كتب:جمال محمد غيطاس
احتار الكثيرون في دولة العواجيز ـ حسب تعبير عبد الرحمن الأبنودي بقصيدة الميدان ـ في ثورة25 يناير, وقالوا إنها كانت مفاجئة وعفوية وبلا قيادة, لكنها من منظور تكنولوجيا المعلومات تعتبر في تقديري ثورة معلومة الموعد, حدثت بإرادة جماعية واضحة, وكان لها قائدها المعروف منذ لحظة التخطيط والاستعداد.
, ومن ثم فإن قضية' من قاد الميدان' ليست مشكلة الثورة ومن قاموا بها, بل مشكلة دولة العواجيز التي لم تدرك أن بينها وبين ما حدث فراسخ وأميال طويلة, جعلت عيونها غير قادرة علي الرصد وعقولها غير مؤهلة للفهم.. كيف؟
لقد طفت قضية البحث عن قيادة الميدان أو الثورة لأن الدولة ـ بساستها وأمنها وإعلامها- تعاملت مع ما حدث بمعايير قديمة وعتيقة ضيقة الأفق, معايير تري أن أي تحرك جماهيري ما هو إلا جبل أو هرم بقاعدة وقمة, ولم تدرك أن هذه الثورة خرجت من رحم الإنترنت بما تحمله من أدوات أفرزت نموذجا جديدا تماما للتحركات الجماهيرية والسياسية الواسعة, يتوزع فيه مركز القوة بصورة متساوية علي جميع المنخرطين فيه, ولا مكان فيه لقائد أو ملهم.
وللتوضيح أقول إن ثورة25 يناير وما بعدها تعد من الناحية المعلوماتية حالة من حالات' التواصل الإنساني الرقمي' التي تشكلت عبر الشبكة, ثم وجدت طريقها إلي الشوارع والميادين.
والتواصل الإنساني الرقمي ظاهرة تعود جذورها إلي النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي, حينما تجاوزت الشبكة مرحلة تبادل البيانات بين طرفين أو عدة أطراف تعمل وفق إطار مؤسسي داخل منشاة أو هيئة أو أكثر ومغلق علي أصحابه ومستخدميه ويحدد لكل منهم صلاحيات بعينها, وانتقلت لمرحلة إنشاء قنوات لتبادل معلومات وأفكار وآراء بين أطراف لا يحكمها إطار مؤسسي وليس بينها من علاقة سوي الاستخدام المشترك للشبكة ومواردها المفتوحة للجميع.
استمر التطور, وبدأت تظهر أشكال من التواصل الإنساني تشمل تبادل المعلومات والرأي والنقاشات علي فترات متباعدة زمنيا, بمعني أن الأدوات والتكنولوجيات المستخدمة كانت- علي سبيل المثال- تجعل من المحتم علي من يطرح رأيا أو يبعث بمعلومة أو مشاركة في قضية ما يحتدم حولها الجدل أن ينتظر لفترة ربما تطول لساعات أو أيام حتي يتعرف علي ردود وملاحظات واتجاهات الآخرين حيال ما يطرحه, وبالتالي كان التواصل في مجمله يجري ببطء.
بمرور الوقت راحت هذه الأدوات والتكنولوجيات تتطور وتتسع, فمن الناحية الأدائية بدأت تنتقل من الأدوات التي تحقق تواصلا بطيئا إلي الأدوات التي تحقق تواصلا سريعا وصل الآن إلي ذروته بحدوث التواصل اللحظي أو الفوري, كما أصبحت تتسم بمزيد من السهولة في الاستخدام ورخص التكلفة, حتي بات باستطاعة أي شخص استخدامها بمجرد اكتساب بعض المهارات البسيطة التي يمكنه الحصول عليها بالتدريب والتعلم الذاتي, ومن ناحية الانتشار والجماهيرية انفتحت علي مجالات جديدة وانتقلت من التخصصية إلي العموم, ومن دائرة المعلوماتية المنغلقة علي أصحابها والمهتمين بها إلي رحابة عالم السياسة والأدب والثقافة والفن والاجتماع والترفيه والعقيدة وغيرها.
حدث بعد ذلك سباق عالمي محموم لوضع الأسس اللازمة لتحقيق التلاحم والاندماج أو' التمازج' بين كل من شبكات المعلومات بكل أدواتها وأجهزتها وبنيتها التحتية, وشبكات الاتصالات الثابتة والمحمولة بأدواتها وأجهزتها وبنيتها التحتية, والبرمجيات المعقدة القابعة في أقبية المؤسسات والشركات, والإلكترونيات والشرائح الدقيقة المبثوثة في ربوع العالم في صورة أجهزة وآلات وأدوات بالمصانع والمنازل والمباني وأحيانا في رقاب الكلاب والبقر وعلي فروع الشجر, ليتحقق في النهاية إطار يسمح للجميع بالعمل المشترك الذي يكمل بعضه البعض.
ومع التباشير الأولي للقرن الجديد كانت هذه التطورات قد جعلت عملية إنتاج وتداول وتوزيع وتوظيف المعلومات تنتقل من مراكز اتخاذ القرار العليا للمجتمع لتقف علي الأرصفة والميادين والمقاهي والنوادي والشواطيء والآرائك في غرف الاستقبال بالمنازل, فبدأ ما يعرف بالأنشطة القائمة علي تكنولوجيا' الويكي', أي الأنشطة القائمة علي التعاون والعمل المشترك والبناء من أسفل, في سلسلة أفقية, كالخط المستقيم, وليس الهرم الذي يأخذ شكل المثلث ذي القاعدة العريضة والقمة المدببة التي تتسع لفرد واحد.
وفي هذه السلسلة الأفقية يتساوي الجميع, ويتشابكون بصورة ليس فيها طبقة فوق أخري, بل ينتظمون جنبا إلي جنب في امتداد لا نهائي من الافراد والأشياء التي تتعاون وتتناغم معا لتصل إلي فعل مشترك, عبر الأداء السريع الذي يعمل فيه الجميع بندية واحترام, ويتعارفون ويتشاركون ويمتلكون حرية مطلقة في التعبير, ويمتلكون فيه وسائل سريعة لقياس الآراء وصنع القرارات بصورة تشاركية كاملة, وفي الآونة الاخيرة شكلت الشبكات الاجتماعية والمدونات والقوائم البريدية والمواقع والمنتديات التي تعمل بأدوات الجيل الثاني للويب البنية التحتية لأنشطة الويكي.
وحينما بدأت أنشطة الويكي تنتشر علي الإنترنت عام2004, ثم نضجت أكثر بعد ظهور الشبكات الاجتماعية في2006, كان المجتمع المصري علي موعد مع القدر, حيث قام الشباب بقطف هذه الثمار, وبدأ يستخدم ويوظف هذه الأدوات من حيث انتهي الآخرون, فظهرت في البداية موجات متلاحقة من البحث عن الترفيه والجنس والأغاني, لكن الإرث الحضاري العميق لدي الشعب المصري استطاع أن يرشد هذه الموجة, ويستخرج من تحت ركامها توجهات عظيمة القيمة عميقة الأثر, فتشكلت نواة للتعبير عن الرأي عبر الشبكة, عبر المدونات السياسية, ثم سرعان ما تركزت بعد ذلك في مجموعات وصفحات علي الفيس بوك وحسابات علي تويتر وغيرهما, فارتفع التوظيف السياسي للشبكة إلي أقصي مستوي له, بعدما تشكلت مجموعات شبكية عريضة النطاق, تضم في عضويتها مئات الآلاف من الشباب, وعملت بأنشطة الويكي, في نشر الأفكار, ثم الحشد والتخطيط واتخاذ القرارات وانتهاء بالتنفيذ والمتابعة والتوثيق.
وفي جميع هذه المراحل كانت المعلومات والبيانات المولدة عبر أدوات الويكي المختلفة هي الوقود الوحيد المتاح للشباب, واتسمت عشرات التنظيمات الشبكية المستندة لأنشطة الويكي بالسمات المعروفة لتكنولوجيا الويكي وهي:
ـ لا قيود علي حرية التعبير.
ـ لا شروط للانضمام لأي نشاط أو مجموعة أو تنظيم أو صفحة أو مغادرتها والانفصال عنها.
ـ لا قيود أو شروط علي مستوي ونوعية حجم المشاركة.
ـ اعتماد تام علي آليات التواصل اللحظي الجماعي ـ كاستطلاعات الرأي الالكترونية والتصويت الفوري ـ لاعتماد أي قرارات أو خطوات في أي قضية في أي وقت وبمنتهي السرعة بمشاركة الجميع.
ـ مساواة كبيرة في الحقوق والواجبات وتوزيع الأدوار بالنسبة لجميع الأعضاء, بدءا من مجرد التعبير عن الرأي وانتهاء باتخاذ المواقف والقرارات
ـ اعتماد مطلق علي التنظيم الشبكي الأفقي الذي يوفر شعورا بالندية والمساواة والاحترام بين كل الأعضاء المشاركين.
ـ الحرية الكاملة في كشف أو إخفاء شخصية العضو أو المشارك, سواء بصورة كلية أو جزئية, دون أن يرتب ذلك أي نوع من التأثير علي احترام او فعالية العضو, ومن ثم كانت الغالبية الساحقة من الأعضاء في كل التنظيمات لا تعرف شيئا عن بعضها البعض بصورة شخصية.
ـ تقدير واحترام كامل لأي مساهمة أو أي جهد مهما صغر أو كبر, متتاليا أو متقطعا.
ـ إعلاء الفكرة والقيمة والإبداع وروح الجماعة علي الأشخاص, حتي لو كانوا منشئوا المجموعة أو النشاط ومنظميه ـ لأنهم في النهاية أفراد متساوون مع الآخرين.
في ضوء هذه السمات فإن من يقبل بالانخراط في أنشطة' الويكي' التعاونية التشاركية خاصة في المجال السياسي والجماهيري يكون في الغالب:
ـ مؤمن بالحرية ويمارس الانفتاح والعطاء مع الآخرين.
ـ يمتلك ذهنا مبدعا لا تابعا.
ـ يقبل بالمخاطرة ويستطيع المثابرة.
ـ يسعي لتحقيق قيمة مضافة حقيقة.
ـ يفضل التعامل بندية واستقلال مع الآخرين.
ـ يحرص علي الفعل والإضافة ويرفض الانصياع والملاحقة
ـ ينطلق من الانتصار للذات والثقة بالنفس.
ـ يمتلك ثقافة المقاومة الايجابية لا الاستسلام أمام عقل الآخرين.
وهكذافإن من تحركوا ونظموا25 يناير واستمروا حتي انتصار الثورة هم نتاج مرحلة التواصل اللحظي وتكنولوجيا الويكي التي تقوم علي البناء من أسفل بصورة عريضة, والتشبيك الافقي المكون من طبقة واحدة يقف جميع أفرادها علي قدم المساواة مع بعضهم البعض, من حيث المشاركة والفعل والتنظيم, وهذا بالضبط هو سر عدم وجود قيادة لهؤلاء, لأنهم إفراز لمنهجية تختلف جذريا عن نموذج العمل الهرمي الرأسي الذي يضم عدة مستويات تنتهي برأس أو قيادة.
وإذا ما تعاملنا مع الثورة باعتبارها اعتمدت علي أنشطة الويكي الشبابية بسماتها السابقة, فيمكننا القول أن التخطيط لها كان جماعيا والتنفيذ جماعيا, ولذلك لم تكن الثورة عفوية بالمنطق الذي تتحدث به دولة العواجيز, ولم تكن مفاجئة بل كانت نذرها وإرهاصاتها واضحة لمن لديه القدرة علي متابعة ما يجري في هذا العالم الجديد, أما قائدها فلم يكن شخص بل فكرة آمن بها كل من جلس إلي حاسبه, وبدأ يكتب علي لوحة المفاتيح ثم انتهي به الأمر مناضلا في الشوارع والميادين, وهذه الفكرة هي' حب الوطن' لا أكثر.
خلاصة القول أن قائد ميدان التحرير لم يكن شخصا أو جماعة, بل هو فكرة حب الوطن, فلا تفرقوا بين الأشخاص بالبحث عن قائد لن تجدوه, لأن مركز القوة والقيادة موجود لدي الفرد الواحد الذي يتشابك ويتعاون علي مدار اللحظة وعلي المستوي نفسه مع غيره من ملايين الأفراد.
ساحة النقاش