علماء التراث وقضايانا
‏..‏ محمد زاهد الكوثري‏(2-2)‏
المعاصرة
بقلم: د.محمد عبدالفضيل القوصى

 


عرف التراث الإسلامي ـ علي مدي تاريخه الطويل ـ نمطا فريدا من العلماء‏:‏ يستغرقون أعمارهم ويفنون أبصارهم في تحصيل دقائق علم بعينه‏,‏ أو علوم بأعيانها لا يبغون عنها حولا‏,‏

 

 ويجدون في تكبد مشقات هذا التحصيل‏:‏ من المتعة العقلية واللذة الروحية ما يغنيهم عن متع الحياة ولذائذها جميعا‏,‏ وعلي كواهل هذا الطراز النادر من العلماء انبني الصرح العلمي الإسلامي رفيعا مهيبا‏,‏ وتشيدت لبنات الحضارة الإسلامية باذخة شامخة‏.‏
ولقد كان الإمام الكوثري واحدا من أبرز رجالات هذه الكوكبة من العلماء المحصـلين في العصور القريبة بلا مراء‏,‏ بل لعله من أكثرهم ثراء وتنوعا‏,‏ وسعة وشمولا‏,‏ فلم تقف شهية التحصيل لديه عند علم معين‏,‏ بل امتدت من علوم العقائد إلي علوم السنة‏,‏ إلي مجال الفلسفة‏,‏ إلي مجالات الفقه وأصوله‏,‏ إلي علوم الأديان والفرق‏,‏ دون أن يشغله التضلع في تحصيل إحداها عن التضلع في بقيتها‏,‏ بنفس القدر من العمق والاستقصاء‏.‏
بيد أن الإمام الكوثري لم يقف في عطائه العلمي عند حد التحصيل فحسب‏,‏ ولو أنه فعل ذلك لما كانت له هذه المنزلة السامقة التي تبوأها في العقد المنير من علماء التراث‏,‏ لكنه أضاف إلي مهمة التحصيل‏:‏ مهمة التجديد‏,‏ وكان يري في هاتين المهمتين الجليلتين كلتيهما‏:‏ التحصيل والتجديد‏:‏ عبادة يبتغي بها وجه الله تعالي‏,‏ ورسالة ينير بها مسالك الأمة ودروبها‏,‏ لاسعيا وراء شهرة أو مال‏,‏ ولا استهدافا لجاه أو منزلة‏,‏ بل كان يلقي من جراء الإخلاص العميق لمهمتيه هاتين‏:‏ الضنك وشظف العيش‏,‏ ويحتمل في سبيلهما البأساء والضراء‏!!‏
ـ في مهمة التحصيل يكاد يستعصي علي المرء إحصاء ذخائر التراث التي تولي الإمام الكوثري الحصول عليها‏,‏ ثم تقديمها لأجيال الدارسين والعلماء من بعده‏,‏ ولولا ألمعيته الوقادة لظلت تلك الذخائر تائهة في خزائن المكتبات المبعثرة‏,‏ بل ربما خسرتها الذاكرة العلمية للأمة أبدا‏.‏
ولم تكن مهمة التحصيل تلك‏:‏ تجعل منه مجرد أحد الوراقين‏,‏ أو النساخ الذين عرفتهم خزائن المكتبات في حواضر العلم الإسلامية خلال عصور مضين‏,‏ بل كانت مهمة التحصيل عنده تذهب به إلي الغوص في عمق أعماق تلك الذخائر‏,‏ فتراه يكتب لكل منها المقدمات الضافية الذيول‏,‏ العميقة الأغوار‏,‏ حتي ليظن قارئ كل واحدة من هاتيك الذخائر‏:‏ أن الكوثري لم يكن له شغل سواها‏,‏ وأنه لم يعكف إلا عليها‏!!‏
فهذا هو الكوثري ـ علي سبيل المثال ـ في مقدمة تحقيقه للكتاب المعنون‏(‏ تبيين كذب المفتري‏)‏ الذي ألفه العلامة ابن عساكر في القرن الخامس الهجري‏:‏ يستعرض التاريخ الاعتقادي الصحيح للأمة الإسلامية منذ عصورها الباكرة وصولا إلي الإمام أبي الحسن الأشعري ومدرسته الباذخة‏,‏ ولا ينسي الكوثري في غمرة هذا الاستعراض التاريخي ـ أن ينتقد ابن عساكر لميله إلي الإكثار من الرؤي والأحلام في امتداح الإمام الأشعري‏,‏ مع أنه كان الأجدر به أن يكتفي بحجج اليقظة عن رؤي المنام‏,‏ والحجج عند الإمام الأشعري كثرة كاثرة‏!!‏ وها هو ـ علي سبيل المثال أيضا ـ في مقدمة تحقيقه لإحدي ذخائر علم الحديث رواية ودراية‏,‏ وهو كتاب نصب الراية ينتهض فارسا لا يشق له غبار‏,‏ سواء في علوم الجرح والتعديل‏,‏ أو في تراجم الرواة من الحفاظ والمحدثين‏,‏ مشيدا باشتمال هذا الكتاب النادر علي نصوص حوتها مصادر مجهولة لولاه لطوتها غياهب الفناء‏!!‏
ـ في مهمة التجديد‏:‏ لم يكن الكوثري ـ داعية إلي مذهب مبتدع‏,‏ ولا مروجا لاتجاه مخترع‏,‏ بل كان يري أن التجديد الحقيقي يتمثل في إعادة البهاء والرواء إلي الفهم الصحيح للدين‏,‏ وإزالة ما علق به ـ علي أيدي كثير من الأدعياء ـ من غلظة في التناول‏,‏ ومن حرفية في الفهم‏,‏ ومن جمود في الرؤية ومن عداء للعقل‏,‏ فلقد كان العقل عند الكوثري أخا شقيقا للشرع‏,‏ وكان يجهر بصوته عاليا بقولة ابن الجوزي إننا بالعقل عرفنا الله تعالي وأثبتنا وجوده‏,‏ فينبغي أن لا نهمل العقل‏,‏ وإلا أهملنا ما ثبت به الأصل‏!!‏
فلقد كان الإمام الكوثري ـ في تجديده ـ يستشعر مكامن الخطر العقدي والفكري التي ينطوي عليها إهمال العقل علي حد تعبير ابن الجوزي‏,‏ وهي مخاطر لا تقف عند حد الفهم الظاهري الجامد لنصوص الكتاب والسنة المتعلقة بذات الله تعالي وصفاته وأفعاله بما يؤدي إليه ذلك من تعكير صفو التنزيه وتشويه نقاء التقديس‏,‏ بل تتعدي ذلك إلي تكوين نمط من التفكير الأجوف الذي يتحول باهتمامات الأمة من الجوهر إلي المظهر‏,‏ ومن المضمون إلي الطلاء‏,‏ فإذا بالأمة ولا هاجس لها إلا الأشكال والطقوس‏,‏ ولا شغل لها إلا قضايا الملبس والمأكل أو ما هو دون الملبس والمأكل‏,‏ مهما توكأت بعض تلك الاهتمامات علي أفهام ضيقة لبعض الآثار التي في أسانيدها مقال‏..‏وأي مقال‏,‏ وتاهت من وعي الأمة القضايا المصيرية الكبري في النهضة والحرية والتقدم ودفع الظلم ورفع الجور‏,‏ وها نحن نلمس لدي أتباع السلفية المدعاة اليوم‏:‏ شاهد صدق علي منطق الكوثري ورؤيته الثاقبة‏!!‏
وفوق ذلك كله‏..‏ فقد كان التجديد‏,‏ ـ عند الكوثري ـ لاينهض إلا علي شحذ إرادة الأمة سعيا إلي انبعاثها من عثراتها الفكرية والروحية‏,‏ إن التجديد عنده ليس مجرد علوم تحصل‏,‏ وليس مجرد كلمات تقال‏,‏ بل إنه هجرة إلي التمسك بالمبادئ القويمة المؤدية إلي سعادتي الدنيا والآخرة‏,‏ وإيقاظ الروح الوثابة في نفوس المسلمين‏.‏ ثم أقول‏:‏ لئن كانت أجيال العلماء اللاحقين مدينة بالفضل للإمام الكوثري بالحفاظ علي تلك الذخائر العظمي التي حفظها لنا من الاندثار والضياع‏,‏ فهي مدينة له أيضا بالتفاني في الدفاع عن قضايا الإسلام الكبري‏,‏ ومدينة له كذلك بوقفته الصلبة أمام موجات السلفية المدعاة‏,‏ ودعوات التغريب‏,‏ ورياح العلمانية‏;‏ وهي جميعا ـ في النأي عن جادة السبيل ـ سواء‏!!‏ ألم يكن التجديد الصحيح عنده هو أن يعود للدين رونقه وبهاؤه وضياؤه‏,‏ ثم ألا يتبين لنا اليوم أن كلمات الكوثري ـ الذي لا تكاد الأجيال المعاصرة تدري من أمره شيئا ـ لازالت صالحة لأن تقال لهذا الجيل ولكل جيل ؟؟
 

 

المزيد من مقالات د.محمد عبدالفضيل القوصى

<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915" mce_href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" mce_src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" mce_style="border: 0" /></a> <mce:script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915" mce_src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></mce:script> AddThis Button END -->
azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 19/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
6 تصويتات / 129 مشاهدة
نشرت فى 22 يناير 2011 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,792,047