بقلم: د. عمرو عبد السميع
العبارة الواردة في البيان رقم(3) للمجلس الأعلي للقوات المسلحة مساء الجمعة الفائتة والتي تنص علي أن:الجيش ليس بديلا عن الشرعية التي يرتضيها الشعب تحتاج إلي دراسة متأنية وتأمل طويل, فإذا كان معناها الاقرار بأن شرعية( ثورية) بدأت حين تولت المؤسسة العسكرية.
إدارة البلاد بعد سقوط شرعية النظام السابق فانها تعني كذلك ـ وطبقا لمنطوق البيان ــ أن الجيش والشعب في شراكة( لن تنفض أبدا) يتحركان نحو بناء شرعية( دستورية) جديدة عبر مجموعة من الإجراءات والتدابير أشار إليها البيان المذكور.
يعني سننتقل ـ مرة أخري إلي( شرعية دستورية) يرتضيها الناس, ولكن الجيش ـ في تقديري ينبغي أن يظل علي شراكته للشباب في إطار الشرعية الجديدة, باعتبارهما القوتين الحقيقيتين اللتين ترافقت جهودهما ـ كل من موقعه وبحسب طبيعته ـ في إطاحة نظام يتكشف فساده وتآمره علي مقدرات البلد في كل لحظة.
القراءة الأولية لحدث الثورة الذي امتد من52 يناير إلي11 فبراير تقول إن الناس ـ وطليعتهم من شباب الثائرين ـ لم يستأمنوا غير القوات المسلحة علي إدارة شئون البلاد, وصوغ وترتيب الخطوات التنفيذية للانتقال من نظام إلي نظام آخر.
ولعلي قبل المضي قدما في هذه السطور أشير إلي مقالي السابق ـ هنا ـ والذي جاء بعد أيام أربعة من أحداث الجمعة82 يناير, وكان بعنوان:( الجيش), وقلت فيه إننا استدعينا القوات المسلحة بعد فشل سياساتنا الاجتماعية/ الاقتصادية, وعجزنا عن بناء برلمان يمثل المجتمع علي نحو حقيقي ومتوازن, وأن الجيش لابد أن يبقي.
إذ ما إن نزلت الدبابات والمصفحات ووحدات المشاة إلي الشارع حتي بدأ بعض المتحذلقين الحديث عن إعادة الجيش إلي الثكنات ليقودوا ـ هم ـ فعل التغيير بعد تلك العودة بمنأي عن المؤسسة العسكرية.
وقلت إن القوات المسلحة شريك في فعل التغيير, ولا يعقل أن تعود قبل اتمامه, فقد أصبح لها دور في تشكيل السياسات, وهو دور دائم وليس اسهاما بالقطعة, إذا جاز التعبير.
وحتي ومع حساسية الجيش ألا يبدو طالب حكم وتأكيده كما ذكرت في البيان رقم(3) أنه سيسعي لتحقيق الشرعية التي يرتضيها الشعب ـ فانه صار منذ52 يناير طرفا أساسيا في حماية( التطور الديمقراطي) وسعي البلد نحو( نظام مدني) ولكن ذلك لا يعني انسحاب الجيش من ساحة الحكم تماما, وانما يعني الوجود بما يساوي طبيعة الأدوار التي طلبنا من الجيش أن يكون طرفا في لعبها وتحقيق أهدافها.
البعض يحاول تصوير حضور الجيش في المشهد العام كما لو كان تقاطعا مع الديمقراطية.. وذلك التصور يمكن قبوله لو اقتصرت رؤية المؤسسة العسكرية علي تولي أمور البلاد والانتصار للشرعية الثورية, ولكن مشروع الجيش كما اتضح ـ علي نحو ليس فيه أي التباس ـ كان السعي إلي هندسة وبناء( الشرعية الدستورية) الجديدة.
حضور الجيش لم يحفظ الأمن ـ فقط ـ بعد انهيار معيب ومريب للشرطة.
وحضور الجيش لم يحم الشباب ـ فقط ـ من البلطجية والمندسين.
وحضور الجيش المنحاز للناس منذ اللحظة الأولي لم يك ـ فقط ـ قوة ضغط رمزية ومعنوية هائلة علي النظام تدفعه خطوة وراء أخري إلي التراجع أمام مطالب الثورة.
وحضور الجيش لم ينأ بنفسه فقط عن أن يكون قوة قمع, أو يطرح نفسه ـ فقط ـ بوصفه قوة حماية.
ولكن حضور الجيش صادر وأمم فرص بعض المغامرين وراكبي الموجة في الادعاء بأنهم أصحاب الثورة أو قادتها, أو تصورهم أنهم دفعوا الأحداث إلي نقطة يقفزون بعدها إلي السلطة محتلين بلاطها, ومختطفين البلد إلي وجهة غير معلومة.
رفع الجيش ـ عبر حضوره ـ شعار( الوسطاء يمتنعون) وحافظ علي الثورة لأصحابها ولأصحابها فقط, وأبقي علي كيان الدولة, فيما كانت بعض التحركات والطروح التي قادها من لا يعرفهم الشعب, ومن لا يحبهم الشعب ترمي إلي سقوط تلك الدولة.
السلطة الانتقالية أو المجلس الانتقالي وحضور رئيس المحكمة الدستورية العليا في تشكيله يعطي رسالة قوية جدا حول الطبيعة المختلفة لدور المؤسسة العسكرية في اللحظة الراهنة عن الشكل التقليدي الذي يعرفه العالم لتولي الجيش مقاليد السلطة في أي بلد. فهناك تيار من الوعي واضح جدا لدي هذه المؤسسة التليدة بطبيعة المهمة الإصلاحية التي تنهض بها الآن.
المؤسسة العسكرية تدفع نحو نظام( مدني ديمقراطي) ولكننا ـ في نفس الوقت ـ نؤمن بأن مشاركتها في هذا النظام ضرورية ولازمة وضامنة لاستقراره واستمراره.
وربما يتسع المقام ـ في هذه السطور ـ للاشارة إلي واقعة ترافقت مع حدث الثورة, وبالذات مع يوم انتصارها( الجمعة الفائتة) وهي تشييع الفريق سعدالدين الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة الأسبق, وبطل حرب أكتوبر الذي طال انكاره, وظلمه ممن ارادوا( احتكار) حدث الحرب و(خصخصته) بلغة أربابهم من رجال الأعمال إذا جاز التعبير.
إذ شاهدت الموكب الجنائزي للرجل من شرفة منرلي الملاصق لمسجد الصديق بمصر الجديدة حيث كان التشييع.
سرية صغيرة من الشرطة العسكرية ونسق من ستة ضباط يمثلون أفرع الجيش حول عربة جيب حملت النعش الملفوف بعلم القوات المسلحة.
وفوجئت بجموع المشيعين الشعبيين ـ الذين فرغوا لتوهم من شعائر صلاة الجمعة ـ ينفجرون بالهتاف:( لا إله إلا الله.. الشاذلي حبيب الله)..( هوه البطل الحقيقي), وقد لفتتني مصادفة التوافق بين رحيل الشاذلي محاطا بالناس الذين هتفوا له, ورحيل رأس النظام السابق في نفس اليوم محاصرا بالناس الذين هتفوا ضده.
والمعني الذي أبغي ايراده بالاشارة إلي تلك الواقعة أن الشعب يعرف قدر القوات المسلحة ورموزها الحقيقيين حتي بعد مرور73 عاما علي حرب أكتوبر, وحتي لو تعرضوا للحصار والحجب ومحو اسهامهم التاريخي من علي لوحة بانوراما الحرب.
ولكن ذات الشعب يفصل ـ تماما ـ بين الجيش وممارسات الرئيس السابق التي لا علاقة لها بالمؤسسة العسكرية, علي الرغم من حرصه علي التدثر بغطاء العسكرية حتي لحظة خطابه الأخير.
الجيش ـ عند الناس ـ لا يعرف الفساد أو سوء الإدارة
الجيش لا يورث القيادة لأبناء قياداته.
الجيش لا يحتضن رجال الأعمال قاتلي الفنانات.
الجيش لا يختزل مقدرات الدولة في مصالح أوليجاركية صغيرة من عيال متغطرسين تياهين بقوة طارئة وفرتها لهم قدرتهم الهجامة التي انتزعت ما ليس من حقهم.
الجيش لا يغتال المعايير, ولا يقوم بتصعيد أرباع الموهوبين والميديوكراتية إلي مواقع التحكم والسيطرة, فالجيش يحكمه مبدأ( التأهيل) بمعني العلم, ومبدأ( التشكيل) بمعني الخبرة الميدانية والعملياتية.
الجيش لا يتدرع بدروع صحافة وإعلام كاذبين مزيفين شريكين في الفساد موليا علي أمورهما بعض الجهلاء والمحدودين الذين اختاروا معاداة الشعب, وتبنوا أحط المواقف التي تحدت إرادة الناس, وكانوا خدما لطبقة رجال الأعمال الفاسدة الاستلابية, في مقابل اغتراف الملايين من أموال الشعب, علي نحو كان مثار تأذي الجماعة الصحفية والإعلامية واحساسها بالاحباط واليأس, ولعل مشهد طرد أحد رؤساء مجالس الإدارة من مكتبه ومؤسسته الصحفية في شارع قصر العيني يشي بحجم الغضب الذي ساد بين العاملين في ساحة تلك المهنة النبيلة بعد أن عاشوا اهانتها المتمثلة في وجود هؤلاء علي مقاعد القيادة في مؤسسات الإعلام والصحافة.
الجيش لا يسمح بتغييب العدل أبدا لأن قيادته مئات الآلاف من جنوده, والدفع بهم إلي تلبية نداء الواجب ـ الذي ربما يعني في لحظة بعينها ـ الموت في سبيل الوطن والشعب ـ هو أمر يحتاج إلي انتماء فرد الجيش إلي مؤسسته, وغني عن البيان أن الانتماء يشحب ويغيب إذا غاب العدل.
ربما كانت تلك هي المعاني التي استولدها في نفسي الموكب الجنائزي الذي زف روح سعدالدين الشاذلي إلي السماء مصحوبا بالدعاء, ومرافقته لحظة انتصار الثورة التي شيعت رأس النظام السابق خارج الزمن ملاحقا بالغضب.
الناس تعرف الجيش الحقيقي, ولا تري النظام السابق تمثيلا للجيش, فهو نظام رجال الأعمال والفساد, والتبعية لا الاستقلال, والتخلف لا التنمية, والظلامية لا التنوير بمعاني كل هذه المفاهيم الحقيقية, وليس بما اخترعته أبواق النظام من ترجمات وتفسيرات لها.
وهنا نفهم ـ جيدا ـ لماذا استأمن الشباب وجموع الشعب القوات المسلحة وليس غيرها علي إدارة شئون البلاد, وحملها مسئولية السعي نحو بناء نظام( مدني ديمقراطي).. وهنا أيضا ـ نفهم لماذا نطلب أن يكون حضور الجيش جزءا من عملية هذا الحكم( المدني الديمقراطي) كمسألة ضرورية, فهو المؤسسة التي أحبت الشعب وأحبها, وتشنجت أكف وأذرع قادتها بأداء التحية العسكرية عند ذكر أرواح شهداء52 يناير, كما ـ بالضبط ـ يفعلون عند ذكر شهداء حرب أكتوبر, وكما ـ بالضبط ـ فعل أفراد التشكيل الصغير الذي شيع سعد الشاذلي إلي المجد, فيما انسحبت الأضواء وشحبت عن صور وأسماء الذين أطاحهم الشباب في حراسة دبابات القوات المسلحة.
المزيد من مقالات د. عمرو عبد السميع<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش