بقلم: د. طه عبد العليم
قبل أربع سنوات من يوم انتصار ثورة25 يناير المصرية المجيدة, وفي مقال عن حقوق المواطنة بين الانتماء والولاء نشرته بجريدة الأهرام في11 فبراير2007, كتبت أقول:' أفضل القول: لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا' جديرا بمصر'.
! بإضافة صفة الجدارة بالمواطنة المصرية الي التعبير السابق الخالد للزعيم الوطني الشاب مصطفي كامل. ببساطة, لأن مصر- مبدعة الحضارة الإنسانية في فجرها, ومعمل التاريخ المكتوب علي امتداده- جديرة بفخر الانتماء إليها'. وقد أوضحت أسباب الفخر بمصر في مقالات:' إعادة زيارة تاريخ مصر والمصريين', و' في دحض نظرية أن مصر أطول المستعمرات عمرا!' و'في دحض نظرية خنوع المصريين', و'تكوين مصر في كتيب شفيق غربال', و'جولات سندباد مصري في رحاب التاريخ', و'مصــــر ورســــالتها'.. وغيرها من المقالات المنشورة بالأهرام, والتي يمكن قراءتها في صفحة الكتاب علي موقع الجريدة علي الانترنت.
ولا جدال أن أبناءنا الشباب, الذين فجروا ثورة الكرامة الإنسانية المصرية الراهنة, وانتزعوا فخرهم بمصرهم, قد برهنوا علي أنهم جديرون بمصر. والأمر أنهم: لم يقبلوا لها بمؤامرة التوريث المهينة في نظام جمهوري تقوضت مبادئه وأركانه حين انزلق مبارك- بمآثر صعوده التي لا ينبغي أن تنكر, وإخفاقات أفوله التي فجرت الثورة- نحو تمكين الوريث. فقد تقوضت هيبة الدولة, وانفلت الفساد مع تزاوج السلطة والثروة, حين أطلق العنان لعصبة الوريث. وقد رفض أبناء الطبقة الوسطي, التي رأت العالم من حولها واستخدمت أدوات عصر المعرفة, أن تقبع مصر في موقع الركود والتخلف, وأن يعاني المصريون من القهر الأمني والظلم الاجتماعي. ولم ينخدع صناع الثورة وقادتها بأكاذيب ما سمي بالفكر الجديد, الذي روج له المنظرون بفلسفة اقتصاد العرض أو اقتصادالتنقيط, الذي ارتبط بتجريف ثروة الأمة لصالح المنتفعين بازدواج السلطة مع ترويج وهم تساقط ثمار النمو علي الفقراء, دون اقتلاع أسباب الفقر والظلم والتخلف.
والواقع أنني قد قمت خلال السنوات الست الماضية بإعادة زيارة تاريخ' مصر والمصريين' من فجر التاريخ المكتوب وحتي العصر الراهن, في بحث حفزتني اليه محاولة الإجابة عن السؤال: لماذا تراجع ولاء وانتماء المصريين لوطنهم المصري؟ وهل ستقوم لمصر قائمة وقد تمكن اليأس من نفوس أبنائها؟ وقد وصلت بفضل البحث الي ما ذكرت من قناعتي بأن المصري لو لم يكن مصريا لكان عليه تمني أن يكون مصريا.. جديرا بمصر! رغم النيران الصديقة التي استهدفت مصر, وطنا وأمة, عن جهل أو نقص, حقد أو بغض, من الداخل ومن الخارج! وقد أضفت' صفة الجدارة' بالمواطنة المصرية الي عبارة مصطفي كامل; ببساطة, لأن مصر- رائدة الحضارة ومبدعة الضمير والأخلاق ومعمل التاريخ المكتوب- جديرة بفخر الانتماء إليها, ولأن مصر, الجديرة بالثقة في قدراتها, قد بعثت مجددا جبارة عفية رائدة كلما تصور البعض أنه لن تقوم لها قائمة, علي مدي تاريخها الألفي, الذي يخلو في كل عصوره مما يمكن أن يشين!
وأتصور أنه قد آن الأوان لتحديد المهام الملحة للثورة المصرية, علي الطريق الشاق الطويل أمامها لتحقيق شعارها' الشعب يريد بناء نظام جديد', بعد مأثرة تحقيق شعارها' الشعب يريد إسقاط النظام'. وقد ألخص هذه المهام في كلمات: المواطنة والتقدم والعدالة والريادة. ويعني تحقيق هذه المهام: بناء نظام سياسي ديموقراطي ودولة مدنية غير عسكرية وغير دينية, بدءا من إقرار دستور جديد, يحمي- ودون انتقاص- حقوق المواطنة, شاملة الحقوق والحريات والواجبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وأقصد إقامة نظام اقتصاد سوق إجتماعي, يجمع بين ضرورات الكفاءة الاقتصادية ومقتضيات العدالة الاجتماعية, بدءا من إعادة الاعتبار للمشروع القومي بتصنيع مصر وفق معايير اقتصاد المعرفة, باعتبار أن استهداف الانضمام الي عالم الدول الصناعية المتقدمة هو رافعة: تقدم مصر الاقتصادي والاجتماعي وأمنها القومي والإنساني, وإعلاء مكانة مصر العربية الإقليمية والعالمية باستعادة دورها في بناء الحضارة الإنسانية, والقدرة علي فرض السلام العادل والشامل في المنطقة, وتقديم نموذج للتقدم الشامل يحتذي للشعوب العربية.
وأوضح فأقول ما كتبت من قبل إن الجدارة بمصر تكون: بألا يقبل المصريون لها بأقل من موقع الريادة في ركب التقدم العالمي, أي المكانة التي شغلتها معظم تاريخها الألفي! وتعني: العطاء لوطن أعطي وعلم, أكثر مما أخذ وتعلم, منذ استنارت مصر الوطن بشمس العدالة, ومنذ صنع الإنسان المصري فجر الضمير, وطن وشعب لا شيء يشين تاريخهما المجيد! وفي مقالي' حقوق المواطنة بين الانتماء والولاء', قلت نصا' إن المصريين يستحقون يقينا أن يتمتعوا بحقوق المواطنة, غير منقوصة, حتي لا يبقي الانتماء لمصر مجرد مشاعر يولدها الوعي النادر بقيمتها الفريدة, وإنما انتماء معاش, يرسخه عقد بين المواطن والدولة, يترجم حقوق المواطنة إلي واقع ملموس. وقلت إن التعديلات الدستورية المعلنة لا تستجيب لحق المصريين المشروع في مثل هذا العقد الجديد, لأن الأخير يقتضي وضع دستور جديد; وهو أمر غير مطروح بواسطة الدولة, ومطلب ليس مطروحا من أسفل بواسطة المجتمع'!
وكتبت في مقال' متي يستجيب المصريون لحكامهم الوطنيين؟' أقول:' ما أكثر ما تتردد نظرية أن المصريين قد أذعنوا للعبودية قرونا طويلة واستكانوا لظلم وقمع حكامهم من الأجانب والوطنيين! لكنها نظرية تتداعي إن عرفنا أن مصر قد حافظت علي استقلالها معظم تاريخها الألفي, ولم تكن أطول المستعمرات عمرا كما يزعمون! وأن المصريين لم تنقطع ثوراتهم للتحرر الوطني, وكانوا شعبا محاربا علي مدي تاريخهم المديد! ورغم الاعتراف بصلابة المصريين النادرة وشجاعتهم الفائقة في مواجهة الإستعمار الأجنبي, برزت نظرية باطلة أخري اتهمت المصريين بسهولة انقيادهم وخضوعهم للحاكم الوطني. والواقع أن المصريون كانوا يستجيبون بسهولة لحكامهم الوطنيين ماداموا قد نهضوا بمسئولياتهم في أن يسوسوا الأمة بتعزيز القدرة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية وتوفير الأمن والحرية!' وأوجز هنا ما يستحق أن يفصل لاحقا: إن ثورات المصريين لم تنقطع علي مدي تاريخهم الألفي الفريد.
وقد كانت صيحة العدالة الإجتماعية جلية في شعار ثوارنا الشباب: تغيير, حرية, عدالة اجتماعية. وتصدي شباب الثورة لحماية مقتنيات الحضارة المصرية في المتحف المصري بميدان التحرير من الدهماء, الذين انفلت عقالهم مع تداعي النظام القديم في وقت الثورة المصرية كما في غيرها من الثورات الشعبية. وقد يتوجب أن يتذكر أحفاد صناع الحضارة المصرية الرائدة, أن شمس العدالة الاجتماعية قد أشرقت علي مصر قبل نحو خمسة آلاف ومائتي عام, حين ولد فجر الضمير بمصر في صورة أقدم فكرة عن نظام أخلاقي منذ قامت الدولة المصرية القديمة. وقد عبر المصريون عن نظامهم الأخلاقي, الذي انفرد بين الحضارات القديمة بعدم التمييز بين غني وفقير, بكلمة مصرية واحدة جامعة هي' ماعت', أي الحق أو العدل أو الصدق. وقد مكث هذا النظام راسخا مدة ألف سنة من القرن الخامس والثلاثين إلي القرن الخامس والعشرين ق. م. وحين تداعي هذا النظام سقطت الدولة القديمة, وقام المصريون بأول ثورة اجتماعية في التاريخ. وطالب المصريون مجددا ببعث' ماعت', ونالوا ما أرادوا, وبذلك سجلوا أول انتصار للإنسانية في ميدان النضال لنيل العدالة الاجتماعية والحرية الشخصية والمساواة بينه وبين الحكام الغاشمين!
وقد كتبت في مقال' اقتصاد السوق الاجتماعي خيار مصري', أقول: إن' وصفة السوق الحرة, التي بعثتها مجددا العولمة الاقتصادية... لا تعدو' بوصة' صندوق النقد وقد ألبسوها ثوب العولمة الاقتصادية لتبدو' عروسة'! كما يقول المثل المصري في تمييزه الحكيم بين تغيير المظهر واستمرار الجوهر'! ودفاعا عن خيار اقتصاد السوق الإجتماعي وبعد أن شرحت مرتكزاته قلت في ذات المقال:' إن السوق الحرة, التي يدافع عنها' أيديولوجيونا الجدد', قد شبعت موتا, نتيجة اخفاقاتها, التي دفعت الي دعوة دولة الرفاهية في أمريكا وبناء السوق الاجتماعية في أوروبا. ويبقي أن أي فكر جديد, ينطلق من حضارة مصر, التي تحققت بفضل المبادرة التاريخية لقادتها المؤسسين, وباعلاء قيم الكفاءة والعدالة والتضامن, سيجد في مثال اقتصاد السوق الاجتماعي خيارا مصريا يعلي ذات القيم بعد أكثر من خمسة آلاف سنة! ويسمح لمصر بمواجهة تحديات إنجاز ما تستحقه وتستطيعه من تقدم وريادة'.
وللحديث بقية.
المزيد من مقالات د. طه عبد العليم<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش