- التجربة التعددية الثالثة منذ 1976 :
مع بداية السبعينيات ، وتولي الرئيس أنور السادات الحكم، رفع شعار دولة المؤسسات وسيادة القانون وكان ذلك إشارة الي بداية تحولات سياسية هأمة.
والواقع أن هذه التحولات جاءت نتيجة الأزمة السياسية التي أعقبت هزيمة 1967، وأدت الي اصدار بيان 30 مارس عام 1968 والذي أقر بعض الحقوق والحريات العامة ، وأعاد الاعتبار للقضاء، وللأجهزة والهيئات الرقابية في المجتمع .
ونص هذا البيان علي اعادة بناء التنظيم السياسي الواحد علي أساس الانتخاب الحر.
ولكن لم يؤد ذلك الي تطور ملموس في أداء الاتحاد الاشتراكي العربي، في الوقت الذي كانت الجهود موجهة للأعداء لحرب تحرير الأرض وعبور هزيمة 1967 ، وهو ما تحقق في حرب اكتوبر عام 1973 التي حققت النصر العسكري الذي أفسح الطريق لعمليات الاصلاح السياسي والاقتصادي.
أ - محاولة لتطوير التنظيم الواحد :
وكانت ارهاصات هذا الاصلاح بدأت منذ منتصف عام 1971 عبر الافراج عن المعتقلين السياسيين (في 15 مايو 1971)، وصدور القانون رقم 34 في يونيو عام 1971، ومجموعة القرارات المكملة له بهدف تصفية الحراسات . كما صدر في عام 1972 القانون رقم 23 والذي سمح لمن وصفوا من قبل بأعداء الثورة، ممن حددت ممتلكاتهم طبقا لقوانين الاصلاح الزراعي أو التحول الاشتراكي أو خضعوا للحراسة، بدخول المؤسسات السياسية والمشاركة في العمل السياسي.
وإذا كانت الظروف قبل حرب أكتوبر عام 1973 قد حالت دون إجراء تحولات ملموسة، فإن تلك الظروف تغيرت بعد الحرب مما ساعد في إزالة الكثير من المعوقات التي أعاقت عملية التغيير. فقد أضحي المجتمع المصري أكثر تهيؤاً للتغيير وتفاؤلا بالمستقبل . وجاءت أول خطوة عملية تجاه التعددية الحزبية من خلال ورقة أكتوبر التي أصدرها الرئيس السادات في أبريل عام 1974 والتي بالرغم من إقرارها مفهوم التحالف- التنظيم السياسي الواحد- كإطار يضمن الوحدة الوطنية إلا أنها عادت وأكدت علي ضرورة أن تكون هناك فرصة متاحة من خلال صيغة التحالف لكل القوي لكي تعبر عن آرائها علي أن تتبنى الدولة الاتجاه الذي يحظي بتأييد الأغلبية حيث يؤدي ذلك إلي (جعل التحالف إطارا صحيحا للوحدة الوطنية تعبر من داخله كل قوي التحالف عن مصالحها المشروعة وعن آرائها بحيث تتضح الاتجاهات التي تحظي بتأييد الأغلبية والتي يجب أن تتبناها الدولة). وأكدت كذلك علي (أن التنظيم السياسي يجب أن يكون بؤرة للحوار تنصهر فيها الأفكار المتعارضة وتتبلور الاتجاهات التي تعبر بحق عما تريده القاعدة الشعبية العريضة).
وفي خطابه الذي ألقاه في يوليو عام 1974 بمناسبة الذكري الثانية والعشرين لثورة 1952 تحدث الرئيس السادات عن أن (الاتحاد الاشتراكي بصورته الحالية ولظروف كثيرة ومراحل متعددة مر بها أصبح محتاجا إلي تطوير عميق) وأعلن أنه اعد ورقة للمناقشة تتضمن أفكاره حول هذا الموضوع وهي الورقة التي عرفت بإسم ورقة تطوير الاتحاد الاشتراكي والتي طرحت للمناقشة بالفعل في أغسطس من نفس العام. وقد دعا فيها الي إعادة النظر في شكل التنظيم السياسي وذكر أن الهدف من التطوير (أن يكون الاتحاد الاشتراكي بوتقة حوار تنصهر فيها الأفكار المتعارضة وتتبلور فيها الاتجاهات) حيث (أن طبيعة الأشياء أن يختلف الناس حول القضايا السياسية والاجتماعية) وبالتالي فإن (الاتحاد الاشتراكي الذي يمثل قوي الشعب العامل أولي به أن يأخذ بأسلوب تمثيل الاتجاهات المختلفة في قياداته حتي لا يشعر اتجاه له تأييد بين الجماهيرية أنه مبعد تماما عن المشاركة في قيادة التنظيم فيفقد التنظيم شعوره بالانتماء إليه). وقد دار في أعقاب هذه الوثيقة- وحتي انعقاد المؤتمر القومي العام الثالث للاتحاد الاشتراكي في يوليو 1975- حوارا موسعا انتهي إلي تقرير أعدته لجنة انبثقت عن اللجنة المركزية والتي كان مقررها د. رفعت المحجوب، لخص اتجاهات الرأي العام بخصوص هذه المسألة، وأكد فيه علي تأييد الفلاحين والعمال والشباب والتنظيم النسائي لاستمرار الاتحاد الاشتراكي- باعتباره ممثلا للوحدة الوطنية- وعلي رفض مفهوم تعدد الأحزاب الذي دعا إليه المثقفون ورجال الفكر من أساتذة الجامعات والصحفيين وأعضاء النقابات المهنية المختلقة. كما ظهر هذا الاتجاه أيضا في الحوار الذي دار في خمس محافظات، وخلص التقرير إلي أن الكثرة تطالب بالإبقاء علي الاتحاد الاشتراكي مع تطويره تطويرا ديمقراطيا. وأوصي بإقامة منابر تعبر عن الاتجاهات المتعددة داخل الاتحاد الاشتراكي. وتلا ذلك صدور قرار المؤتمر القومي العام الثالث للاتحاد الاشتراكي في يوليو عام 1975 بإنشاء منابر داخل الاتحاد الاشتراكي تكون منابر للرأي، وذلك مع التأكيد علي ضرورة عدم المساس بالالتزام بصيغة التحالف كتعبير عن الوحدة الوطنية، حيث أكد علي أن أغلبية الجماهير قد استبعدت فكرة الأحزاب كما استبعدت فكرة الحزب الواحد، إلا أنها أجمعت علي ضرورة تمكين الاتجاهات المختلفة من التعبير عن رأيها والدعوة إليه. فكانت صيغة تعدد المنابر هي الصيغة المناسبة لأن المنابر تعني اختلاف الرأي في إطار الاتفاق العام. وهذا التنوع في الاتجاهات والاجتهادات هو الذي يكفل أن يتحول المواطن المتفرج إلي مواطن مشارك، كما أن المنابر وإن وصفت بأنها منابر للرأي إلا أنها ليست منابر فكرية خالصة لأن هناك درجة من الالتزام يجب أن تلتقي حولها كافة المنابر وهي الالتزام بمواثيق الثورة الأساسية. وترتيبا علي هذا القرار قام الرئيس السادات بتعيين لجنة مستقبل العمل السياسي برئاسة سيد مرعي في يناير عام 1976 من أجل دراسة موضوع المنابر ودورها في دعم الديمقراطية وأثر ذلك علي مستقبل العمل السياسي في مصر. ووصفت مهمتها بأنها لجنة استماع وتحديد اتجاهات لمعرفة آراء قطاعات الشعب المختلفة وقد شملت اللجنة 168 عضوا وعقدت 16 اجتماعا فيما بين 2 فبراير و9 مارس عام 1976. وأسفرت مناقشات اللجنة عن بروز أربعة اتجاهات أولها: يسمح بإقامة منابر داخل وخارج الاتحاد الاشتراكي وثانيها: يطالب بعدم الاكتفاء بصيغة المنابر ويري ضرورة السماح بإقامة أحزاب سياسية وثالثها: يؤكد علي صيغة الاتحاد الاشتراكي إلا انه يسمح بأن تكون المنابر داخله متحركة. والاتجاه الرابع الذي مثًّل الأغلبية في اللجنة هو الذي تمسك بالاتحاد الاشتراكي ولم يسمح إلا بمنابر ثابتة داخله علي أحسن تقدير، وحذر بشدة من أي صيغة أخري وخاصة صيغة تعدد الأحزاب. وكذلك دار حوار طويل آخر حول عدد المنابر التي يسمح لها بالنشاط حيث وصل عدد المنابر التي أعلن عن قيامها في مطلع عام 1976 الي واحد وأربعين منبرا. وفي النهاية أصدرت اللجنة توصياتها في مارس عام 1976 بإنشاء ثلاثة منابر تمثل الوسط واليمين واليسار وقد تبني الرئيس السادات هذه التوصيات وأصدرها رسميا في14 مارس عام 1976 . وفي خطاب ألقاه في 28 مارس عام 1976 قرر الرئيس تسمية هذه المنابر بالتنظيمات وحدد أسماءها وأسماء زعمائها فإختار رئيس الوزراء ممدوح سالم مقررا لمنبر مصر العربي الاشتراكي (الوسط) ومصطفي كامل مراد مقررا لمنبر الأحرار الاشتراكيين (اليمين) وأخيرا خالد محيى الدين لمنبر التجمع الوطني التقدمي الوحدوي (اليسار).
ساحة النقاش