دوران مختلفان للإنترنت خلال شهرين فقط


في الانتخابات البرلمانية التي جرت في نوفمبر الماضي كان دور الإنترنت تائها ضائعا هامشيا غير محسوسا‏,‏ وفي ثورة‏25‏ يناير كان دورها جوهريا وكاسحا وصانعا للحدث‏.

 

فما الذي تغير خلال شهرين؟ وكيف انتقلت الشبكة من هامش الانتخابات إلي قلب الثورة‏,‏ ولماذا تغيرت من دور المتابع والراصد للأحداث إلي صانعها وحاضنها ومحركها.

في المشهد البائس الذي حدث خلال الانتخابات البرلمانية التي لطخت كل من شارك فيها بالعار‏,‏ كنا بصدد‏'‏ عملية‏'‏ تسند إلي إطار تشريعي وإجرائي معقد وطويل وموروث ومدجج بمنظومة بلطجة تضرب بأطرافها في الأمن والسياسة والاقتصاد والإعلام والجهاز البيروقراطي العتيق وتمسك بتلابيب الدولة وتضع مفاتيح العملية علي الأرض في أيديها كاملة‏,‏ بدءا من تلقي بيانات الناخبين وتسجيلها وفهرستها وإعدادها في الجداول‏,‏ ومرورا بعمليات التصويت التي تتم ورقيا‏,‏ وما يصاحبها من إجراءات تزوير وتغيير لإرادة الناخبين‏,‏ وانتهاء بالتلاعب في البيانات والمعلومات الحاملة لرغبات الناخبين والتي عبروا عنها خلال التصويت‏,‏ ثم عمليات الفرز والإحصاء وإعلان النتائج‏,‏ وزاد علي ذلك أن منظومة البلطجة لم تتعامل مع التكنولوجيا والإنترنت باعتبارها فكرا جديدا وفلسفة مختلفة في إدارة العلاقة مع المواطن‏,‏ بل باعتبارها مجرد أداة تحقق قدرا من التجميل السطحي في صورتها أمام الجماهير والعالم مجاراة‏'‏ لموضة‏'‏ التكنولوجيا‏,‏ دون المساس بما ورثته من سلطة أو ما تطبقه من طرق ومنهجيات في الأداء أو تعتنقه من رؤي لحقوقها وواجبات المواطن‏.‏
هذا الوضع البائس جعل التوظيف السياسي لأدوات التكنولوجيا في الانتخابات البرلمانية أشبه بمحاولة زرع أطراف صناعية باهرة المواصفات حديثة الإمكانات في جسد شبه ميت‏,‏ إذ كيف نتوقع توظيفا مؤثرا لأدوات التكنولوجيا والناخب لا يجد كشوفا وجداول للناخبين معدة إعدادا سليما مستندا إلي أدوات التكنولوجيا المختلفة‏,‏ كقاعدة بيانات الرقم القومي‏,‏ ومنشورة نشرا سهلا ميسرا عبر مواقع رسمية موثوق بها بالإنترنت؟
وكيف نتوقع توظيفا مؤثرا والمرشح لا يستطيع استخدام التكنولوجيا في الوصول إلي أبسط البيانات الخاصة بناخبيه؟ وكيف نتوقع توظيف مؤثرا للتكنولوجيا وعملية التصويت تقوم في غالبية مراحلها علي منهجيات وأدوات وإجراءات تخاصم التكنولوجيا أصلا‏,‏ وترفض القبول ببناء منظومات معلومات سليمة وصحيحة تدير عملية التصويت من بدايتها إلي إعلان النتائج‏.‏
بعبارة أخري كان البناء الخلفي والبنية التحتية التي تدير العملية الديمقراطية والانتخابات غير داعمة وغير مهيأة تهيئة سليمة من أجل انجاز توظيفا سياسيا وديمقراطيا مؤثرا للتكنولوجيا والإنترنت‏,‏ الأمر الذي جعل معظم حالات التوظيف قاصرة علي الحلقة الضيقة من النشطاء السياسيين والمحيطين بهم‏,‏ وعلي مستوي الأداء والوظيفة جعل الأمر مقصورا علي ما أطقلنا عليه‏'‏ قرع الطبول‏',‏ كالمقالات الزاعقة والتقارير المصورة والفيديوية والمناقشات الحامية‏,‏ وغيرها من الفعاليات التي تجري في حالة أو آلية واحدة من آليات الديمقراطية هي حرية التعبير والمحاسبة بالمكاشفة‏.‏
في ثورة‏25‏ يناير كان الأمر جد مختلف‏,‏ فكل شيء في متناول كل شخص‏,‏ فالثورة لا تحكمها قوانين ولا قواعد إجرائية ولا أي ترتيبات يحتاجها الثائرين من منظومة البلطجة المنتشرة في الأمن والسياسة والاقتصاد والإعلام‏,‏ لأنها ـ أي الثورة ـ جري تحضيرها وتخطيطها في الفضاء الالكتروني بأدوات كانت كليا خارج نطاق منظومة البلطجة‏,‏ مثل شبكات التواصل الاجتماعي والقوائم البريدية والمدونات ومواقع الاخبار والمنتديات والساحات الالكترونية‏,‏ وعندما نضجت الأمور ووصلت إلي المرحلة التي تناسب الانتقال من الفضاء الالكتروني إلي الفضاء الواقعي‏,‏ جري النزول إلي الشارع الذي لا تملك منظومة البلطجة السيطرة عليه كما هو الحال مع لجان الانتخابات‏,‏ ولأن الأهداف كانت نبيلة والنوايا صادقة‏,‏ جرف الشباب كل شيء قابلهم وأطلقوا مارد الثورة من القمقم‏,‏ ليس بينهم فقط ولكن لدي قطاعات واسعة من الشعب‏.‏
في هذه الأجواء قام الثوار بتوظيف الإنترنت في جميع المسارات التي حرموا منها أثناء الانتخابات‏,‏ وقد أبدعوا في هذا الأمر ووصلوا إلي درجة ربما تكون غير مسبوقة دوليا‏.‏
وفي ضوء تحليل سريع لمحتوي عينة لا بأس بها من المجموعات والصفحات الشخصية علي الفيس بوك والحسابات الشخصية علي تويتر وقنوات بث الفيديو علي يوتيوب وبعض المواقع الإخبارية والمدونات وغيرها من قنوات بث ونشر المحتوي علي الإنترنت خلال الفترة من الأول من‏1‏ إلي‏25‏ يناير استطيع القول أن شباب ثورة‏25‏ يناير كان عبقريا ومبدعا في التوظيف السياسي للإنترنت علي المحاور التالية‏:‏
‏-‏ التخطيط والتنسيق‏:‏ وفي هذا المسار استخدم الشباب الإنترنت كبنية تحتية لإطلاق ونشر الدعوة إلي مسيرة‏25‏ يناير والتسنيق فيما بينهم من حيث الاتفاق علي الموعد ومسارات المسيرة ونقطة التجمع في ميدان التحرير‏,‏ وفي هذا المسار لجأ الشباب إلي كل من المدونات والتعليقات علي الأخبار داخل المواقع الإخبارية كخيار أساسي في نشر الدعوة‏,‏ ثم تزايد الاعتماد علي الفيسبوك بعد ذلك‏.‏
ــ التجنيد والحشد‏:‏ وقد زاد توظيف الإنترنت في هذا المسار بعد يوم‏18‏ وبلغ الذروة أيام‏23‏ و‏24‏ وصباح‏25,‏ وتصدر المشهد فيس بوك وتويتر وتراجعت قليلا المدونات وتعليقات الأخبار‏,‏ وقد أثبتت أحداث‏25‏ وما بعده انه كانت هناك براعة في استخدام الإنترنت كوسيلة من وسائل التنظيم والحشد الجماهيري‏,‏ من خلال ما تتيحه الإنترنت من إمكانات للتواصل اللحطي كغرف الدردشة وبث الرسائل الإلكترونية الفورية‏.‏
ــ التشبيك والترابط‏:‏ ظهرت براعة الشباب في إدخال الإنترنت كوسيط مهم وحيوي في بناء نوع من التنظيم الأفقي الشبكي للجماهير المشاركة والفاعلة في المسيرة‏,‏ ولجأوا في ذلك إلي التوظيف المتزامن لقنوات نشر المحتوي المختلفة معا في توقيت واحد‏,‏ حيث كانت الرسائل والمعلومات تتداول عبر الفيسبوك وتعليقات الأخبار والمنتديات ورسائل تويتر‏,‏ الأمر الذي مكن الأعداد الهائلة من المستخدمين المنضوين كأعضاء في هذه القنوات من الحفاظ علي الاتصالات مع بعضها البعض ومع أعضاء المجموعات والصفحات والقنوات الأخري المساندة‏,‏ فنجح الشباب في إدارة انشطتهم بأسلوب لا مركزي عبر الانترنت والتنسيق بينها أفقيا بصورة متشابكة مترابطة‏,‏ وهنا قامت الإنترنت بما يمكن أن نطلق عليه‏'‏ الجهاز العصبي الرقمي‏'‏ للتشبيك والربط بين المشاركين في مسيرة الثلاثاء‏.‏
‏5‏ ــ إدارة الفعاليات الميدانية‏:‏ برز هذا المسار بصورة واضحة يوم‏25‏ يناير‏,‏ وتصدره موقع تويتر المشهد متفوقا علي غيره بمراحل‏,‏ لكونه القناة الأبرز التي بإمكانها توفير اتصالات ميدانية وشبكية في وقت واحد أثناء المسيرة ذاتها‏,‏ ويشير التحليل المبدئي للأرقام الخاصة بالأنشطة التي تمت علي عينة حسابات تويتر التي تمت مراجعتها ان معدل الرسائل المنتجة قد تضاعف عدة مرات في ذلك اليوم‏,‏ فيما لم يسجل فيس بوك والمدونات وتعليقات الأخبار طفرة مماثلة في إنتاج المحتوي‏.‏
ــ التنقيب عن المعلومات‏:‏ قام الشباب بجهود محمومة وفي كل الاتجاهات بحثا عن المعلومات التي تدعم وجهة نظرهم وتبرر الدعوة إلي الخروج في مسيرة‏25,‏ وخلال الفترة من‏1‏ الي‏25‏ يناير تراكم لدي مجموعات الفيس بوك والمدونات وغيرها كما كبيرا من المعلومات المتعلقة بأوضاع مصر الصعبة والممارسات الخاطئة لحكامها ومسئوليها وأحوال شعبها ومعاناته‏,‏ وفي هذه المرحلة برزت أفلام يوتيوب كواحدة من القنوات التي شهدت زيادة كبيرة ويكفي أن نعلم أن يوتويب استقبل في يوم‏24‏ يناير حوالي‏12500‏ لقطة فيديو جديدة من مصر‏.‏
وتقودنا هذه الشواهد المبدئية إلي القول بأننا أمام شريحة من مستخدمي الإنترنت في مصر‏,‏ تقدر بمئات الألوف‏,‏ باتت تقبل بمبدأ التوظيف السياسي لأدوات التكنولوجيا‏,‏ وتأتي في ذلك بممارسات تطفو علي السطح في صور متعددة‏,‏ كمتابعة أو تبادل للمعلومات أو تعبير عن الرأي ثم تتجاوز هذه الممارسات السابقة ويصل إلي مرحلة أكثر نضجاكا‏,‏ لاقتناع بفكرة والدخول في معترك نشرها والدفاع عنها عبر الفضاء الرقمي‏,‏ وتحمل الأعباء المترتبة علي ذلك‏,‏ وعلي عكس ما كنا نتصور في السابق فإن أغلبية هذه الشريحة لم يعد دورها ينتهي بالجلوس أمام شاشات الحاسب ووصلات الانترنت‏,‏ ليدونون رأيا أو يتابعون خبرا‏,‏ أو يعترضون وينتقدون ويهاجمون ويوافقون ويرفضون‏,‏ وينفسون عن غضبهم كما يشاءون‏,‏ بل تجاوز ذلك إلي ترجمة مواقفهم‏'‏ التخيلية في الفضاء الإلكتروني‏'‏ إلي فعل ميداني علي الأرض‏,‏ بدأ بمسيرة ضخمة يوم‏25‏ إبريل وانتهي بثورة قلبها ميدان التحرير‏.‏

 

azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 107 مشاهدة
نشرت فى 15 فبراير 2011 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,624,321