الوجه الآخر لثورة ليبيا الراهنة
بقلم : د.محمد عبدالشفيع عيسي
تحدث الجميع في الفترة الأخيرة عن ملابسات تفجر ينابيع الثورة الأخيرة في ليبيا, انطلاقا من الواقع المتردي في هذا البلد العربي العزيز, استبدادا وفسادا وفوضي, ومن طريقة تعامل النظام الحاكم مع قوي الثورة.
ومن أجل التحليل الموضوعي للواقع الليبي الراهن, يلزم عرض( الوجه الآخر) للواقع, مما لم يعرض له المحللون بما يكفي من الموضوعية, وفيما يلي نعرض لبعض معالم الوجه الآخر( المسكوت عنه), حتي لو بدونا كأننا نسبح خارج التيار السائد, أو نغرد بعيدا عن السرب الطائر.
أولا: اختلاف السياق الليبي للثورة عن السياقين المصري والتونسي, واللذين برهنا علي تشابه يدعو إلي الدهشة حقا, ففي ليبيا نلحظ أن الاحتجاج أو التظاهر علي الطريقة المصرية أو التونسية, خاصة في المنطقة الشرقية, وحاضرتها بنغازي, لم يستمر طويلا, ربما استمر يوما واحدا أو يومين, وسرعان ما لحقه إلي جانب( الانقلاب الأمني) دخول مباشر في دوامة( العنف والعنف المضاد) عن طريق الصدامات المسلحة والدموية. وقد حدث ذلك بفعل واقعة لم تتوفر في تونس ومصر, وهي الانشقاق الذاتي لأجهزة الأمن الداخلي والجيش, بل في مؤسسة الحكم أيضا, وجهاز الدبلوماسية الخارجية.
وقد أدي الانشقاق إلي التحاق قادة ومجموعات قوية من أحشاء النظام الحاكم إلي حركة الاحتجاج مما أعطاها زخما قويا, بفعل الاستيلاء علي آليات ومعدات عسكرية وأمنية, بالإضافة إلي قدرة( عملياتية) علي إحكام السيطرة الأرضية علي مناطق واسعة شرق البلاد علي الأقل.
ولعله هنا تكمن نقطة بارزة في التفارق بين حالة ليبيا وحالة كل من تونس ومصر, ففي البلدين الأخيرين ظلت المؤسسة العسكرية متماسكة جدا, وتحركت تجاه الأحداث بوصفها مؤسسة, مما كان له أثره البالغ في تحديد مسار الأحداث التالية, وأهم ما يميزه تلك السلاسة النسبية في التوجه نحو ما يسمي الانتقال السلمي للسلطة. أما في ليبيا فلم تكن هناك مؤسسات بالمعني الصحيح في أي مجال, بما في ذلك المجال العسكري, فكان من اليسير جدا انشقاقها وعودتها إلي حالة الأصل من حيث الانتماءات الشخصية والقبلية والمناطقية, ولذا سرعان ما تحول الاحتجاج الواسع المتصاعد إلي استيلاء علي مخازن السلاح والذخيرة, وسيطرة علي الأراضي, وقدرة علي الرد والردع بالقوة المسلحة, مع دعم سياسي وتعبوي من القيادات السياسية المنشقة من داخل النظام.
ثانيا: اختلاف الأوزان النسبية والأدوار للقوي السياسية الإسلامية في أحداث ليبيا, عنها في كل من مصر وتونس, فرغم قوة تيار( الإخوان المسلمين) في مصر, و(حركة النهضة) في تونس, إلا أنهما حافظا علي دعم المسيرة السلمية لانتقال السلطة, بل وأعلنتا عدم نية أي منهما للترشح علي مقعد رئاسة الجمهورية. أما في ليبيا فيبدو أن التيار السياسي الإسلامي ـ والذي يقول أنصار القذافي إنه مدعوم من القاعدة ـ قد أسهم بحركية نشيطة في عملية السيطرة علي بعض أجزاء المناطق الشرقية, خاصة في مدينتي درنة والبيضاء, وهو ما ترك بصماته علي الخطاب الإعلامي والثقافي في المدينتين, في لحظات معينة, وربما في غيرهما.
ثالثا: بروز الدور الأساسي للبث الفضائي وجهاز التليفزيون, في الحالة الليبية, من حيث تعبئة الرأي العام المحلي والعربي والدولي ضد النظام الحاكم في ليبيا القذافي.. مقابل الدور الأساسي لـ الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي مثل( فيس بوك) في حالتي مصر وتونس.
والحق أن السلوك الدائم للنظام الليبي في مجال الإضعاف المبرمج لأجهزة الإعلام المحلي وإهدار الوجود الفعلي للصحافة, ودع عنك حريتها, قد ارتد علي نحر النظام بالذات في نهاية المطاف, فلقد بدا المشهد السياسي والإعلامي في الفترة الأخيرة مثيرا حقا: أن جميع القنوات الفضائية العربية والدولية تمارس تغطية الأحداث بطريقتها ولنحو اسبوعين, بدون مراسليها علي الأرض الليبية, وإنما اعتمادا علي أقوال مرسلة وصور قديمة نسبيا, أو غير كاملة ودقيقة لبعض المتواصلين المعارضين للنظام من داخل ليبيا ومن رموز المعارضة في الخارج ـ هذا بينما بدا النظام الحاكم عاريا تماما من أية تغطية إعلامية اللهم إلا ما تبثه القناة الليبية الرسمية اليتيمة( الجماهيرية) والتي تفتقد القدرة المهنية أصلا.
وقد قامت القنوات الفضائية ـ خاصة من الإعلام الخليجي( الجزيرة والعربية) والإعلام الدولي خاصة هيئة الاذاعة البريطانية والحرة الامريكية وحتي روسيا اليوم أو فرنسا42 بأداء دور متساو مع حركة الاحتجاج العنيفة والمعارضة المسلحة, دون أن تترك أية فرصة حقيقية لنظام القذافي للدفاع عن نفسه. وظل الأمر علي هذا الحال حتي بدأ السماح للمراسلين العرب والأجانب بالدخول وتغطية الأحداث من الجانب الرسمي, اعتبارا من1102/2/62, تقريبا, ولكن بدون توازن في عملية التغطية المهنية.
رابعا: دور العامل الخارجي:
بدت القوي الخارجية, خاصة الغربية( أوروبا ـ أمريكا) حائرة ومرتبكة خلال الأيام الأولي للأحداث الليبية, ولكن مع ظهور العلامات الأكيدة علي حدوث انشقاق خطير داخل النظام, وخروج المنطقة الشرقية من قبضته تماما, واهتزاز الوضع السياسي والأمني في غرب البلاد والوسط, أخذت دول التحالف الغربي تجمع أمرها علي إرغام نظام القذافي علي الاستسلام, خاصة في52 و2/62/.1102
وهناك عدة( سيناريوهات) محتملة من الجانب الغربي لتطور الأزمة الليبية, وظهر السيناريو الأقرب لفكر التحالف الغربي علي أنه مزيج من عدة مشاهد هي:
أـ( المشهد السوداني ـ الدارفوري) القائم علي الإحالة للمحكمة الجنائية الدولية وإصدار أمر من مدعي عام المحكمة بالقبض علي رؤوس النظام العليا, بالإضافة إلي دعم قوة المعارضة المسلحة بكل ما يلزم, وربما إرسال قوة حفظ السلام إلي ليبيا كقوة هجين من إفريقيا والعالم الخارجي, بموافقة من مجلس الأمن, تحت طائلة الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة, والذي سبق إشهاره في عدة حالات غنية عن البيان, وسبق إشهاره ضد النظام الليبي نفسه بمناسبة( أحداث لوكيربي).
ب ـ المشهد الخاص بيوغوسلافيا السابقة وصربيا, أي تجهيز قوة التدخل العسكري من حلف الأطلنطي دون انتظار للأمم المتحدة, إن تبينت صعوبة هذا التدخل من جانب مجلس الأمن.
ج ـ المشهد العراقي في عهد صدام حسين, وذلك بفرض منطقة لحظر الطيران فوق ليبيا كلها أو بعض مناطقها.
د ـ المشهد الصومالي من زاوية معينة, هي السماح بانفصال فعلي للمنطقة الشرقية مثلا, أو جزء منها, وتكوين حكومة فيها( مؤقتة أو غير مؤقتة) وجلب اعتراف فعلي بها مثل:( جمهورية أرض الصومال) وربما اعتراف قانوني من البعض.
وبصدور قرار مجلس الأمن في1102/2/72 بفرض عقوبة مالية, ومنع القائد الليبي وبعض أبنائه ورجاله من السفر, مع الإذن بالإحالة إلي المحكمة الجنائية الدولية وإبلاغ الشرطة الدولية
اصبحت أرضية الواقع الليبي مجهزة لنفاذ مشهد مركب من المشاهد السابقة, لا نعلم ملامحه بالتفصيل الآن.
ولئن كان نظام القذافي مسئولا عن الظروف التي سهلت للقوي الأجنبية تدخلها, فإن هذه القوي الغربية تحديدا, خاصة محور أوروبا ـ أمريكا ويجمعهما عسكريا حلف الاطلنطي, هي القوي المسئولة مباشرة عما سوف يلحق بليبيا من تدمير خلال المرحلة القادمة سعيا إلي السيطرة علي النفط الليبي.
وندعو الله أن يجنب ليبيا الشقيقة كل مكروه, وأن يلهم أبناءها جميعا القدرة علي تجاوز الأزمة الراهنة بأقل قدر من الخسائر علي الأرض والشعب. ولتكن مصالحة وطنية شاملة, تقيم نظاما سياسيا جديدا تماما, نظاما جمهوريا برلمانيا عصريا, هي المدخل الحقيقي لبناء ليبيا الجديدة, علي أساس توافقي حقيقي بين الجميع.
ساحة النقاش