القراءات الجديدة للقرآن الكريم‏..‏ بدعة العصر‏(1-2)‏
بقلم : د‏.‏ محمد عبدالفضيل القوصي ‏‏ عضو مجمع البحوث الإسلامية


من يمعن النظر فيما يدعي‏(‏ القراءات الجديدة للقرآن‏)‏ تلك التي تروج لها طائفة من التنويريين والحداثيين في مشرق العالم الإسلامي ومغربه‏,‏ ثم يقارن بينها وبين ما صنعه كثير من المستشرقين في نقدهم للإسلام‏:‏ يروعه ما يجد من تفاوت جوهري بين الفريقين في المنهج والغاية‏!!‏

 

فلقد كان جهد أولئك المستشرقين ينصب علي توجيه انتقادهم للإسلام من خلال ما يعتقدون أنه‏'‏ مثالب‏'‏ له‏,‏ أو نقائص في تعاليمه ونظامه السياسي أو الاجتماعي‏,‏ دون أن يتجاوزوا ذلك ـ في الأعم الأغلب ـ إلي النفاذ في قلب التكوين الجوهري لكيان الإسلام ذاته‏,‏ أما تلك الطائفة من التنويريين والحداثيين فإنهم لا يكتفون بتلك الانتقادات الاستشراقية التي لا تكاد ـ في نظرهم ـ تتجاوز القشور إلي الجذور لأنهم يذهبون إلي ما هو أبعد مدي من ذلك‏,‏ فهم يعمدون إلي انتقاد الإسلام في عمق أعماقه‏,‏ سعيا إلي إعادة تأسيس مقوماته من جديد‏,‏ واستهدافا لأن يعود إليه ذلك الوجه الذي يزعمون أن التراث الديني للمسلمين ـ منذ الجيل الأول من الصحابة والتابعين حتي الأجيال المتعاقبة من الفقهاء والعلماء‏:‏ قد قام بطمسه وطمره‏,‏ حتي ضعفت طاقاته الإبداعية‏!!‏
فرسالة الإسلام إذن ـ كما فهمتها هذه الأجيال ـ ليست ـ في زعم تلك الطائفة ـ هي الرسالة التي جاء بها النبي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ علي حقيقتها‏,‏ لأن تلك الأجيال لم تفطن إلي تلك الطاقات الإبداعية الكامنة فيها‏,‏ بل إن بعض المبادئ الفقهية قد وضعها أناس كانوا‏'‏ ضدا‏'‏ علي المبادئ القرآنية‏!!‏
لا مناص ـ في نظرهم إذن ـ من طرح تلك الأفهام التي أجمعت عليها الأمة‏,‏ ونبذها ظهريا‏,‏ فلقد كانت أفهاما تفسر القرآن الكريم من خلال ارتباط الألفاظ بالمعاني‏,‏ وارتباط الألفاظ بدلالاتها اللغوية في لغة العرب التي نزل بها القرآن الكريم‏,‏ وبذلك كانت للمفاهيم القرآنية‏:‏ دلالاتها الثابتة‏,‏ وحقائقها الراسخة‏.‏
لكن التنويريين والحداثيين يرفضون مثل هذا‏'‏ الثبات‏',‏ لأنهم يرفضون رسوخ تلك المفاهيم‏,‏ و‏'‏صلابتها‏',‏ و‏'‏استقرارها‏',‏ فمبتغاهم هو أن تظل تلك المفاهيم القرآنية من خلال قراءاتهم الجديدة ـ مفتوحة غير مغلقة وفضفاضة غير محددة‏,‏ وغير محددة حتي تبقي علي الأيام قابلة لكل تفسير‏,‏ خاضعة للتغير المستمر الذي يفرضه الواقع والتاريخ‏,‏ ويظل القرآن ذاته ـ كما يقول أحدهم بالنص الحرفي ـ‏'‏ مجموعة من الدلالات والمعاني الاحتمالية المقترحة علي كل البشر‏,‏ وتظل مفاهيمه مؤهلة لأن تنتج خطوطا واتجاهات عقدية متنوعة بقدر تنوع الأوضاع والأحوال التاريخية‏',‏ وبقدر تعدد القراءات والقارئين‏!!‏
وطبقا لهذا الفهم ـ الذي تتعدد فيه الرؤي والقراءات القرآنية تبعا لتعدد تيارات الواقع وتقلبات الظرف الاجتماعي المحيط‏,‏ فلا يحق لأحد أن يرفض من أي أحد قراءته الخاصة‏,‏ مهما بلغت من الشطح والإغراب والشذوذ‏,‏ والبعد عن دلالات اللغة ومواضعاتها‏.‏
والأخطر من ذلك أن تلك القراءات المفتوحة علي مصاريعها تفتح الأبواب علي مصاريعها أيضا لضروب شتي من‏'‏ التدين‏'‏ لا يضبطها نص ولا شرع ولا نظام‏,‏ فكما أن لكل ذات فردية الحق في أن يكون لها قراءتها الخاصة انعكاسا للواقع الذي تعيش فيه‏,‏ فإن لكل ذات فردية‏:‏ الحق في أن تحدد الطريقة التي تتدين بها‏,‏ إذ لا ينبغي ـ كما يقول أحد الزاعمين ـ أن تقف صور التدين عند صورة واحدة‏,‏ بل تتعدد تلك الصور تبعا لتعدد القراءات‏,‏ وتتكثر تبعا لتكثرها‏!!‏
والأكثر خطورة من ذلك أيضا إنه إذا كان من حق الإنسان الفرد أن يحدد تدينه الخاص تبعا لقراءته الذاتية الخاصة‏:‏ فإن‏'‏ للجماعة‏'‏ البشرية أن تكون لها قراءتها الخاصة لما ورد في القرآن الكريم خاصا بالجماعة‏,‏ وإذا كان القرآن الكريم قد تضمن في آياته أحكاما للمعاملات التي تجري بين أفراد الجماعة‏,‏ وتحدد طرائق تصرفاتهم فإن تلك الأحكام لا تتعدي بخطابها التكليفي جماعة المخاطبين بتلك الآيات زمن النزول‏,‏ أولئك الذين يعيشون زمنا معينا وتسري عليهم أوضاع اجتماعية وثقافية معينة‏,‏ أما حين يختلف الزمان فإنه يصبح لكل جماعة في زمنها‏:‏ الحق في‏'‏ قراءة‏'‏ تلك الأحكام التكليفية التشريعية علي النحو الذي تريد‏,‏ كما أن لها الحق في تصورها علي النحو الملائم لزمانها وواقعها دون أن تتقيد بحرفية الأحكام التشريعية الواردة في القرآن الكريم لأنها ـ كما يقول أحد أولئك الزاعمين ـ إنما‏'‏ تصف واقعا أكثر مما تضع تشريعا‏'!!‏
ثم أقول‏:‏ كيف يتقبل العقل السليم الذي اعتصم بالعقل من أغاليط السفسطائيين قديما‏,‏ ومن النزعات الإرتيابية حديثا‏:‏ مثل هذه النسبية المفرطة التي لا بقاء معها لقانون من قوانين الفكر المستقر‏,‏ ولا ثبات معها للحقائق التي يرتكز عليها العقل الإنساني الرشيد ؟
وإذا كان القرآن الكريم مفتوحا لتلك القراءات التي قد تتباين وتتناقض وقابلا لكل تفسير مهما كان انفلاته‏:‏ يتم اقحامه أواسقاطه علي آياته المحكمات فسوف يكون آنئذ ـ وحاشاه ـ فضاء مستباحا للمتباينات المتناقضات فهل يكون والحال هذه‏'‏ تبيانا لكل شيء‏'‏ و‏'‏هدي للعالمين‏'‏ ؟
وهل يتقبل الوعي المسلم أن يتهم التاريخ الفكري الإسلامي بأسره ـ بالغفلة عن الفهم الصحيح لدينه‏,‏ وهل يعقل أن يحدث ذلك لأمة قد ضمن لها رسولها الكريم ألا تجتمع علي ضلالة ؟
ثم كيف يتقبل الوعي المسلم أن يكون لكل فرد الحق في أن يكون له تدينه الخاص علي النحو الذي يختاره عقله‏,‏ وهل يسمي حينئذ مثل هذا‏:‏ دينا يرتضيه العقلاء الذين يفهمون الدين علي أنه‏'‏ رسالة‏'‏ أنزلها الله تعالي إلي البشر لتتبع تعاليمها‏,‏ وتطاع أحكامها‏,‏ وبغير تلك‏'‏ المهمة الرسالية‏'‏ لا يكون ما نتحدث عنه دينا ؟؟
وكيف يتقبل الوعي المسلم أن تحدد كل جماعة لنفسها طرق تدينها الذي يمثل علاقة بين الإله المعبود‏,‏ والبشر العابدين‏,‏ ومن ثم فإن ذلك الإله المعبود هو الذي يحدد طريق التدين ويرتضيه؟
وكيف يتقبل الوعي المسلم أن ترسم كل جماعة لنفسها أحكاما‏'‏ للتعامل‏',‏ ثم تسمي هذه الأحكام‏'‏ دينا‏'‏ تطيع به الإله المعبود‏,‏ دون أن تضع في الاعتبار أن ذلك الإله المعبود هو الذي يحدد للبشر ما يطاع به من السلوك والمعاملات؟
ثم أي مصير سيئول إليه‏(‏ الدين‏)‏ في هذا الفهم الكليل المصطنع الذي تخيله التنويريون والحداثيون‏,‏ وهو فهم تنخر فيه النسبية والذاتية حتي أقصي الآماد؟
ثم أقول‏:‏ لئن كانت هذه القراءات الجديدة ـ في حكم العقل ـ ضربا من اللغو العابث‏,‏ فهي ـ في حكم الدين ـ ضلال مبين‏!!‏

azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 30/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
10 تصويتات / 124 مشاهدة
نشرت فى 20 نوفمبر 2010 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,687,450