بقلم: د. محمد السعيد إدريس
انتصرت الثورة, وانتصر معها كفاح الشعب المصري من أجل العدل والحرية والكرامة الوطنية.وبانتصار الثورة من خلال التحالف التاريخي بين الشعب المصري وجيشه نبدأ عهدا جديدا من عمر مصر المديد.
عهد ينبئ بعودة مصر إلي شعبها وإلي أمتها وإلي دورها القيادي من اجل التأسيس لمشروع نهضة عربية تبدأ من مصر وتنطلق منها بعد أن ظل المشروع العربي غائبا لعقود طويلة في وقت تشهد فيه البيئة الإقليمية تنافسا يصل أحيانا إلي درجة الصراع بين ثلاثة مشاريع إقليمية كبري هي المشروع الصهيوني الإسرائيلي والمشروع الإيراني والمشروع التركي, وفي وقت يشهد فيه العالم تنافسا هائلا بين القوي الدولية العظمي والكبري علي فرض النفوذ في الإقليم الذي ننتمي إليه.
وإذا كان الرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي قد علق علي انتصار ثورتنا بأن هذا هو الشئ الطبيعي من مصر, اعترافا منه بحضارة مصر وعظمتها فإن ما جاء علي لسان الرئيس الأمريكي باراك أوباما بأن مصر الآن قوة عالمية وهي شهادة لم تحظ بها غير الهند عندما زارها أوباما منذ أشهر ثلاثة هو شهادة جدارة تستحقها مصر.
شهادة الجدارة هذه قالها الشباب المصري ليلة انتصار الثورة في كل ميادين وشوارع مصر, كانوا يغنون وينشدون ويقولون بصوت هادر ارفع رأسك فوق انت مصري, ولكي نحقق ذلك فإننا يجب أن نبدأ مشروعا هائلا للبناء, أن نعبر أولا المرحلة الانتقالية بكفاءة واقتدار معتمدين علي ثقة واحترام بلا حدود بين الشعب وجيشه الوطني, وأن نؤسس ثانيا لنظام سياسي جديد يحقق للشعب المصري ما أراده بثورته; ان يحقق العدل بكل صوره ومعانيه القانوني والاجتماعي والاقتصادي والسياسي, وأن يحقق الحرية للوطن والمواطنين, ان يكون الوطن حرا عزيزا مستقلا وليس تابعا لأحد, أن نضع نهاية لمشروع التبعية الذي فرض علينا وان يحقق للوطن استقلاله وسيادته, وان يكون قرارنا نابعا من داخلنا وليس مفروضا علينا, وأن يحقق الكرامة للوطن والمواطنين, وان نبدأ من هذا كله مشروع التقدم والنهضة, التقدم الاقتصادي والتكنولوجي والعلمي والتعليمي والثقافي.
لكن هذا البناء الذي نحتاجه ونريده يجب ان يبدأ علي أسس قوية ومتينة, وهذا لن يتحقق الا بعد هدم وإسقاط الطواغيت الثلاثة التي أوصلتنا الي كل ما قد وصلنا اليه قبل تفجر ثورتنا يوم الخامس والعشرين من يناير وهي طاغوت القهر والاستبداد, وطاغوت الفساد, واخيرا طاغوت التضليل.
كانت البداية هي وأد مشروع التحول الديمقراطي الذي بدأ في عهد الرئيس السادات شكليا ومقيدا في ظل تعددية جامدة حالت دون تداول السلطة واحتكرتها ليس في حزب الرئيس أو في حكومة الرئيس كما كان يروج لكنها احتكرتها في شخص الرئيس, ولم تكن الحكومة ولا الحزب الحاكم إلا مجرد واجهات لإرادة منفردة هي ارادة الرئيس, لم يكن رئيس الوزراء أو أي وزير قادر علي ان يتحدث, وليس ان يفعل, الا بعد ان يؤكد ان ما يقوله ليس الا طبقا لتوجيهات السيد الرئيس, تحولوا جميعا الي دمي وعرائس يتلاعب بها السيد الرئيس كيفما يشاء. ولم يكن حال احزاب المعارضة, التي قيل انها معارضة, الا مجرد غطاء شكلي لأحزاب وهمية وديمقراطية كاذبة, لم يتح لاحزاب حقيقية شعبية ان تحصل علي الشرعية, أعطوا شرعية وهمية لاحزاب وهمية, تحولت الي مجرد ديكور لديمقراطية لم يتح لهم منها الا حق الكلام, مجرد الكلام, دون المشاركة الحقيقية في صنع القرار.
وهكذا حدث ما يسميه علماء السياسة بـ شخصنة السلطة أو شخصنة الحكم حيث يتركز الحكم والسلطة في يد رجل واحد استطاع ان يفرض نفسه بالتزوير لمدة ثلاثين عاما حاكما اوحد لمصر رغم انف ارادة شعبها, بعد ان حول الدولة الي دولة تسلطية تعتمد بشكل مفرط علي الامن, الذي تحول الي اداة قهر للمواطنين واداة لحماية الرئيس واركان حزبه, وأصبح الاستثمار في الأمن له كل الأولوية علي كل استثمار محميا بفرض حكم الطوارئ علي مدي سنوات حكمه.
وهكذا عاشت مصر احتكار السلطة وشخصنتها, وتحولت إلي دولة بوليسية, للشرطة ورجالها فيها كل الأولوية والحظوة, وأصبح هم الذين يحكمون وفرضوا وجودهم في كل مجال, هم من يقودون حزب الحكومة, من يختارون المرشحين للانتخابات ومن يقومون بإنجاحهم, من يختارون الوزراء والوكلاء والمديرين, هم من بيدهم كل شئ ورجالهم وأعوانهم هم القادة وحدهم في الجامعة وفي الصحافة والإعلام وفي المحليات في كل شيء ووسط هذا كله غاب أمن الشعب, ولم يعد للشرطة دور في تحقيق أمن المواطن, بعد ان تحول الأمن الي امن الرئيس, وأصبح الشعب والشرطة معا مسخرين لحماية الرئيس ونظام الرئيس.
ثم جاءت الطامة الكبري بظهور مشروع التوريث وبدأ العبث بالدستور وانتهاكه, وهو الدستور الذي حرص الرئيس واعوانه في السنوات الأخيرة أن يحتمي به من هدير الثورة متمسكا بما أسماه الشرعية الدستورية. وعاشت مصر طيلة السنوات الثماني الماضية وبالتحديد منذ عام4002 رهنا لأحد خيارين; إما التمديد للرئيس, وإما توريث ابن الرئيس, وجري توظيف الأمن وخطر الفوضي وعدم الاستقرار لفرض احد هذين الخيارين تحت ضغوط شعار إما الاستمرار وإما الفوضي, او اما الإخوان وإما جمال حيث جري استخدام الإخوان فزاعة للمصريين وللعالم لفرض التوريث إذا تعذر التمديد.
وارتبط ما سبق بزواج السلطة مع رأس المال, حيث اعتمد النظام علي رجال الأعمال لتولي السلطة, وبوصول رأس المال إلي الحكم أصبح الفساد ونهب الثروات هما النتيجة الحتمية لاحتكار السلطة والثروة.
احتكار السلطة والثروة لم يكن له أن يتحقق إلا في ظل طاغوت التضليل الذي استطاع أن يمكن الحكم من الاستمرار, وأن يهيئ المناخ المناسب لشيوع الفساد في ظل سيطرة الحكم علي الإعلام الرسمي من صحافة وإذاعة وتليفزيون ومن خلال دخول رأس المال إلي مجال صناعة الإعلام, حيث أصبح في أيدي رجال الأعمال إعلامهم الذي يحميهم ويروج لهم.
لقد نجح الحكم من خلال سيطرته علي الإعلام عبر امتلاك حق اختيار وتعيين رؤساء مجالس الإدارات ورؤساء تحرير الصحف ورؤساء التليفزيون والإذاعة أن يحول الزيف إلي حقائق, وأن يضلل وعي الشعب وأن يمتهن عقل الناس, عبر إعلام كاذب ومخادع ومزور لكنه أيضا فاجر في الفساد, ويكرس الاستبداد.
لذلك فإن مشروع بناء مصر الحرة والديمقراطية, مصر العدالة والحرية والكرامة والتقدم لا يمكن له ان يتحقق الا بإسقاط هذه الطواغيت الثلاثة اسقاط طاغوت الاستبداد والقهر عن طريق بناء نظام حكم ديمقراطي وتحويل الشرطة إلي أداة أمن وأمان لشعبها وحماية لوطنها عبر مشروع سياسي ثقافي بات حتميا وضروريا, وإسقاط طاغوت الفساد بتأسيس نظم مراقبة وشفافية وتمكين السلطتين التشريعية والقضائية من مراقبة ومحاسبة السلطة التنفيذية, ومن خلال إطلاق الحريات السياسية خاصة حرية تكوين الأحزاب وحرية الإعلام ونزع يد الحكم عن الإعلام, وجعل الإعلام الرسمي وطنيا بالمعني الواسع وليس بمعني الولاء للرئيس وحزبه, حتي يعود الولاء لمصر وحدها, وأن تعود السيادة لشعبها ومن هنا فقط نستطيع أن نبدأ.
المزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش