بقلم:د. محمد عبدالشفيع عيسي
لشعب يريد تغيير النظام.. شعار من أهم شعارات ثورة الشباب في52 يناير.. فماذا يقصد بالنظام حقا؟ أن مصطلح النظام له تعريفات متعددة, خاصة في ضوء عمومية المصطلح في الحقل التداولي باللغة العربية, فقد يراد به لدي البعض مجرد ترتيب لعناصر القوة في مجال معين.
ا هو في الغالب المجال السياسي كمقابل الإنجليزية,order, وقد يصبح دالا علي حقيقة أكثر تناسقا وانسجاما مرادفا للنسقSystem, وقد يطلق مصطلح النظام علي منظومة الحكم كمقابل الإنجليزيةRegime, وقد ينتقل من هذا المعني الضيق إلي معني بالغ الاتساع هو النظام الاقتصادي الاجتماعي السياسي, وما بينهما عدد من المعاني متفاوتة الضيق والسعة.
ونبادر إلي القول إننا نعني بالنظام, كما فهمناه من شعارات الحركة الشبابية الشعبية, ذلك المعني الواسع, أي النظام الاقتصادي الاجتماعي السياسي, ووفقا لهذا المعني الذي نتبناه, نحاول تفصيل بعض أركانه, بدءا من القول إن الشباب العربي في مصر يريد تغييرا جذريا ـ راديكاليا ـ في بنيان الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.. أي أنه ـ كما نفهم ـ يريد تغييرا ثوريا شاملا, يريد ثورة كاملة.
ولأغراض التحليل فقط فإننا بتجزئة المصطلح المعقد نظام اقتصادي اجتماعي سياسي إلي مكوناته الأولية: المكون الاقتصادي, والاجتماعي, والسياسي. ولسوف نبدأ بالمكون الأخير, السياسي, ويتلوه الاجتماعي ثم الاقتصادي.
فماذا يعني تغيير النظام السياسي المصري هنا؟.
إن أول حلقة من حلقات النظام السياسي هو الإطار الدستوري, أو النظام الدستوري, ونريد أن نقدم اجتهادنا في هذا الشأن فنقول إن ترجمة شعارات الحركة الشبابية الراهنة, ترجمة ثورية, تنصرف إلي تبني نظام دستوري مختلف تماما عما شهدته مصر طوال قرن تقريبا.
ففي الفترة منذ صدور دستور3291 ـ بطريقة المنحة, كما يطلق عليها في كتابات القانون الدستوري حتي ثورة32 يوليو2591, كان نظام الحكم الدستوري يرتكز إلي توزيع للسلطة بين عدة محاور هي الملك, والبرلمان, ومجلس الوزراء أو الحكومة.. وكان توزيع السلطة بين هذه المحاور يعكس حقيقة سياسية أعمق, هي السيطرة الثلاثية للاستعمار البريطاني والقصر الملكي والإقطاع الزراعي.
واعتبارا من32 يوليو2591, خاصة منذ حسم صراع السلطة في غمار ما يسمي بأمة مارس4591, وبصفة أخص منذ الاستفتاء علي رئاسة الجمهورية لأول مرة في عام6591, وصدور دستور6591, أخذ يتبلور نظام دستوري رئاسي يتمحور من حول الشخصية الاستثنائية لجمال عبدالناصر, وكان الدور الهائل لهذه الزعامة الاستثنائية يملأ فراغ القوة, وفضاء السلطة السياسية, بشكل كلي تقريبا.
وبرحيل الشخصية الاستثنائية لجمال عبدالناصر في82 سبتمبر0791, كان يفترض استبدال النظام الدستوري الرئاسي, الذي استمد مبرره من الموقع الزعامي, إلي نظام آخر ينقل مركز السلطة من رأس السلطة التنفيذية ـ رئيس الجمهورية لتثبيت سلطة رأس الدولة من خلال الرجوع المظهري إلي الشعب.. وتم تسليح هذه المنظومة الرئاسية التي يمكن وصفها بالاستبدادية, بمنظومة تشريعية كاملة, تبدأ من( قانون الطوارئ) أو ما يسمي ذلك, ولا تنتهي إلا وقد أحاطت بمفاصل النظام الدستوري كله. وقد ورثت مصر منذ1891 هذا النظام الدستـ إلي محور معبر عن توزيع تعددي متوازن للقوة, يعوض فقدان الزعامة ويستجيب لتطلعات المجتمع الذي جري تكونه تكونا جديدا خلال عشرين عاما تقريبا.
ولكن بدلا من ذلك, فإن دستور1791 استمر في تبني النظام الرئاسي, بل وخلع علي منصب رئيس الجمهورية سلطات إضافية مستمدة من نظرية الضرورة, وجعله الحكم بين السلطات, كرس آلية الاستفتاء الشعبي العام كأداةوري المسلح بالأحكام العسكرية لقانون الطوارئ, والذي تم تكريسه سابقا ـ في عهد السادات ـ بإطلاق مدد رئاسة الجمهورية, وتثبيته لاحقا ـ في عهد مبارك ـ من خلال مجموعة شروط الترشح لرئاسة الجمهورية, بعد تحويل آلية تولي المنصب من الاستفتاء إلي الانتخاب التعددي, بحيث جعلت من المنصب المذكور حكرا علي الدائرة المغلقة للمجموعة الحاكمة المحصنة شكليا من وراء تنظيم سياسي متمركز حول السلطة التنفيذية, هو الحزب الحاكم المسمي بالوطني الديمقراطي, والذي يرأسه الرئيس الأعلي للسلطة التنفيذية, رئيس الجمهورية.
وإذ تتطلع مصر, بعيون شبابها, الآن إلي تغيير شامل في النظام السياسي, بدءا من النظام الدستوري, فإن الأمريقتضي إحداث تحول جذري في بنية النظام, من خلال الانتقال من النظام الرئاسي إلي النظام البرلماني. وهذه نقطة جد مهمة لم نجد لها ذكرا واضحا في النقاش العام الجاري حاليا, والذي يتركز فيمايبدو حول تغيير داخل الصيغة الرئاسية ذاتها. ودون الدخول في تفاصيل مايقصد بالنظام البرلماني, ممايجب أن يتولاه فقهاء القانون الدستوري خلال الفترة المقبلة, فإن المطلوب هو توزيع جديد للقوة داخل النظام السياسي, بحيث يصبح البرلمان المنتخب بطريقة التمثيل النسبي غير المقيد, مع كفالة حرية التمثيل السياسي لغير المنتمين للتنظيمات السياسية ـ إلا من يسمون بالمستغلين. وتنبثق من البرلمان حكومة ـ وزارة أو مجلس وزراء ـ تمثل القوي ذات الثقل الأكبر في الهيئة النيابية, في أشكال يفرضها الواقع المتغير لبناء القوة السياسية في المجتمع. وتصبح الحكومة المنبثقة من البرلمان مسئولة أمامه, مسئولية جماعية ومسئولية فردية كذلك, بحيث يحق للبرلمان سحب الثقة من الحكومة كلها أو بعض أعضائها, ومساءلتها مساءلة جدية من باب أولي, كمايمكن بموافقة البرلمان, اجراء انتخابات مبكرة حينمايفقد البرلمان نفسه مبرر وجوده. أما رئيس الدولة فإنه يصبح رمزا للسيادة, وتصبح سلطاته الدستورية منحصرة في تولي اختصاصات ذات طابع تنسيقي لتشغيل مكونات الآلة الدستورية الجديدة.
وما أشد احتياج مصر في هذه المرحلة إلي النظام البرلماني الذي يعكس إرادة الشعب, وينزع عن رئيس الدولة تلك الهالة الأسطورية التي تحيط بمن يستحق ومن لا يستحق بغير موجب من مؤهلات قيادية أو زعامة حقيقية.
أما البرلمان فإنه يجب أن يحاط تشكيله بجملة ضمانات تجعل عملية الاقتراع تعبيرا حقيقيا عن الصوت الشعبي, ولكي يتم ذلك فإن هناك ضمانتين أساسيتين:
ـ الضمانة الأولي هي بناء الحياة السياسية بطريقة تكفل حرية تمثيل الإرادة الشعبية تنظيما, وأول عناصر هذه الطريقة: الفصل بين الأحزاب السياسية وجهاز الدولة.
ويتضح في ضوء ذلك, العوار البادي في اختلاط الحزب الحاكم ـ في ظل عهد مبارك ـ بجهاز الدولة, من قمة الرأس إلي أخمص القدم, مما يهدر حرية وفاعلية الحياة السياسية إهدارا تاما.
ـ الضمانة الثانية هي توفير فرصة العيش الكريم لكل أبناء المجتمع, بحيث لا تصبح بطاقات الانتخاب رهينة لرغيف الخبز, ويتحقق ذلك من خلال نظام اقتصادي واجتماعي جديد, يلبي الاحتياج المجتمعي إلي التنمية الشاملة والعدالة الاجتماعية.
ساحة النقاش