6 - انتزاع المساواة يحقق التسامح :
لقد أخذت حركة استعباد السود دفعة قوية منذ بداية القرن السادس عشر بسبب اكتشاف العالم الجديد في الأمريكتين، والحاجة الشديدة للأيدي العاملة لزرع المساحات الشاسعة من الأراضي الموجودة هناك. ففي ذلك الوقت بدأت حركة نشطة لجلب العبيد من أفريقيا إلى المستعمرات الأسبانية والبرتغالية في أمريكا الوسطى والجنوبية. أما في أمريكا الشمالية فلم تنشط عملية جلب العبيد من أفريقيا إلا في سبعينيات القرن السابع عشر، بعد اكتشاف زراعة الدخان التي تحقق ثروات ضخمة، في الوقت الذي تحتاج فيه إلى أيدي عاملة وفيرة، وبعد أن أصبحت عملية استعباد السكان الأصليين عاجزة عن سد احتياجات مزارع الدخان والقطن المتنامية. فقد كان شراء العبيد الأفارقة أوفر بكثير من دفع الأجور للعمال من الأوروبيين المهاجرين. فبينما كانت تكلفة شراء العبد عند منتصف القرن السابع عشر حوالي 27 دولارا، فإن الأجر اليومي للعامل الأبيض كان حوالي 70 سنتا، أي أن ثمن شراء العبد لم يكن ليزيد عن الأجر الذي يتلقاه العامل الأبيض في أربعين يوما.
طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر كانت العبودية مصدرا أساسيا لتوفير قوة العمل اللازمة في شمال أمريكا. ولكن مع بداية القرن التاسع عشر بدأت حركة تحرير العبيد في تحقيق انتصارات. ففي عام 1811 صدر في بريطانيا قانون يمنع العبودية ويحرر العبيد. وقد تم تطبيق هذا القانون في المستعمرات البريطانية، بما في ذلك كندا في أمريكا الشمالية، أما في الولايات المتحدة التي كانت قد استقلت عن بريطانيا قبل ذلك بأقل من أربعين عاما، فإن العبودية استمرت. وبينما أصدرت بعض ولايات الشمال الأمريكي قوانين لإلغاء العبودية بعد صدور القوانين البريطانية بقليل، فإن ولايات الجنوب الأمريكي، التي كانت شديدة الاعتماد على الأيدي العاملة للرقيق في مزارع الدخان والقطن الشاسعة، قاومت ذلك الاتجاه، ولم يتم إلغاء العبودية فيها إلا بعد هزيمتها في الحرب الأهلية التي جرت بين ولايات الشمال والجنوب في الفترة 1861-1865.
في الأول من يناير عام 1863، في خضم الحرب الأهلية المستعرة، أصدر الرئيس الأمريكي إبراهام لينكولن إعلان تحرير العبيد. غير أن الإلغاء الرسمي للعبودية لم ينه التمييز ضد السود الأمريكيين، خاصة في ولايات الجنوب الأمريكي التي كانت في الجانب المعادي لتحرير العبيد أثناء الحرب الأهلية الأمريكية. ففي بعض الولايات، مثل نيوأورليانز ولويزيانا والآباما وكارولينا الجنوبية ومسيسيبي، ظل السود حتى بعد تحررهم من العبودية ضحية للتمييز. فلم يكن مسموحا لهم بالاختلاط بالبيض في المطاعم والمدارس، وكانوا مُلزمين بالجلوس في المقاعد الخلفية في المواصلات العامة، كما كان من شبه المستحيل بالنسبة لهم أن يحصلوا على وظائف في الإدارات التابعة لحكومات تلك الولايات.
بل وصلت العنصرية ببعض البيض إلى حد ارتكاب أعمال عنف وفظائع، ففي ولاية نيوأورليانز في عام 1866 قام المتعصبون البيض بأعمال شغب ضد الأحياء التي يقطنها مواطنون سود فأسفرت عن مقتل 35 من السود وجرح أكثر من مائة منهم. أما في عام 1908 فقد قام المتعصبون البيض في مدينة سبرنجفيلد -مسقط رأس إبراهام لينكولن صاحب إعلان تحرير العبيد- بالاعتداء على الأحياء التي يسكنها السود في المدينة، وقاموا بإعدام إثنين من العجائز السود. أما في عام 1917، فقد نشبت في مدينة سانت لويس اضطرابات بين العمال البيض والسود العاملين في الصناعات العسكرية، أسفرت عن مقتل أربعين من السود وثمانية من البيض. وفي عام 1919 في شيكاغو، وقعت صدامات عرقية بين البيض والسود استمرت لمدة ثلاثة عشر يوما، وأسفرت عن مقتل 23 من السود، و15 من البيض، بالإضافة إلى طرد أكثر من ألف أسرة سوداء من منازلهم وتركهم بلا مأوى في العراء.
لقد بلغت العنصرية ضد السود ذروتها في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، حيث ظهرت جماعات عدة من البيض المؤمنين بتفوق الجنس الأبيض، وكانت جماعة كوكلوكس كلان هي أكبر هذه الجماعات، حيث بلغت عضويتها في العشرينيات من القرن العشرين أربعة ملايين عضـو، وكانت هذه الجماعة أكثر الجماعات المعادية للسود عنفا وتعصبا، وثبت تورط أعضائها في أغلب حوادث العنف العنصري التي وقعت في الولايات المتحدة الأمريكية في تلك الفترة.
ولم يكن البيض وهم يمارسون كل هذا الاضطهاد ضد السود يستطيعون أن يقولوا للسود ما الذي عليهم بالضبط أن يفعلوه لكي يتخلصوا من هذه المحنة. وفي الحقيقة فإنه لم يكن مطلوبا من السود أن يفعلوا أي شئ للخروج من هذه الوضعية الدونية. فكل ما كان مطلوبا منهم هو قبول وضعهم المتدني، وعدم معارضته أو رفع الصوت بالشكوى.
غير أن السود لم يستسلموا لهذا الوضع، وكان عليهم أن يختاروا بين واحد من طريقين، الأول هو مواجهة العنف بالعنف، والكراهية بالكراهية، والتعصب بالتعصب. أما الطريق الثاني فكان يقوم على اتباع أساليب الكفاح السلمي، والعمل على إقناع المجتمع كله -بما فيه البيض- بعدالة قضيتهم، والعمل على نشر المساواة والتآخي بدلا من الكراهية والتعصب والعنف المتبادل.
لقد اسودت الدنيا في وجه العديد من الأفارقة الأمريكيين، وكان التعصب والتمييز الذي يصادفونه أكبر من طاقتهم على الاحتمال، فتغلبت عليهم مشاعر الرغبة في الانتقام، فكونوا جماعات بادلت العنف الأبيض بعنف أسود، والكراهية البيضاء بكراهية سوداء، والتعصب للبيض بتعصب للسود، فظهرت جماعات مثل الفهود السود والقوة السوداء، وهي الجماعات التي اتبعت نفس الأساليب العنصرية التي اتبعتها جماعة كوكلوكس كلان، ولكن هذه المرة ضد البيض.
غير أن القسم الأكبر من الأفارقة الأمريكيين اختاروا الطريق الآخر، فانخرطوا في حركة الحقوق المدنية التي قادها الدكتور مارتن لوثر كينج منذ منتصف الخمسينيات. لم يكن سبيل الكفاح السلمي الذي اختارته حركة الحقوق المدنية أقل تكلفة أو أقل مشقة من الأساليب العنيفة التي اختارتها الجماعات المتطرفة. فقد عانى مارتن لوثر كينج وأنصاره من التصدي العنيف من جانب قوات الشرطة لمسيراتهم واعتصاماتهم السلمية، ومن الأوامر المتكررة بالحبس بتهم تكدير وتهديد الأمن العام، بل والتعرض لعنف الجماعات العنصرية البيضاء. ففي عام 1955 قامت هذه الجماعات بنسف منزل مارتن لوثر كينج بسبب قيادته لأعمال الاحتجاج التي استهدفت إنهاء الفصل العنصري في وسائل المواصلات العامة في مدينة مونتجمري بولاية الآباما. ولكن صلابة الدكتور كينج أسفرت -بعد كفاح استمر أكثر من عام- عن المساواة بين البيض والسود في استخدام المواصلات العامة، وهو الانتصار الذي كان بمثابة ميلاد جديد لحركة الحقوق المدنية، فاكتسبت الحركة أنصارا جدد في كل ولايات ومدن الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد نجح الكفاح السلمي لحركة الحقوق المدنية بقيادة مارتن لوثر كينج في كسب تأييد ليس السود فقط، وإنما أيضا القسم الأكبر من البيض الأمريكيين أنفسهم. وتمثلت ذروة استعراض الحركة لقوتها وسعة التأييد الذي تتمتع به في 28 أغسطس عام 1963 عندما نجحت في تنظيم تجمع حاشد في العاصمة الأمريكية واشنطن، بلغ عدد المشاركين فيه 200 ألف من كافة الفئات العرقية وليس السود فقط.
أمام هذا الجمع الحاشد ألقى مارتن لوثر كينح خطابا رائعا أصبح بعد ذلك جزءا أساسياً من الفكر والتاريخ السياسي لأمريكا، وهو الخطاب المعروف باسم أحلم، الذي نقتطف منه فيما يلي بعض الفقرات.
لدي حلما عميق الجذور نابتا في تربة الحلم الأمريكي ذاته.
أحلم بيوم تسمو فيه هذه الأمة إلى آفاق تحقيق جوهر ما تؤمن به من أن الله قد خلق الناس جميعا متساوين.
أحلم بيوم تصبح فيه حتى ولاية مسيسيبي التي تئن تحت القمع، واحة للحرية والعدالة.
أحلم بيوم يعيش فيه أطفالي الأربعة في أمة لا يُقيَم الناس فيها على أساس لونهم وإنما على أساس ذواتهم.
لدي اليوم حلما
أحلم بأنه يوما ما في ولاية الآباما، بكل ما فيها من عنصريين آثمين، وبحاكمها الذي تقطر من فمه معاني البغضاء والإنكار، سيشِبك أطفالنا السود الصغار، أولادا وبنات، أيديهم مع أقرانهم الصغار من البيض كأخوة وأخوات حقيقيين.
لدي اليوم حلما
أحلم بيوم تغمر فيه المياه كل واد، وتعلو فيه هامة كل هضبة، ويصبح كل جبل أقل علوا، وتُمهد كل الطرق المُحطَمة، فتنكشف عظمة الله للناس جميعا.
هذا هو حلمنا، وهذه هي الرؤية التي سأحملها معي إلى الجنوب، والتي بها سوف نكون قادرين على انتزاع صخور الأمل من جبل اليأس.
إنها الرؤية التي ستتيح لنا تحويل الشقاق الرهيب الذي يلف أمتنا إلى معزوفة إخاء جميلة.
وهي الرؤية التي سنكون بها قادرين على العمل معا، والصلاة معا، والكفاح معا، والذهاب إلى السجن معا، والصعود إلى الحرية معا، موقنين من أننا سنصبح أحرارا في يوما ما.
إنه اليوم الذي سيغني فيه الناس جميعا أغنية جديدة:
يا وطني يا أرض الحرية الحلوة
بك أتغنى
يا أرضاً مات عليها أجدادي
يا مفخرة الأتقياء
من جنبات كل جبل
دع أجراس الحرية تدق
لقد نجحت حركة الحقوق المدنية في تحويل قضية المساواة بين الجماعات العرقية المختلفة في الولايات المتحدة الأمريكية إلى قضية إجماع وطني، الأمر الذي تم ترجمته في قانون الحقوق المدنية الذي أصدره الكونجرس الأمريكي في عام 1964، والذي تم بمقتضاه اعتبار المساواة بين كل الأمريكيين سياسة فيدرالية ليس من حق أي ولاية أن تخالفها، على عكس الممارسة التي كانت شائعة قبل ذلك، والتي كان بمقتضاها من حق الولايات المختلفة أن تنظم العلاقات بين الجماعات العرقية التي تعيش فيها بالطريقة التي تراها. وهكذا تكون حركة الحقوق المدنية قد برهنت على أن النضال السلمي لا العنف، المؤاخاة لا الكراهية، والتسامح لا التعصب، هي السبيل الأمثل لتحقيق المساواة والحرية والعدالة.
وفي الرابع من أبريل عام 1968 قام متعصب عنصـري من البيض باغتيال مارتن لوثر كينج في مدينة ممفيس بولاية تينيسي. ومع أن الرجل الذي لعب الدور الرئيسي في القضاء على التمييز العنصري في الولايات المتحدة لم يعش طويلا ليشهد ثمار جهده، فإن ملايين الملونين من السود وغيرهم في أمريكا قد قطفوا ثمار كفاحه. وقد اعترفت أمريكا كلها بفضل الدكتور كينج في تخليصها من العبء البغيض للعنصرية عندما اتخذ الكونجرس قرارا باعتبار يوم الاثنين الثالث من شـهر يناير من كل عام عيدا وعطلة قومية باسم يوم مارتن لوثر كينج، لتتذكر فيه الأمة الأمريكية أن عليها أن تتمسك بالتسامح وبما وصلت إليه من مساواة وعدالة بعد أن قطعت شوطا كبيرا على طريق التخلص من عنصرية اللون .
<!--
ساحة النقاش