‏19‏ مارس‏:‏ أول خطوة إلي الاستقرار
بقلم: د. محمد قدري سعيد


مشوار طويل‏,‏ طويل ما بين‏25‏ يناير حين خرجت طليعة من شباب وشابات الوطن مطالبين بالتغيير‏,‏ وبين‏19‏ مارس المقبل ميعاد الاستفتاء علي تعديل عدد من مواد الدستور‏,‏

 

أو وضع مواد جديدة لم تكن موجودة فيه طبقا لما رأته لجنة تعديل الدستور المعينة من المجلس الأعلي العسكري الأعلي‏,‏ عملية إنقاذ جراحية في جسد الدستور الحالي المعلق بعد أن شوهته رغبات الرئيس السابق وترزية القوانين المحيطون به‏.‏
ولولا ضيق الوقت‏,‏ والحاجة الماسة إلي نعمة الاستقرار‏,‏ والخوف من سقوط الوطن في دوامة عاتية دموية يصعب الخروج منها‏,‏ لكان الخيار البدء في وضع دستور جديد لمصر من الآن‏,‏ ذهاب الجماهير بأعداد كبيرة إلي صناديق الاقتراع وبحماس سوف يكون له دلالة قد تعلو فوق مجرد الموافقة علي التعديلات الدستورية إلي تأكيد رغبتها في قيمة التغيير والاستقرار معا‏,‏ وحنينها إلي حياة طبيعية يختفي منها شبح الجريمة والإفلاس‏,‏ وينشط الاقتصاد‏,‏ وتعود الثقة إلي مصر في قدرتها علي تبوؤ دورها الإقليمي والدولي بعد خروجها عفية من هذا المخاض الصعب‏,‏ في فترة قصيرة‏,‏ وبتكلفة مازالت مقبولة‏.‏
ويرجع الفضل في اقترابنا من أول درجة في سلم الاستقرار إلي رؤية القوات المسلحة ممثلة في مجلسها الأعلي‏,‏ وعدم تأجيلها صياغة التعديلات الدستورية الضرورية محل النقاش‏,‏ ومرونتها وتفهمها لمطالب شباب الثورة‏,‏ وتأييدها بحسم لما أشاروا إليه من رؤي وتوجهات كان أقربها موافقتها علي تغيير الحكومة‏,‏ ورئيس مجلس الوزراء‏,‏ وتأييدها لتولي الدكتور عصام شرف هذا المنصب كخيار موفق من شباب الثورة‏,‏ كما تعاملت بصبر وهدوء مع ما حدث من انهيار في جهاز أمن الدولة‏,‏ واشتعال النيران في بعض أبنيته علي مستوي القطر‏,‏ ووصول بعض الجماهير إلي داخله‏,‏ واستيلائها علي كثير من ملفاته الحساسة‏,‏ وبأسلوب هاديء عملي كان القرار إعادة النظر في تشكيل هذا الجهاز بما يتفق مع كل ما جري من تحولات جوهرية خلال الأسابيع الأخيرة‏,‏ آخذين في الاعتبار أن عصر التعتيم والظلام والتعذيب قد انتهي بلا رجعة‏,‏ وأن منطق دولة القانون سيكون المهيمن علي كل السياسات الأمنية الداخلية والخارجية‏.‏
ومن العجيب أن نري بعد كل هذا تحولا في خطاب بعض الشخصيات المحسوبة علي الثورة‏,‏ والمطالبة أخيرا بعدم التعجل في عملية تعديل الدستور والاستفتاء عليه‏,‏ بعد أن كانوا يستعجلون ذلك متوجسين من نيات المجلس العسكري الأعلي‏,‏ وخوفا من بقائه في سدة الحكم إلي الأبد‏,‏ واعتقادا منهم بأنه في سبيل ذلك قد يبحث عن سبب يؤجل به ميعاد تسليم الأمانة‏,‏ وتأخير أي خطوات قد تؤدي إلي حكم مدني ديمقراطي في فترة زمنية قصيرة‏.‏ لقد حرص المجلس العسكري الأعلي من البداية علي وضع برنامج زمني صارم تميز بتحديد الأهداف ومواعيد الوفاء بها‏,‏ وحتي الآن لم يخلف المجلس موعدا واحدا حرصا منه علي الوفاء بما التزم به برغم ما يواجهه من مطالب متتالية بتغيير الحكومة تارة‏,‏ ثم المطالبة بتغيير رئيس مجلس الوزراء تارة أخري‏.‏ والآن‏,‏ ومع اقتراب ميعاد الاستفتاء علي الدستور‏,‏ يطالب البعض بإلغاء كل ذلك وتأجيله لأسباب غير مقنعة‏,‏ والدعوة إلي مقاطعته لتستمر الأوضاع الحالية كما هي تنتقل من مأزق إلي مأزق آخر‏,‏ ومن فوضي إلي فوضي أوسع‏,‏ تحت مسمي الثورة‏,‏ والثورة من ذلك براء‏,‏ ولا أفهم حتي الآن ومعي كثيرون معني استمرار بقاء مجموعات في ميدان التحرير‏,‏ وما قد ينشأ عن ذلك من فوضي في حركة الناس والمركبات‏,‏ والإضرار الواسع بالسياحة والاقتصاد‏,‏ وباقي الأنشطة الأخري الضرورية لحياة مستقرة ومنتجة‏.‏
لقد دخل الثوار إلي ميدان التحرير يرفعون شعار سلمية‏,‏ ولا أعتقد أن العالم سوف يعجب بالفوضي كشعار للثورة‏,‏ والقوات المسلحة برغم ذلك تعضد الثورة بكل إمكاناتها‏,‏ وتسعي إلي تحقيق التغيير المرجو بشفافية كاملة واستجابة خلاقة لكل ما يقدم لها من أفكار أو اقتراحات مفيدة‏.‏
وفي الوقت نفسه‏,‏ لا أري ضررا في دخول رجال الثورة إلي معترك السياسة مبكرا‏,‏ والدليل أنهم نجحوا في اختيار رئيس للوزراء من جيل جديد‏,‏ كما أثاروا إعجاب الخارج بما حققوه‏,‏ فهل بعد ذلك يعتقدون أن الداخل لا يعرفهم بما يكفي ويترددون في الفوز بمعركة الاستقرار بعد معركة التغيير‏.‏
لقد حققت الثورة إنجازا عظيما بلا جدال‏,‏ لكن ما يحدث في مصر الآن قد ينحرف بهذا الإنجاز إلي تطبيق نظرية الفوضي الخلاقة المرفوضة من شعبنا عندما أرادت كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية تطبيقها في الشرق الأوسط‏,‏ وأخشي أن يكفر الناس بفكر الثورة والتغيير وهو الفخور بها والمحتاج إليها‏.‏ فالتطبيق حتي الآن يقاسي من التمسك وليس المضمون‏,‏ والاعتقاد بأن الصوت العالي المتطرف والعنيف هو الحكم في الاختيار‏,‏ وليس الصوت العاقل الذي يعرف هدفه ويسعي إليه بدون تشتيت للفعل والطاقة‏.‏ إن الفساد ليس فقط في المال ولكن أحيانا يوجد في الفعل‏,‏ وإذا انهارت الدولة فسوف يكون الثمن هائلا‏,‏ ونكون بذلك قد أضعنا هباء تضحيات شهداء الثورة العظيمة‏.‏
كنت أتوقع كما اهتمت الثورة بنظافة ميدان التحرير أن تهتم بعودة الناس لعملهم والانتظام فيه‏,‏ وأن تقود حملات لزيادة الإنتاج وعودة السياحة إلي عهدها‏,‏ وأن تتعاون مع المجلس العسكري الأعلي في تحقيق برنامجه الزمني وليس فقط الشك في نياته والضغط عليه للرجوع إلي الخلف وليس التقدم إلي الأمام‏.‏ والآن تقترب مصر رويدا رويدا من حالة إفلاس لو استمر الحال كما هو عليه‏,‏ ويجب أن نعرف أن مجرد وجود مجلس عسكري علي رأس الدولة مع كل احترامي له يعني أن مصر ليست المكان المناسب للاستثمار‏,‏ فلن يأتي إلينا سائح أو مستثمر‏,‏ ولن يمولنا بنك‏,‏ وعلي رأسنا نظام عسكري‏,‏ وفي داخلنا ثورة يرفض بعض شبابها تحقيق الديمقراطية والاستقرار في زمن قصير‏.‏ والمشكلة في انهيار الاقتصاد أن كل المشاريع الكبري سوف تتوقف‏,‏ وأن البطالة سوف تتضاعف‏,‏ وأن الاحتكاك والصدام المجتمعي سوف ينتشر مثل النار في الهشيم‏.‏
ربما تهتم وسائل الإعلام بالجزء المثير في الأحداث بما في ذلك عدد القتلي والجرحي والمظاهرات والكر والفر بين المحتجين والحكومة‏,‏ ولا يسلط الضوء إلا خافتا علي الاقتصاد وتداعياته‏.‏ وفي عالم عولمي خرجت ثورة شباب مصر حيث يتضاعف كثيرا ثمن الثورة‏,‏ وتكلفة عدم الاستقرار والابتعاد عن ساحة التفاعل والتعاون والمنافسة‏,‏ ومن البداية‏,‏ وبسرعة مذهلة‏,‏ خرجت التقارير الأولية عن تكلفة الثورة في أيامها الأولي‏,‏ واستمر ذلك يوما بيوم حتي سقوط مبارك في اليوم الثامن عشر من الثورة‏.‏
وتقول التقارير إن مصر قد فقدت بليون دولار يوميا أخرجها المستثمرون من مصر‏.‏ هذا من الجانب المالي فقط‏,‏ أما الخسارة الكبري فقد نتجت من تأثير الثورة علي البنية الأساسية‏,‏ والسياحة‏,‏ والإنتاج الصناعي‏,‏ وغير ذلك من منتجات المؤسسات ذات الطابع الاقتصادي‏,‏ وبطبيعة الحال تأثر آلاف بل ملايين من الناس العاملين في أنشطة مختلفة وغير مسجلة‏,‏ وما يؤدي إليه ذلك من تفشي الجريمة والعنف المجتمعي‏.‏
وقد انعكس ذلك بالفعل علي معدلات النمو التي انخفضت تنبؤاتها في‏2011‏ من‏5.4%‏ إلي‏2.1%,‏ وإذا كانت البطالة من أسباب اندلاع الثورة‏,‏ وتزيد معدلاتها كل يوم‏,‏ فإن ربع سكان مصر يعيشون تحت خط الفقر بالمعدلات الدولية‏,‏ وخلال السنوات العشر الماضية نجحت مصر في جذب مستويات عالية من الاستثمار وصلت إلي‏6.7‏ بليون دولار في‏2010/2009,‏ وكان الأمل في أن يتضاعف ذلك في المستقبل إذا حرصنا علي إعداد المناخ اللازم لتحقيق ذلك الهدف‏.‏ إن الإسراع في تحقيق الديمقراطية الحقيقية والانفتاح الاقتصادي سوف يؤدي إلي بناء ثقة مطلوبة مع العالم المعجب حاليا بما حققه الشباب من معجزة‏,‏ وتأخر هذين العاملين بحجج مختلفة سوف يضر بالتوقعات الإيجابية بالنسبة لمصر ويحولها إلي توقعات سلبية مخيبة للآمال لم تعد التوارث تقاس بعدد الشهداء فقط ولكن بما حققته من أهداف بأقل تكلفة في الأرواح والزمن والبنية الأساسية والثروة الوطنية‏,‏ ويجب أن يعلم الجميع أن ثورة الشباب كانت محظوظة بتأييد الجيش لها بكامل قدراته ومن اللحظة الأولي‏,‏ كما أن الجيش كان محظوظا في لقائه مع شباب جيل جديد يعرف العالم حوله ويبحث لمصر عن مكان لائق فيه‏.‏

 

المزيد من مقالات د. محمد قدري سعيد
azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 92 مشاهدة
نشرت فى 12 مارس 2011 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,687,124