التعامل النبوي مع غير
المسلمين(2)
بقلم : د. راغب السرجاني
منذ الأيام الأولي لهذه الدعوة الإسلامية الكريمة, والقرآن يتنزل علي رسول الله يشرح له قصص الأنبياء الذي سبقوه, ولا يكتفي القرآن بذكر أخبارهم دون تعليق, بل إنه علي الدوام يعظم ويبجل من شأن كل الأنبياء, وبلا استثناء.
وقد استمر هذا النهج الكريم في المدينة المنورة حتي بعد الصراعات التي دارت بين المسلمين اليهود تارة, وبينهم وبين النصاري تارة أخري, وما توقف القرآن عن الثناء علي أنبياء الله عليهم السلام, وفي مقدمتهم موسي وعيسي أنبياء اليهود والنصاري.. فها هو القرآن يتحدث عن موسي- علي سبيل المثال- فيقول: ولما بلغ أشده واستوي آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين[ القصص:14].
والأمر كذلك بالنسبة لعيسي; فموسي وعيسي يذكرهما ربنا كاثنين من أولي العزم من الرسل; فيقول سبحانه في حقهما: وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسي وعيسي ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا[ الأحزاب:7]
فإذا أخذنا في الاعتبار أن هذه السورة- وهي سورة الأحزاب- قد نزلت بعد خيانة يهود بني قريظة للمسلمين, ومحاولتهم استئصال كافة المسلمين من المدينة, أدركنا مدي التكريم الإلهي لموسي وعيسي- وهما من أنبياء بني إسرائيل ـ وأدركنا أيضا مدي الأمانة التي اتصف بها الرسول; إذ ينقل تكريم الله لهؤلاء الأنبياء العظام علي رغم خيانة أقوامهم وأتباعهم.
ولم يكن هذا الاحتفاء والاحترام لهذين الرسولين العظيمين أمرا عرضيا عابرا في القرآن الكريم, بل كان متكررا بشكل لافت للنظر..
فعلي الرغم من ورود لفظ محمد أربع مرات فقط, ولفظ أحمد مرة واحدة فقط, نجد أن لفظ عيسي قد جاء خمسا وعشرين مرة, ولفظ المسيح إحدي عشرة مرة, بمجموع ست وثلاثين مرة!! بينما تصدر موسي قائمة الأنبياء الذين تم ذكرهم في القرآن الكريم, حيث ذكر مائة وأربعين مرة!! ويمكن لمن يريد الاستزادة من مظاهر تكريم الإسلام للأنبياء السابقين واعترافه بأقوامهم أن يراجع كتابنا( فن التعامل النبوي مع غير المسلمين).
ونتساءل: أبعد كل هذا الذكر والتعظيم يقال: إن المسلمين لا يعترفون بغيرهم؟!!
من من أهل الأرض يعترف بنا كما نعترف نحن بغيرنا؟!
وعلي الرغم من قناعتنا أن رسول الله هو أفضل البشر وسيد الخلق, إلا أن القرآن الكريم يأمرنا بالإيمان بجميع الأنبياء دون تفرقة بينهم, فيقول الله يصف الإيمان الأمثل الذي يجب أن تتحلي به أمة الإسلام قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسي وعيسي وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون[ البقرة:136].
ثم إنه كان يدرك أن بقاء اليهود والنصاري إلي يوم القيامة أمر مسلم به, وقد أخبر بذلك في روايات عديدة غزيرة.. وإن كان وجودهم من الأمور المقطوع بها, فلا بد- إذا- من الاعتراف بهم والتعايش معهم, والبحث عن أفضل الوسائل والطرق للتعامل والتفاعل مع وجودهم. ولذلك نري أن الرسول قبل- ببساطة- فكرة التعايش مع اليهود من أول يوم دخل فيه المدينة المنورة, بل قام بعقد معاهدات مهمة معهم, كما سنفرد لذلك كتابا مستقلا إن شاء الله تعالي.
ولم يشأ لهذه المعاهدات أن تنقضي أو تلغي أبدا, وإنما كان النقض والغدر يأتي دائما من قبل اليهود, وقد ظل النبي محافظا علي مبدأ التعايش السلمي والاعتراف بالآخرين, ما دام لم يحدث منهم اعتداء ظالم أو تهديد خطير, بل إنه كان يتجاوز كثيرا عن تعديات غير مقبولة من أجل أن تنعم المدينة بالاستقرار.
ولم يغير الرسول هذا النهج إلي آخر حياته, حتي إنه قام بعمل قد يستغربه الكثيرون, وهو أنه اشتري طعاما من يهودي إلي أجل, ورهنه درعا من حديد!!
ووجه الاستغراب أن الصحابة الأغنياء كانوا كثرا في المدينة المنورة, ولم يكن عندهم أغلي من رسول الله, فكان من الميسور أن يهدي إليه الطعام, أو علي الأقل أن يقترض منهم, أو يرهن درعه عند أحدهم, ولكن الواضح من الموقف أنه فعل ذلك لإثبات جوازه للمسلمين, ولتوجيه المسلمين إلي جعل العلاقة بينهم وبين اليهود طبيعية, ما داموا يحترمون جوار المسلمين ولا يعتدون علي حرماتهم, ولو وصل الحد إلي رهن الدرع, وهو شيء عسكري مهم كما هو معلوم, ولكنه كان لإثبات حسن النوايا إلي أكبر درجة.
وكما تعامل رسول الله مع اليهود فعل ذلك أيضا مع النصاري, وقام بعقد المعاهدات معهم أكثر من مرة واعترف بوجودهم مع اختلافه معهم في العقيدة في أكثر من جزئية, ومنها جزئيات خطيرة لا تحتمل إلا الشرك الصريح بالله, ومع ذلك لم يكرههم علي تغيير دينهم, علي الرغم من خوفه علي مصيرهم. يقول تعالي مخاطبا النبي: ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتي يكونوا مؤمنين؟![ يونس:99]
إن المساحة المتاحة فقط هي مساحة الدعوة بالتي هي أحسن, ومساحة الشرح الجلي والتوضيح المبين, ثم بعد ذلك يترك الأمر تماما للإنسان ليختار ما يشاء, قال تعالي: وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا[ الكهف:29] ومن هذا المنطلق قبل رسول الله أن يبقي اليهود علي يهوديتهم, وأن يبقي النصاري علي نصرانيتهم, وأن يستمر التعامل بصورة سلمية طيبة بين الطوائف كلها.
ساحة النقاش