- أهمية وجود البرلمان :
بالإضافة الى تطور مراحل الحياة البرلمانية، تشير المراجعة التاريخية تنوع الدوافع التى كانت وراء نشأة البرلمان وتطوره فى مناطق العالم المختلفة. وقد أصبحت تلك الدوافع فى مجملها أساسا للوظائف التى تمارسها البرلمانات، وهى التمثيل، أو النيابة عن الشعب، وبناء الدولة القومية، وتسوية الخلافات بين الفئات والقوى الاجتماعية بالطرق لسلمية وعن طريق مبدأ حكم الأغلبية.
ففى الكثير من الدول الغربية، ظهر البرلمان فى إطار تحولات اجتماعية واقتصادية واسعة، ثم تدعم دوره مع ظهور طبقة وسطى مؤثرة إبان الانتقال الى فترة الثورة الصناعية. وفى تلك المرحلة كان الدافع الرئيسى وراء تأسيس البرلمان هو تمثيل تلك الفئات والقوى الناشئة، بما يسمح لها بالتأثير فى الحياة السياسية. ومع انتشار أفكار السيادة الشعبية والمواطنة والمساواة بين المواطنين فى الحقوق والواجبات، واستحالة مشاركة كافة المواطنين فعليا فى الحكم، أصبح دور البرلمان هو تمثيل مختلف فئات الشعب، وممارسة تلك السيادة، التى تمثلت فى وضع القوانين أساسا. ومع تطور أفكار الحرية السياسية وظهور الأحزاب وتعددها، أصبح البرلمان هو الحلبة التى تتنافس فيها تلك الأحزاب والتيارات السياسية، وتسعى للوصول الى الأغلبية، وبالتالى تشكيل الحكومة، فيما أصبح يعرف بالحكم النيابى.
أما فى الدول النامية، فقد كان هناك دافع إضافى لتأسيس البرلمانات، وهو بناء الدولة القومية، وتأكيد الهوية الوطنية المشتركة لأبناء الدولة الواحدة. فبعد التحرر من الاستعمار، واجهت معظم تلك الدول تحديات عديدة، أبرزها طبيعة الحدود السياسية التى اصطنعتها الدول الاستعمارية قبل رحيلها، فقسمت هذه المجتمعات الى وحدات متقاطعة ومتداخلة فى آن واحد، وجعلت أبناء القومية الواحدة موزعين فى عدة دول، وأصبح على هذه الدول حديثة الاستقلال تأكيد هويتها المشتركة، للحفاظ على تماسكها ومواصلة مسيرة نموها الشاقة.
وكان لابد من إنشاء مؤسسات سياسية تجسد تلك الوحدة الوطنية، وتعبر عن الهوية المشتركة، وكان البرلمان من أهمها، لأنه الهيئة التى يمكن أن تكون معبرة عن مختلف الجماعات والأقاليم والفئات التى تنتمى الى نفس الدولة، وبالتالى فهى المؤهلة لإيجاد أرضية مشتركة بينهم، وبلورة مشاعر ومصالح وطنية تجمعهم. فكان تأسيس البرلمان خطوة أساسية لبناء الدولة القومية، والحفاظ على تماسكها، سواء من الانقسامات الداخلية والحركات الإنفصالية، أو فى مواجهة القوى الاستعمارية ذاتها.
ومن ناحية ثالثة، نجد أن الدافع وراء تأسيس البرلمان فى بعض الدول قد يكون، بالإضافة الى ما سبق، هو تحقيق الاستقرار الاجتماعى بمعناه الشامل. فهناك دول شديدة التعدد من النواحى العرقية والطائفية اللغوية والدينية والثقافية، وتكون فى حاجة ماسة الى وسائل تقلل من فرص الصراع بين المواطنين ذوى الانتماءات المختلفة، من أجل تحويل تلك التعددية الى مصدر ثراء وقوة.
واليوم، فإن تأسيس البرلمانات أصبح ركنا جوهريا فى الحياة الديمقراطية، ومرحلة لازمة فى عملية التحول الديمقراطى، وأصبح تطوير العمل البرلمانى مدخلا للإصلاح السياسى ككل. أكثر من هذا، فإن التحول الاقتصادى والاتجاه الى نظام السوق الحرة قد جعل من الضرورى تحقيق تطور مواكب فى الحياة السياسية، الذى يبدأ من احترام الحقوق والحريات الأساسية للمواطن، وخصوصا حرية المشاركة السياسية والتعددية الحزبية، وينتهى بتشكيل حكومات نيابية، عن طريق انتخابات حرة ونزيهة. وهذه كلها أمور تصب فى صميم العمل البرلمانى.
باختصار، فقد أصبح البرلمان اليوم رمزا لمجموعة أكبر من التحولات السياسية، التى تضم العديد من المؤسسات السياسية والدستورية، مثل الأحزاب السياسية، والنقابات المهنية والعمالية، ومؤسسات المجتمع المدنى كالجمعيات الأهلية والنوادى الثقافية والروابط الاجتماعية، ووجود صحافة حرة وقوية تعبر عن كافة الآراء والاتجاهات..، كل ذلك هو الذى يشكل المناخ السياسى والاجتماعى الذى يزدهر فيه العمل البرلمانى، ويقدم الضمانات الأساسية لاستمرار النظام الديمقراطى.
ساحة النقاش