. وكما أنه لايوجد إنسان يعيش في جزيرة مهجورة بعيدا عن بقية البشر, فلايوجد دين حتي بين الشعوب القبلية المنعزلة يعيش في عزلة تامة عن بقية العقائد والعبادات, وإنما هو يعمل علي خلق حلقات وصل واتصال كما يدل علي ذلك تاريخ الأديان كوسيلة لفهم أسرار الكون وترقية التعامل مع البشر لأن في الدين أيا كان جانب إنساني لايمكن أن نخطئه أو تتخطاه. يظهر ذلك بشكل واضح في تاريخ مصر الذي شهد اتصال اليهودية بالمسيحية بالإسلام وقبلها كلها الديانة الفرعونية, فهي رغم ماتتعرض له من انتكاسات الآن لأسباب غير دينية وإن كنت تتخفي وراء الدين كانت خلال التايخ متقاربة معا في الفكر الشعبي الحر الطليق, علي الأقل كما تظهر هذا الجهود في محاولة ديانات الشرق الآوسط القديم التدليل علي تقارب الكنفوشية والبوذية مع المسيحية مما يفسر ازدياد التوجهات نحو البوذية في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة. ولسنا نقصد من التقارب انتقال الانتماءات وإنما الذي نقصده هنا هو تقارب الفهم والتعبير والنظرة الي العالم والجانب الإنساني المشترك الذي صادف كثيرا من الإهمال مما ترتب عليه الأوضاع السيئة من حالات التعصب التي يعاني منها العالم.
ولقد أدت التغيرات العالمية وسهولة الحركة والتواصل والاتصال وتدفق المعلومات إلي ازدياد اتجاهات الحوار بين الشعوب بما فيها المجتمعات التي كانت تعيش في عزلة نسبية والتي شعرت بأهميتها علي خريطة المعرفة والحاجة إلي الدفاع عن هويتها الخاصة بعد ان كانت خاضعة للاستعمار في إفريقيا وأمريكا اللاتنية واستراليا وغيرها, وتبين أن هذه الشعوب التي كانت مستضعغة لها فلسفات ومذاهب فكرية ودينية متماسكة وأن الغرب كان يحاول عمدا أو عن غير عمد طمسها لتحقيق أغراضه من الهيمنة. ولكن الذي يؤخذ علي تلك الحوارات التي تجري الآن هو استعداد أصحاب كل مذهب أو دين أو عقيدة للدفاع عن توجهه الخاص وهنا تبدأ المزايدات الني تسفر عن اتساع هوة التباعد بدلا من التقارب الذي ينبعث من الفهم الطبيعي الرقيق للإنسانية التي تمثلها الأديان أصدق تمثيل.
ويكشف عن صعوبة الاتفاق وبقاء المشكلات بين الأطراف المعنية أنه منذ عام1893 حين عقد برلمان الأديان العالمية دورته الأولي أن المشاكل الدينية ظلت بغير حل, بل وتشعبت الحركات الدينية المعاصرة بظهور جماعات ومؤسسات لها أهدافها الخاصة مما يزيد عملية الحوار تعقيدا. فقد بدأت تلك الحوارات بعدد من المفكرين الذين يؤمنون باحترام الرأي الآخر ولكن المكاسب الشخصية بدأت في السيطرة والتدخل في الثوابت بدلا من مناقشة أهداف التقريب بين العقائد لإقرار السلام بين جميع الشعوب.
هذه النظرة ليست متشائمة عن إمكان تحقيق التفاهم واحترام جميع العقائد ولكن التركيز علي الاجتماعات والمؤتمرات الرسمية لايكفي. فالمسألة تتطلب مخاطبة الضمير الشعبي في جميع المجتمعات وإيجاد قنوات اتصال غير رسمية لأن المهم هو الوصول بالعالم إلي مرحلة السلام.
في عام1995 أعدت اليونسكو العدة للبدء في إرسال بعثة لارتياد طريق الحرير المعروف بالطريق البوذي الذي يبدأ من نيبال ـ موطن بوذا ـ ويمر بالهند وباكستان وأفغانستان وبعض دول وسط آسيا, علي اعتبار أن هذا الطريق التجاري كان هو طريق تبادل الثقافات القديمة, ولذا كان من أهداف البعثة دراسة تاريخ تلك الدول وآثارها القديمة وآدابها الشعبية. وكانت البعثة مؤلفة من اثنين وأربعين عالما وأستاذا جامعيا من مختلف دول العالم وكنت أنا الباحث الأنثربولوجي الوحيد بالإضافة إلي عدد من أكبر مستشاري اليونسكو, بجانب نخبة ممتازة من رجال الجامعة في كاتماندو عاصمة نيبال وبعض رجل الدين البوذي وهم جميعا علي درجة عالية جدا من الثقافة واتساع الأفق والتسامح. ثم حدث أن توقفت عمليات السفر والانتقال من نيبال كما كما كان مخططا بسبب نشوب بعض المعارك بين الهند وباكستان واستقرت البعثة بكاملها في نيبال. وكانت فرصة أمام مثقفي نيبال أن ينضموا إلي البعثة التي لم يكن أمامها سوي التركيز علي التاريخ البوذي والديانة البوذية وأن توجه نشاطها كله تعرف الثقافة والحياة في نيبال وهي ثقافة تدور حول الديانة البوذية وأن ترتاد أكبر قدر من المعابد البوذية خارج العاصمة وأن تتصل بفئات الشعب المخنلفة وان تدخل في حوارات حرة مع الأهالي حول البوذية وأن تتعرف علي أسس تلك العقيدة وأن تحضر بعض الصلوات والشعائر والمراسيم. وخرج أعضاء البعثه بذخيرة هائلة من المعلومات والأهم منها درجة الفهم والتعاطف مع الأهداف الإنسانية التي تنطوي عليها البوذية, وهذا هو الذي تهدف إليه حوارات الأديان. فالمهم هو تعرف كنه الدين ودوره في إثراء الحياة الإنسانية دون مناقشة الثوابت والعقائد الراسخة التي لا يملك الإنسان التدخل فيها بالتعديل والتغييروالتي قد تتعارض ويصعب التوفيق بينها.
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وفدت إلي مصر سائحة بريطانية من عائلة ارستقراطية هي ليدي لوسي دف جوردون للاستشفاء. واثناء إقامتها في مصر اختلطت بعامة الشعب وكانت تتحاشي الآختلاط مع الأجانب وسجلت انطباعاتها في عدد من الرسائل التي كانت ترسلها بانتظام إلي زوجها في بريطانيا. ويهمنا هنا بعض ماجاء عن رؤية المسلمين للنصاري بوجه عام وعلاقة المسلمين والأقباط لنري ماحدث في مصر من تغيرات. ففي ببا توقفت الباخرة التي كانت تستقلها في رحلة في النيل ووقع بصرها علي كنيسة قبطية فتوجهت إليها. وكان الطريق يمر ببيت العمدة الذي كان يجلس مع القسيس, وكان العمدة قبطيا واسمه جرجس, لكنه انتخب عمدة لقرية مسلمة, وكان في الكنيسة قبر لأحد الآولياء المسلمين تحت قبة مجاورة للمدبح. ورأت السيدة البريطانية العمدة جرجس ينحني لتقبيل قبر المسلم. كان بالكنيسة بعض الترميمات يتولاها تطوعا عامل بناء مسلم قدم خصيصا ومن تلقاء نفسه لهذا الغرض من القاهرة بعد أن رأي الولي ثلاث مرات في المنام يأمره بأن يترك عمله ويأتي لترميم الكنيسة.
هذا هو الضمير الشعبي الذي يجب أن نحتكم إليه في لغة التقارب بين الأديان. وهذه هي مصر التي حين تنكرت لضميرها الديني السمح وخضعت لبعض الاتجاهات المتعصبة رفضت أن يكون أحد محافظيها قبطيا.
المزيد من مقالات د.أحمد ابوزيد<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش