بقلم: د. علاء عبدالهادى
عانت الثقافة المصرية فيظل سياسات وزارة الثقافة السابقة, من غياب مجموعة من العناصر اللازمة لأية ثقافة كيتنهض اجتماعيا; سواء علي مستوي غياب استراتيجية ثقافية لها سياسات واضحة فيظل الشرط الحضاريالمعيش, أو علي مستوي ترديأحوال الكتاب والمبدعين المادية والثقافية..
وقد كان لعدد كبير من المثقفين, قبل ثورة25 يناير المجيدة, موقف معروف وواضح من سياسات الدولة فيمشروع مصر الثقافي, وقد عبرت عن هذا الموقف مع زملاء وأكاديميين وشعراء وإعلاميين وروائيين ومترجمين ومسرحيين وأكاديميين, لهم حضورهم الإبداعياللافت, والتزامهم الوطنيالرفيع, فيبيان صدر باسم المثقفين المستقلين من عدة أشهر, وهو بيان أثار ضجة آنذاك, وأنشأ حوارا ثقافيا تشعبت روافده, حول مفهوم الثقافة والمثقف, وشكلت وقتها لجنة تحضيرية لعقد مؤتمر باسم المثقفين المستقلين, أردنا فيه أن نضع رؤيتنا حول مستقبل مصر الثقافي, بادئين بنقد السياسات الثقافية, كينحدد بداية من نحن وماذا نريد؟
كان حجم الغضب حينها قد وصل إلي حد لا يمكن قبوله, وذلك فيظل مجموعة من الكوارث, نذكر منها هذا النهب المنظم لآثار مصر, والسرقات المستمرة التيتورط فيها مسئولون كبار فيالوزارة, وعلي رأسها قضية الآثار الكبري, فضلا عن نهب دار الكتب والوثائق القومية علي مدار العقدين الأخيرين, وحريق المسافر خانة, وحريق بنيسويف الذيراح ضحيته عشرات المسرحيين, وحريق المسرح القومي, بالإضافة إلي سوء سياسات المؤسسات الثقافية التيأدت إلي الإجهاز علي المسرح المصري, فضلا عن غياب إنتاج سينمائييليق باسم مصر الفني, وندرة المجلات الأدبية المتخصصة, فمعظم إنتاجنا النقديوالثقافييذهب إلي الدوريات العربية والأجنبية, مثله فيذلك مثل جزء كبير من فننا وتراثنا التشكيلي, وغياب مراكز ثقافية مشعة لها دور فاعل فيمحلياتها, هذا بالإضافة إلي مهازل الترشيح والاختيار لجوائز الدولة, ومهرجانات المجالس المحنطة للمجلس الأعلي للثقافة التيلا يحضرها أحد, وقضايا الفساد المتتابعة لكبار موظفيالوزير وحاشيته...إلخ. وها نحن نشهد سرقة مخزنين كاملين للآثار فيظل ما يسمي وزارة الآثار الجديدة! وهذا ما أثار سخط الوسط الثقافيالمصري, وتساؤلاته, وهيوقائع كانت تستوجب محاكمة الوزير وكبار المسئولين, لتوافر أركان ما يسمي فيالقانون بالمسئولية التقصيرية..
وأظن أننيلا أعدو الحق إذا قلت إنه فيالعقدين الأخيرين قد نجحت فئة تكنوقراطية صغيرة, فيالتحكم فيواقعنا الثقافيوالإعلاميلمدة عقدين زمنيين علي أقل تقدير, منفردين بإدارته, وما زال عدد من تلاميذهم, يشغلون رئاسة مؤسساتنا الثقافية حتي الآن, استخدمتهم المؤسسة كما استخدموها وتلاعبت بهم كا تلاعبوا بها.
كان من نتائج هذه السياسات الثقافية فشل المؤسسات الثقافية الرسمية القائمة فيإفادة المحتاجين الحقيقيين للمعرفة بكل مستوياتها, فضلا عن عجزها عن الاستفادة من العقل الثقافيالعام وتوظيفه فيالتنمية الثقافية الحقة, وفيحماية مكتسباتنا المادية وقيمنا التاريخية, وكأن شعار مهرجان لكل مواطن هو السبيل الوحيد للتنوير! وهذا ليس مستغربا, فقد كان هدف الوزير وموظفيه من البداية هو وضع المثقفين فيالحظيرة علي حد تعبيره- متوجها بذلك إلي تدجين المثقف, لا إلي بناء الثقافة..
فيظل هذا المناخ الثقافي, فقدت مصر جزءا كبيرا من قوتها الناعمة, علي المستويين العربيوالدولي, وهذا ما دفع بأصوات نقدية مهمة إلي مهاجمة وزارة الثقافة وموظفيها الكبار, وهيأصوات مازالت تعبر عن احتياج مجتمعنا الي حركة ثقافية مستقلة قادرة علي مواجهة الفساد الاجتماعي, ومحاربة الأميتين الثقافية والتعليمية, وقد عبر هذا الاتجاه النقديعن ملامح الأزمة الحقيقية للتوجهات الثقافية آنذاك, ولإجراءاتها القائمة علي الجهل بالواقع الثقافيعلي المستويين المصريوالعالمي.
أما أخطر ما هدد مشروع مصر الثقافي, ونال علي نحو شديد السوء منه, فكان قيام سياسات مصر الثقافية علي أفراد, كانوا يعبرون عن مصالح فئات بأعينها, والآن نحن فيأشد الحاجة إلي رؤية استراتيجية واضحة ومتكاملة علي مستوي كلي, تستهدف وضع الثقافة المصرية, فيمكانها اللائق عربيا ودوليا, بعد أن اهتم القائمون علي إداراتها بالشكل والمهرجان والفرد, علي حساب المضمون والأثر والجماعة.
لقد كشفت ثورة25 يناير المجيدة عن اعتراض الشعب العارم علي الكيفية التياتخذتها السياسات الثقافية والإعلامية والسياسية والاقتصادية فيإدارة مصالح مصر ومواطنيها فيالعهد البائد, فيظل فجوة هائلة بين رغبات شعبنا وآماله, وقرارات وتوجهات أهملت كثيرا اتجاهات هذا الشعب, وتجاهلت ما حملته هذه الاتجاهات من تطلعات مشروعة, وآمال. هذا باختصار ما أوضحه شباب ثورة يناير المجيدة, وهيثورة ثقافية فيأساسها, قوضت أركان ثقافة قديمة, لقد كانت ثقافة الفيس بوك, والشبكة العنكبوتية, فيمواجهة ثقافة خيول وحمير وجمال! ثقافة حب أمام ثقافة كراهية, ثقافة تقوم علي مصادفة منتجة أمام ثقافة مؤامرة منظمة. لقد دفعت هذه الثورة بشروط ثقافية جديدة يجب الاهتمام بها, والالتفات إلي آلياتها, ومقوماتها التقنية والأخلاقية.
والآن, ما أحوجنا الآن إلي استراتيجية ثقافية جديدة, يكون لها مهمات واضحة علي المستويين القريب والبعيد, استراتيجية تبدأ أولي خطواتها من قراءة كاشفة للبيئتين الداخلية والخارجية للثقافة, واضعة استراتيجيتها الكبري, وخطتها, بدءا من التوصيف الاستراتيجيللمشروع الثقافيالمستقبلي, مرورا بالتوظيف الاستراتيجي, وانتهاء بمرحلة التقييم والتحكم, مع ضرورة أن توليهذه الاستراتيجية اهتماما خاصا إلي أهمية تفكيك المركزية الثقافية البغيضة فيمشروعنا الثقافيالقادم, من أجل دفع الحركة الثقافية إلي ممارسة ديمقراطية تحترم الاختلاف, وذلك من خلال فهم للثقافة لا يرتبط بالحدود الضيقة للكتابة الأدبية فحسب, بل يرتبط بالمثقف بالمعني الاجتماعيللثقافة بصفتها مهمة مجتمع كامل وليست مهمة وزير أو وزارة, وذلك من أجل استعادة المثقفين إلي دورهم الاجتماعيالفاعل, فيمقاومة ترديالأوضاع الثقافية والاجتماعية التيتمر بها مصر فيهذه المرحلة الخطيرة من تاريخها الثقافي.
من أجل هذا أري أن هناك ست خطوات جوهرية يجب وضعها فيالحسبان قبل رسم أية سياسات ثقافية جديدة. أولاها هو أهمها التفكير الجمعي, وذلك عبر الإنصات لآراء أكبر عدد من المثقفين, ولانقصد بهذا الوصف هؤلاء الذين نراهم فيكل الصحف, ومع كل الحكومات أو السياسات فحسب! نحن مهتمون باستعادة المثقفين الحقيقيين إلي دورهم الفاعل فيمواجهة الفساد, وترديالأوضاع الثقافية والاجتماعية, وثانيها, هو أن نبدأ معا وفيتقويم أداء السياسات الثقافية للمؤسسات القائمة, وتقويم تأثيرها علي الواقع الاجتماعي, فهو المؤشر الوحيد لنجاحها, هو أثر الإنفاق الثقافيعلي المستوي الاجتماعي. وثالثتها أن نسعي جميعا إلي وضع معني لثقافة مصرية تمثل مجمل عناصر الأمة التاريخية والحضارية, ورابعتها, أن تهتم الاستراتيجية القادمة بطرح البديل الثقافيمن خلال فهم للثقافة لا يرتبط بالحدود الضيقة للكتابة الأدبية فحسب, بل يرتبط بالمثقف بالمعني الاجتماعيللثقافة, ذلك لأن الثقافة هيمهمة مجتمع كامل وليست مهمة وزير أو وزارة. وخامستها أن يكون من الأهداف الكبري لهذه الاستراتيجية أن تدفع المصريين إلي هوية ثقافية جديدة قادرة علي تحديظرفها الحضاريالمعيش, لخلق وعي عام يدفع إلي مستقبل يرغب فيه المجموع, بدلا من مستقبل تخلقه المصادفة والظروف, ذلك بعد أن درجت الأنظمة السياسية المتتابعة علي التعامل مع الثقافة بصفتها شيئا ثانويا, يقع فيآخر سلم الكماليات. وللكتابة بقية..
المزيد من مقالات د. علاء عبدالهادى<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش