جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
"أمشي إليها"
سامح أبو هنود
عندما تتراكم مجموعة كبيرة من القصائد عند الشاعر، ويريد أن يصدرها يحتار أيا منها يخرجها للنور أولا، لهذا نجد الاصدار الأول غالبا ما يحاول الكاتب أن يظهر لنا نماذج متعددة ومتنوعة من انتاجه الأدبي، خاصة في المجموعة القصصية وفي ديوان الشعر، لهذا نجد التعدد والتنوع في المواضيع وحتى في شكل وطريقة تقديم المادة الأدبية، وأحيانا في اللغة، فهو يريد أن يمتع المتلقي بما يقدمه من أدب.
في هذا الديوان سنجد مواضيع متعددة، من الغزل، إلى الاهتمامات العائلية والأسرية، إلى الهم الوطني والقومي، مرورا بالحالة الشخصية للشاعر، لكن اللغة هي الجامع والموحد لكل هذه القضايا، واعتقد أن هذه اللغة كافية لتشير إلى الشاعر "سامح أبو هنود" بحيث يمكننا أن نعرفه من شعره حتى لو لم نقرأ اسمه على القصيدة، فاللغة التي يستخدمها تميزه عن غيره من الشعراء، وهي كافية لتجعلنا نتعرف على الشاعر ونقول أن اللغة هي العلامة التي تشير إليه، وهذا الامر يمثل أهم علامة عند أي شاعر.
المتناقضات
طريقة التفكير في مجتمع الهلال الخصيب أنه يتعامل مع المتناقضات على أنها حالة طبيعية، فهناك الليل والنهار، والربيع والخريف، والصيف والشتاء، والخير والشر، فرغم انحياز الإنسان الهلالي إلى الخير، إلا أنه ينظر إلى القحط/الشر/الموت كأنه جزء طبيعي من الحياة، وكأنه في العقل الباطن يمهد ليتقبل/يتعامل مع هذا الشر/الموت على أنه حالة طبيعية في الحياة، وعليه أن لا يقنط أو يكفر بالحياة بما يراه ويحصل من سوء، لأن النهار/الربيع قادم بالتأكيد، الشاعر "سامح أبو هنود" يؤكد على هذه الثنائية في الحياة من خلال ما جاء في الديوان، يقول في قصيدة "لم أهادن":
"غزاني الشيب لكني ببأسي
كحلك الليل فاخذر من عصاني" ص20، ورغم تطابق المعنى بين حالة الإنسان عندما يشيب والليل، إلا أن لون الشيب الأبيض يتناقض مع حلكة الليل، وهذا ما يؤكد أن عقل الإنسان الهلالي دائما يتعاطي مع المتناقضات على أنها حالة طبيعية في الحياة.
ويقول في قصيدة "خشية":
"تجهم إن ضحكت وزاد حنقا
وإن يوما عبست أراه بشا" ص22، فهناك حركة متعاكسة بين التهجم والضحك وبين العبس والبشا، رغم أن القصيدة تتحدث عن علاقة الشاعر بالحبيبة، إلا أنه يستخدم حالة (الصراع) ليشير إلى متانة علاقته بها، فهل لهذا علاقة بفكرة الصراع بين "البعل والموت"؟
وفي قصيدة العنوان "أمشي إليها" يقول:
"هذا دليلك لا بدر فنوقظه
والنجم غاب، كذا خلانك انصرفوا
فاسعي إليه فذاك الفجر مرتقب
لا تخذليه في الندى الشغف
أمشي إليك كمن يمشي على وجع
والريح تعصف الأغصان تنقصف" ص75و76، في هذه الابيات العديد من المتناقضات، التيه من خلال وجود "هذا دليلك" وفقدان البدر والنجم، وفعل "فاسعي إليه وبين لا تخذليه، وبين "أمشي إليك" والريح تعصف، وإذا ما قاربنا هذه الأجواء بما جاء في الملحمة الكنعاية "البعل" سنجد تقارب كبير في الأفكار والأحداث، وكان الشاعر يستحضر الملحمة وما فيها من صراع لكن بلغة عصرية وهموم جديدة.
المرأة والطبيعة
دائما المرأة والطبيعة تمنح الشاعر سكينة، بحيث تحرره من واقعه وتجعله يهيم فيهما، فيتقدم من الحياة برؤية جديدة، ولا نبالغ ان قلنا أن "سامح أبو هنود" أثبت أنه من الشعراء الذين يحسنون المزج بين المرأة والطبيعة، في قصيدة "تذكار" يقول:
"أمطرت روح الوردة غيثا قل ما
اسمعت نكرانا من الأزهار
زر في الربيع وقف بحقلة روحها
وارقب عتاب الريح للأشجار
واسمع تسابيح الندى بجلاله
في الصبح وقت تفتح النوار
وافكك عن النوار زر قميصه
لتفوح من أكمامه أخباري" ص23و24، حضور المرأة والطبيعة انعكس على اللغة البيضاء المستخدمة في القصيدة، حتى أن الشاعر تخلص تماما من واقعه وهام في عالم آخر من الفرح والصفاء، ولا يكتفي الشاعر بالألفاظ البيضاء التي جاءت في القصيدة، بل يمتعنا أكثر من خلال الصور الشعرية التي قدمها لنا، فأضافت متعة أخرى إلى لغة القصيدة.
المضمون الصعب والتقديم الناعم
واقعنا في المنطقة العربية في غاية السوء، ودائما نسعى لتجاوزه أو القفز عنه، محاولين التخفيف من واقع الحال علينا، فنلتجئ إلى المرأة أو الطبيعة أو الكتابة أو الثورة، لنخفف من الضغط الواقع علينا، لكن أحيانا نجد هذا الواقع يقف أمامنا وجها لوجه، مما يوجب مواجهته، في قصيدة "لا ضير في الذل..." يقدم لنا الشاعر واقعنا البائس بهذا الشكل:
"كم أرهق القلب بنض لا صليل له
كواتم الصوت في الشريان منتصبه
قد قزمونا فأمسينا بلا قدم
وحجمونا فأصبحنا بلا رقبة
وكم رضينا ببؤس صار شيمتنا
وكم سكنا إذا أبدا لنا غضبه
قالوا سنرجع ما قد ضاع فأصبروا
لما اصطبرنا أضعوا القدس والهضبة
واستنزفونا بحرب لا وجود لها
واستبدلوا المدفع الرشاش بالقصبة" ص31، احدى الوسائل التي تخفف من وقع الحال استخدام الفانتازيا أو السخرية، والواقع البائس لا يحتمل استخدم لغة معجمية، فيكفي المتلقي أنه يقرأ عن واقعه المزري، "سامح أبو هنود" استوعب هذا الواقع واستخدم لغة سلسة وسهلة لوصل فكرته بأقل جهد، وإذا ما اصفنا الفنتازيا والتي استخدمها في "بلا أقدام و رقبة، وإذا ما اضفنا سلاسة اللغة يمكننا القول أن الشاعر كان ذكيا في هذه القصيدة التي استطاع أن يتجاوز فيها الواقع من خلال اللغة والفنتازيا والسخرية التي جاءت باستبدال المدفع بالقصبة.
الأسئلة
الأسئلة أحدى الوسائل التي تدفع المتلقي ليتوقف عند النص الأدبي، وتكمن أهمية الأسئلة أنها تثير القارئ فكريا، بحيث يجد نفسه امام حالة وعليه أن يجيب، فهو ليس وعاء فارغ، بل هو من عليه أن يملي هذا الوعاء بما يراه مناسبا، في قصيدة "أرج الرحيل" يقدم لنا الشاعر مجموعة من الاسئلة:
"من يوقد النار إن ما البرد داهمنا؟
من يملأ البيت حبا منه نغترف؟
من يوقظ الفجر إن غابت ويوقظنا؟
"قم للصلاة" وللرحمن فازدلفوا
من بعدها اليوم يأتي كي يحذرنا
جيش هناك وها للبيت قد دلفوا" ص94، الجميل في الأسئلة أنها تقدمنا من التفكير وتجعلنا نتحرر من القوالب/الأفكار الجاهزة، بمعنى أننا نحن من علينا أن نقدم الاجابات/الحلول وليس الشاعر، وهنا يتحول المتلقي إلى قارئ مفكر، عليه أن يكتشف/يضع/يصنع الحلول.
الصور
من جمالية القصائد وجود صور شعرية تمتع القارئ، بحيث تخفف عن شيئا من وقع الحال، كما أن للصورة أثر ايجابي على القارئ بحيث تجعله يهيم بها، كما هو الحال بالنسبة للأسئلة، فإذا كانت الأسئلة تثير العقل نحو مسائل ملحة وضرورية، فإن الصور تثير العقل ليهم في عالم من الجمال بحيث يحلق القارئ في آفاق بلا حدود، يقول الشاعر في قصيدة "لا تنسى موعدنا":
"مرت كأغنية والحن يتبعها
والريح يحملها كالطائر الغرد" ص101
المناجاة
لشاعر رسالة يحاول أن يوصلها للمتلقين، لكن دائما الطريقة غير المباشرة هي الأجمل والأكثر تأثيرا على القارئ، يمتعنا الشاعر بقصيدة "مناجاة" من خلال الطريقة التي يناجي بها الله، فهو المستعان وقت الشدائد، وهل هناك أجمل من الاستعانة بالذي لا يرد أحدا؟:
"إلهي ضاق بي عيشي أعني
كأني قد بليت به كأني
على حاليه ذقت الدهر قهرا
فخاب بع على الحالين ظني
فأورثني الضنى والسقم حتى
حسبت البؤس جزءا صار مني
إلهي من سواك اله أشكو
وهل إلاك يا الله يغني
فمن ألاك إن ما قلت ربي
يفرح كربتي ويفل حزني
إليك أبث أشجاني وهمي
وأعصر مهجتي دمعا يجفني" ص81و82، الجميل في هذه المناجاة أنها صادرة عن الشاعر، فهو من يتوجه إلى الله، وكأنه من خلالها يدعوا أيضا لنتجه إلى الله، فمثل هذا التوجه بالتأكيد يريح النفس، ويعطيها طاقة إضافية لتستمر في الحياة متجاوزة وقع الحال، اعتقد أن الأهمية هذه القصيدة انها تمثل دعوة ـ غير مباشرة ـ لنكون مع الله ونقدم منه أكثر، إلا يكفني أنه يكشف السوء ويجيب المضطر؟.
ويقول في قصيدة "أقول لابني":
واصبر على الدهر إن أبدى نواجذه
فالصبر علا مع قلة العدد
أن ضاق صدرك من غم ومن سأم
فأهجد بليلك وادع الواحد الأحد" ص111، رغم أن هذا الدعوة جاءت مباشرة، إلا أنها لم توجه إلى القارئ بل إلى ابن الشاعر، مما يجعل دعوته غير صريحة.
البعد القومي والوطني
الشاعر ابن بيئته، فهي تؤثر عليه سلبا أو ايجابا، والشاعر النبيل هو الذي يحمل هموم شعبه وامته، والفلسطيني يتأثر بالواقع بالمحيط به، بالواقع العربي، فهو بطبيعته وطني وقومي، ويحرص على البلدان الأخرى كما يحرص على وطنه فلسطين، وهو يفرح للإنجازات التي تتحقق في المنطقة العربية ويحزن ويتألم لما يصيبها، في قصيدة "لم يبقى إلاي..." نجد البعد القومي العربي حاضرا:
"أهلي هناك بأرض الشام قد فتنوا
فاستأسد الشر في شرعه احتكموا
صنعاء غص بدمع العين مأربها
قابيل عاد بجيش دونه نقيم
بغداد يا صفوة الأسماء في خالد
يا صولة السيف فيك الحق يعتصم
بغداد فيك رجاء الروح متصل
أضعت دلوي إن لم يحكم الوذم
يا قدس يا قبلة الأرواح إن سجدت
حسناء بالقلب لا بالثغر تلتثم" ص66و67، بهذا يكون الشاعر قد جمع بين الفكرة والشكل واللغة وقدم لنا ديوان "أمش إليها" باكورة انتاجه الشعري، والذي اقنعنا بأننا أمام شاعر من واجابه علينا أن نقف عند انتاجه متأملين بهذا المولود الجديد، الذي يمتعنا بجماله وبلغته.
الديوان من منشورات دار دجلة ناشرون وموزعون، عمان، الأردن، الطبعة الأولى 2018.
المصدر: مجلة عشتار الالكترونية