يعد التخطيط أحد الأسس الأساسية لنجاح العمل الإداري، وتشجع الدين الإسلامي على تطبيقه بشكل دائم ومستمر في جميع المجالات. ومن الملاحظ أن النبي . ﷺ . قد قام بتفعيل التخطيط الإداري في حياته النبوية، حيث قام بوضع الخطط اللازمة لإدارة شؤون الأمة الإسلامية وتحقيق أهدافها.
ولا يختلف التخطيط الإداري في الإسلام كثيراً عن التخطيط الإداري بشكل عام إلا أنه يُبنى على أسس الشريعة الإسلامية فيتم بما لا يخالف الدين.
وتتضمن أهم عناصر التخطيط الإسلامي ما يلي:
1- التفكير والإبداع
لقد بدأت محاولات فهم ظاهرة الإبداع منذ عهد الإغريق القدماء قبل أكثر من عشرين قرنا، ولكن كانت هذه المحاولات في حدود عقل البشر الذي هو مناط التكليف والتكريم بالإنسان من الله تعالى، والذي أشار إلى العقل إشارات واضحة في مواضع كثيرة في القرآن الكريم تحت كلمات مفتاحية متمثلة في: [يعقلون في 22 آية]، [تعقلون في 24 آية]، [الألباب في 16 آية]، [الأبصار في 9 آيات] كما أشار إلى الفكر والتفكير تحت كلمات مثل: [يتفكرون في 10 آيات، تتفكرون في 3 آيات] وفي هذا دليل واضح على الاهتمام بالعقل و التفكير بشكل عام.
يقول الله تعالى: ﴿ إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾. [الأحزاب : 72]، قال العوفي، عن ابن عباس: يعني بالأمانة: الطاعة، وعرضها عليهم قبل أن يعرضها على آدم، فلم يطقنها، فقال لآدم: إني قد عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها، فهل أنت آخذ بما فيها ؟ قال: يا رب، وما فيها؟ قال: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت، فأخذها آدم فتحملها، فذلك قوله: [ وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ].
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، الأمانة: الفرائض، عرضها الله على السماوات والأرض والجبال، إن أدوها أثابهم. وإن ضيعوها عذبهم، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيما لدين الله ألا يقوموا بها، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها، وهو قوله: [ وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ] يعني: غرا بأمر الله. فوجب على الإنسان التفكر والتدبر في كل شيء حتى يدرك عظمة الخالق عز وجل ومن هذا المنطلق يبدأ الإنسان في التخطيط السليم لنفسه وللأمة جمعاء.
يقول الله تعالى: ﴿ وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ [٢٠] وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [٢١] وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [٢٢]﴾، [الذاريات : 20 : 22]، فكل ما في الأرض يعد مجالاً واسعاً للاستكشاف وأعمال الذهن والتدبر للاستفادة من ذلك فيما يعود بالخير على البشرية في هذه الحياة وذلك تحقيقاً لمعنى الخلافة والعبودية لله، كما أن النفس البشرية والتفكير والتدبر في التكوين الجسمي والعقلي للإنسان يعد ضمن تلك الآيات فهو أحد الأهداف والوسائل الرئيسة للتخطيط الإسلامي ،وقوله تعالى: ﴿ وَاختِلَافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن السَّمَاءِ مِن رِزقٍ، فَأَحيَا بِهِ الأَرضَ بَعدَ مَوتِهَا وَتَصرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَومٍ، يَعقِلُونَ" ﴾ [الجاثية : 5].
2- تحديد الأهداف
ففي قوله عز وجل: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾. [القصص : 77]، فهنا يوصينا الله بابتغاء الحياة الآخرة وجعلها هي الهدف الأسمى من حياتنا الدنيوية فهو توجيه رباني للتخطيط في هذه الدنيا لمقابلة مصير الآخرة.
وقوله تعالى في سورة يوسف: ﴿ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ﴾. [يوسف : 47]. فهنا كان الهدف هو الحفاظ على الموارد المتاحة حتى عبور تلك الأزمة.
تحديد الأهداف هو عنصر أساسي ورئيسي لعملية التخطيط الإداري من المنظور الإسلامي النبوي. ويعني ذلك وضع أهداف واضحة ومحددة لتوجيه الجهود والعمل نحو تحقيقها. يوصي الإسلام بأن يكون التحديد والتوجيه للأهداف بشكل دقيق وواضح، وذلك لأن الأهداف المحددة بشكل واضح تعزز الجهود الفردية والجماعية وتجعلها تتجه بشكل أكثر فاعلية وتركيز نحو تحقيق هذه الأهداف. فعلى سبيل المثال، يتحدث النبي محمد . ﷺ . عن التحديد الواضح للأهداف في حديثه الشهير عن عبدالله بن عباس رضي الله عنه عن النبي . ﷺ . قال: "ليس المؤمنُ بالذي يشبعُ وجارُه جائِعٌ إلى جنبَيْهِ "، وهذا يعني أن الأهداف يجب أن تتعلق بأكثر من مجرد تلبية احتياجات الفرد، بل يجب أن تشمل الأهداف الاجتماعية والإنسانية العامة.
ويشير الإسلام أيضًا إلى أهمية تحديد الأهداف بشكل دوري ومستمر، وتعديلها وفقًا للتغييرات المحيطة بالمنظمة أو الفرد، وذلك لضمان استمرارية تحقيق الأهداف المحددة. وهذا ما يعكسه حديث النبي . ﷺ . عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله . ﷺ .: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه". ويشير هذا الحديث إلى ضرورة تحديد الأهداف الحقيقية والمناسبة والمستمرة، وعدم الانحراف عن الهدف الأساسي والمناسب للفرد أو الأمة.
بالإضافة إلى ذلك، يعني تحديد الأهداف بشكل صحيح ومناسب أن يتم وضعها بناءً على مراجعة وتحليل الوضع الراهن والتحديات والفرص المتاحة، ومن ثم تحديد الخطوات والإجراءات اللازمة لتحقيق هذه الأهداف بشكل فعال ومستدام.
لذا، يعتبر تحديد الأهداف من العناصر الرئيسية للتخطيط الإداري في الإسلام، ويجب أن يتم بشكل دقيق وواضح ومناسب، وأن يتم تحديثها بشكل دوري ومستمر، وأن تعكس الأهداف الاجتماعية والإنسانية العامة، بالإضافة إلى تحديد الخطوات والإجراءات اللازمة لتحقيق هذه الأهداف بشكل فعال ومستدام.
3- تحديد الأولويات
عرّف القرضاوي رحمه الله فقه الأولويات بأنه: "وضع كل شيء في مرتبته بالعدل، من الأحكام والقيم والأعمال، بناءً على معايير صحيحة يهدي إليها نور الوحي.
وعرف السقا الأولويات بأنها: "القطاعات والعمليات التي تُعطى أسبقية في الترتيب على غيرها، فهي نقطة البدء الأساسية في غايات المجتمع وأهدافه".
وقد عبّر فتحي يكن عنه: بأنه معرفة ما هو أجدر من غيره في التطبيق، بمعنى أن يقدم الأفضل والأجدر على غيره، وهذا تابع لمعرفة طبيعة الوقت الذي يطبق فيه الأمر
اتفقت التعريفات على أحقية تقديم عمل على آخر، وهذه الأحقية يفترض ألا تكون جزافاً، بل بناءً على ضوابط ومعايير تحكم التقديم، فالشريعة الإسلامية جاءت لتوازن بين المصالح والمفاسد، وتقديم الراجح منها وفق ضوابط يمكن أن تستنبط من نصوص الشريعة بطريق الاستقراء، ولا بد من الكشف عن كيفية تحديد وترتيب الأولويات، فعامة المصالح والمفاسد تكون مزدوجة، فالفعل الواحد يكون مناطاً لمصلحتين، أو مصلحة ومفسدة، فالقصاص مثلاً: مصلحة للجماعة في حفظ نفوسهم، وهي مصلحة ضرورية، ولكنه مفسدة في حق الجاني.
قدمت الشريعة الفرض على النافلة، والنص على الاجتهاد، ودرء المفاسد فيها أولى من جلب المصالح، والمصلحة العامة مقدّمة على المصلحة الخاصة، ويُرْتكب أخفّ الضّررين وأهون الشرّين مخافة ضرر أكبر، وغيرها من التفصيلات.
ويتجلَّى ذلك في دعوة النبي. ﷺ . حيث بدأ بأهله قبل غيرهم: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ﴾. [الشعراء : 214]. وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾. [النساء : 135]، والأولى في الآية هنا بمعنى الأحقّ.
وقوله تعالى: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى* وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى* أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى* أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى* فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى* وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى* وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى*وَهُوَ يَخْشَى*فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ﴾. [عبس : 1:10]، والقصة، في السورة الكريمة تصور لنا مجلساً من مجالس رسول الله . ﷺ . وهو يدعو فيه إلى الله تعالى، حريصاً على هداية زعماء قريش، إذ جاءه ابن أم مكتوم، وكان ضريراً أعمى، جاءه مقبلاً، فلما لم يلتفت إليه، وعبس في وجهه عبسة المهتم بأمر خطير وما ذاك إلا لشدة حرصه على أولئك الزعماء، فلم تكن هذه الآيات مجرد تبيان لحقيقة كيف يُعامل فرداً من الناس؟ كما هو المعنى القريب للحادث، وإنما هي أبعد من هذا، وهي كيف يزن الناس كل أمور الحياة، وكيف يقدّمون الأَولى؟ ومن أين يستمدون القيم التي يزنون بها؟ وهذه القيم هي التي يحددها الله تعالى لا المتعارف عليها عند الناس.
ويتَّضح من خلال وصية النبي. ﷺ . لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه - عندما بعثه إلى اليمن فبدأ بالأهم فالأهم: [التوحيد ـ الصلاة ـ الزكاة].
فنلاحظ أن الإسلام قدم بعض الأمور على بعض بما يوافق مصلحة الدين والأمة كتقديم المصلحة على المفسدة وتقديم أخف الضررين على الأخر.
وبالنظر لعصرنا الحالي، فلا يمكننا مثلا تقديم العمل على إصلاح بعض الأمور الخاصة بالزوجين ولا نعر اهتماما لما يحدث في المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فلأجل ذلك وجب تقديم بعض الأمور على بعض وكل بحسب أولويته.
4- استثمار جميع الموارد المتاحة [التنفيذ]
استثمار جميع الموارد المتاحة يشير إلى الاستخدام الأمثل لجميع الموارد المتاحة لدينا، بما في ذلك الموارد المادية والبشرية والمالية والتقنية. يتطلب ذلك تحليل وتقييم جميع الموارد المتاحة لدينا وكيفية استخدامها بأفضل طريقة ممكنة لتحقيق أهدافنا.
من المهم النظر في استثمار الموارد من منظور شامل، مثل التوظيف الفعال للعمالة وتحديد الاستخدام الأمثل للتكنولوجيا والمعدات والموارد المالية. ومن المهم أيضًا النظر في الموارد المتاحة بشكل فردي، مثل العمالة المتاحة والمهارات الفنية والمالية وغيرها من الموارد التي يمكن تخصيصها لتحقيق الأهداف المحددة. لذلك، يجب أن يكون الاستثمار في الموارد شاملاً ومتوازنًا لتحقيق النجاح والاستدامة في المؤسسات والشركات.
ويتضح معنى تسخير الموارد المتاحة للاستغلال والاستثمار بما ينفع المسلمين في التخطيط الإسلامي في قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾. [الملك : 15]. وقوله تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾، [إبراهيم: 32 - 34]، وقوله تعالى: ﴿ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰالِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾، [الرعد : 4]،
وقوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾، [لقمان : 20]، وقوله تعالى: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾، [الجاثية : 13]. وقوله تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾. [الأنفال : 60].
وهناك الكثير والكثير من الآيات الدالة على تسخير موارد الأرض للإنسان ليستغلها فيما ينفعه وينفع الناس ولكن نكتفي بهذا القدر من الآيات.
وقوله . ﷺ . في الحديث الذي رواه أبو هريرة " المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز". فالرسول. ﷺ . يحثنا هنا على استغلال المسلم لما ينفعه وينفع به المسلمين في قوله "احرص على ما ينفعك".
وتُبرز لنا قصة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - مع بلال بن الحارث المعنى الأمثل لاستغلال الموارد، وكان مقتضى القصة كما يلي: أن النبي . ﷺ . أقطع بلالاً بن الحارث أرضاً طويلة عريضة وفي رواية عند البزار أنه أقطعه المعادن القبلية جلسيها وغوريها، وعند الطبراني أنه أقطعه العقيق، قال الألباني رحمه الله في إرواء الغليل :وبالجملة فالحديث بمجموع طرقه ثابت، ومهما يكن من أمر فقد كان ما أقطعه النبي . ﷺ . لبلال بن الحارث كثيراً جداً وكان ذلك بغرض استصلاحه وإحيائه، لأنه يدخل في عمارة المدينة، فلما كان عهد عمر رضي الله عنه وجد أن بلالاً بن الحارث عجز عن إحياء الأرض كلها، فقال له: خذ ما تستطيع إحياءه واترك الباقي ندفعه لمن ينتفع به، وعند ابن خزيمة في صحيح: فلما كان عمر رضي الله عنه قال لبلال إن رسول الله . ﷺ . لم يقطعك لتحجزه عن الناس لم يقطعك إلا لتعمل، ففهم عمر هذا الفهم وهو مقتضى المصلحة فكان اجتهاداً منه وافقه عليه الصحابة ولم يعلم له منهم مخالف، فكان ذلك إجماعاً سكوتياً منهم، ولا تعارض بين الاجتهاد والإجماع، فالمجتهد يجتهد في المسألة ويحكم فيها فإذا وافقه باقي المجتهدين عليها وأقروا حكمه أو لم يعلم له منهم مخالف كان ذلك إجماعاً للفتوى.
5- تعليق النتائج بمشيئة الله تعالى والتوكل عليه
كلّ شيء يجري بِتقديره ومشيئته، ومشيئته تنفذ، ولا مشيئة للعِباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن، فهذا الكونُ خلق الله تعالى، ولا يقع شيء إلا بمشيئة الله تعالى، ولا يستطيع عبدٌ مهما كان كبيرًا أن يفعل شيئًا ما أراده الله، وإنّ كلّ شيء وقع أراده الله تعالى، وكل شيء أراده الله وقع، وإرادة الله تعالى متعلقة بالحكمة المطلقة، وحكمته المطلقة متعلقة بالخير المطلق.
أسند الله عز وجل الهداية والإضلال إلى مشيئته سبحانه في كثير من الآيات، منها قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾، [النحل : 93]. وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾، [إبراهيم : 4]. وقال تعالى: ﴿ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ *وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ ﴾، [الزمر: 36 : 37].
وتكون المشيئة بعد تفريغ الجهد في الأخذ بالأسباب والتوكُّل على الله تعالى: ﴿ وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾، [الكهف : 23 : 24]. وقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾. [الأحزاب : 48].
وهناك الكثير من الآيات التي تدل على وجوب تعليق العبد للمشيئة في كل أمور حياته، سوائاً في أموره الخاصة أو أموره العامة.
ومن أحاديث النبي . ﷺ . عن المشيئة قوله: " لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت، ارحمني إن شئت، ارزقني إن شئت، وليعزم مسألته، إنه يفعل ما يشاء، لا مكره له ". رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -.
وعن جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه قال: قال رجل للنبي . ﷺ .: أرسل ناقتي وأتوكل؟ قال: [إعقلها وتوكل]، قال أبو حاتم، يعقوب هذا هو يعقوب بن عمرو بن عبدالله بن أمية الضمري، من أهل الحجاز، مشهور مأمون [ صحيح ابن حيان ]، وقد ذكر البروسوي في "شرح المقاصد" فتنبه لخطئه في ترك التوكل فاستغفر وتاب فهذا مما لا بأس به وغايته ترك الأولى إذا ليس في التحفيظ ومباشرة ترك الامتثال لأمر التوكل على ما قال عليه السلام:
[ إعقلها وتوكل].
من خلال ما تقدم من شرح، يظهر الأساس المقاصدي، فالمقاصد أعم من الأحكام.
6- التوفيق الإلهي
التوفيق: يُطلق في مقابلِ الخُذلان، والمرادُ من الخُذلان: هو تركُ المعونةِ والنُّصرةِ والمؤازرة. فأنْ تخذِلَ أخاك، فهذا لا يعني أنْ تَضرَّه، وإنَّما يعني أنْ تتركَه وشأنَه في ظرفٍ هو بحاجةٍ إليك، فهذا هو الخُذلان. فالتوفيق الإلهي مصطلح يستخدم في العديد من الديانات والمعتقدات الدينية والروحانية، ويشير إلى قوة خارقة وغامضة تمتلكها قوة إلهية لتوجيه الأحداث والأمور في الكون بطريقة متناغمة ومتناسبة.
ووفقًا لمفهوم التوفيق الإلهي، يُعتقد أن الله أو القوة الإلهية الموجودة في الكون تعمل على تنظيم الأحداث وتوجيهها بطريقة تجعلها تتوافق مع الخطط والأهداف الكبرى للحياة والكون بشكل عام. ويعتبر المؤمن بفكرة التوفيق الإلهي أن الحياة تسير وفقًا لخطة محددة ومدبرة، وأن كل شيء يحدث في الكون له سبب وغاية، وأن القوة الإلهية تدفع الأحداث والظروف في الاتجاه الذي يتماشى مع هذه الخطة العظيمة.
على الرغم من أن مفهوم التوفيق الإلهي يختلف قليلاً من دين لآخر، إلا أنه يتوافق على نحو عام مع فكرة وجود قوة خارقة وراء الحياة والكون تعمل على توجيه الأحداث بطريقة محددة ومعينة.
قال تعالى على لسان نبيه شعيب . عليه السلام .: ﴿ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾، [هود : 88]. فالمؤمنُ دائمُ الشعور بالحاجة إلى توفيق الله، وذلك هو سرُّ ارتباطه الوثيق بربِّه جل وعلا. وعلى خلاف ذلك من يشعرُ بالاستقلال، فإنًّه يُصاب بالكِبْر والعُجْب، ولا يشعر بالحاجة إلى التوكُّل، واللجوء إلى الله، وإلى الدعاء.
قال أبو هريرة رضي الله عنه أن الرسول . ﷺ . قال: "المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ من المؤمنِ الضعيفِ، وفي كلٍ خيرٌ احرصْ على ما ينفعُك واستعنْ باللهِ ولا تعجِزنَّ، وإن أصابَك شيءٌ فلا تقلْ لو أني فعلتُ لكانَ كذا وكذا، ولكن قلْ قدَّرَ اللهُ وما شاءَ فعلَ فإن لو تفتحُ عملَ الشيطانِ ".
وبذلك يتَّضحُ معنى التوفيقِ الإلهي فهو يعني التسديدَ والتيسيرَ والمدَد، فأنْ تكونَ موفَّقاَ فذلك معناهُ أنّ اللهَ تعالى قد يسَّر لك الوصولُ إلى ما تقصد، وأعانَكَ على بلوغِ ما ترغبُ فيه، وعصَمَكَ عن الوقوع فيما تُحذرُ منه، وألهمَك السدادَ والصوابَ في الرأي الذي تُقلِّبُه وتبحثُ فيه عن مواطنِ الرُشد.