السواد في ديوان
"يتنفس الحزن فضاءاته المعتمة"
خليل إبراهيم حسونة
هذا الديوان الثالث الذي اتناوله للشاعر الفلسطيني "خليل إبراهيم حسونة" فهناك عناصر مشتركة وأخرى مختلفة مع الديوانين السابقين، من العناصر المختلفة حجم السواد الحاضر في هذا الديوان، ورغم هذا نجد الشاعر يمتعنا بما يقدمه لنا، فاللغة الجميلة والصور الشعرية كلها عناصر تخفف من وطأة السواد على المتلقي، وتجعله يتقدم من الديوان وبشف، وهنا تكمن عبقرية الشاعر، الذي يراعي مشاعر القارئ واحاسيسه، ويعمل على تقديم المشاهد القاسية بلغة وصورة شعرية، وهذا ما يجعلها تقرأ بغير تعب أو إرهاق.
من ميزات الشاعر أن ما يصدره من دواوين شعرية هي أقرب إلى عالم الرواية الفسيح والواسع، فنجد المكان المترامي الأطراف، والأحداث التاريخية، واقتباسات من التراث والأساطير والكتب المقدسة، ونجد عدة اصوات تخاطبنا في الديوان، كلها عناصر تعد ركائز في العمل الروائي، وهذا ما يجعلنا نقول أن "خليل إبراهيم حسونة" شاعر روائي، يجد في الشعر مساحة كافية تعطيه الفسحة ليتحدث بكل ما يريد كما هو الحال في الرواية.
من الصور السوداء ما جاء في قصيدة "لها وللبلابل":
"غناء مختلف
(1)
هو الجرح غنى:
الغزاة غربان شؤم، تحوم حول الجثث الحريقة
عناوين شهادة دون وتر وعيون الصبايا الدليقة
ترشف لظاها، كلما قام الخليفة عن عرشه
صارخا في عيون تهادت
لحظات التجلي باحتمال مخاتل.." ص7،
أن يفتتح الشاعر ديوانه بهذا القصيدة القاتمة يعد مغامرة، فهل يعقل أن يجد قارئ ـ في عصر الهزائم والخراب والموت ـ يتقبل مثل هذه الصور؟، لكن شاعرنا الواثق بشعره يتقدم بنا إلى الأمام من خلال هذه الصور، واثقا بلغته وبصوره الشعرية التي يستطيع من خلالها جذب المتلقي، الملفت للنظر أن الشاعر لا يتحدث عن الغزاة فقط، بل ربط وجودهم "بالخليفة"، وهذا "الخليفة" ما جعل القارئ يشعر أنه أمام شاعر جريء.
وبما أن هناك خليفة فلا بد من الحديث عن النظام الرسمي العربي ودوره في الخراب الحاصل والموت المتفشي فينا، من هنا يأخذ القارئ دفعة تقربه من الديوان، فهناك حديث عن ما هو محرم ومحظور، لهذا سيجد ما (يفش غله) في هذا الديوان، كما أن حديثه عن "عيون الصبايا" يثير عاطفة القارئ ويستميله عاطفيا تجاه ما يطرحه في الديوان.
" (2)
، تقدح لحم طفل، يحتمي يزيد الروح "القيازين"
.. يعضه الجوع فترسل أنيابها لمقلتيه المنايا ،
ولا أحد يبتسم لعينيه، ويطلق لعقة من لظى" ص8
صورة متشعبه للسواد ومؤثرة، فمن خلال ل"طفل" يجعلنا الشاعر ننحاز للمظلومين ونقف إلى جانبهم، فهو يستخدم العاطفة لاستمالتنا كما فعل عندما تحدث عن "الصبايا" في المقطع الأول، فالجانب الإنساني هو الأهم عند الشاعر، لهذا نجده يركز عليه، لكن هل هذا يكفي لاستمالت القارئ وجعله يكمل قراءة الديوان (الأسود)؟، بالتأكيد لا، فلا بد من وجود محفزات جمالية تخفف من حدة المشاهد السوداء، وهذا ما نجده في الصور الشعرية التي جاءت في المقطع الثاني، فحالة الصراع بين "لحم الطفل" الذي يحتمي بالزبد تستوقفنا، فكيف لطفل أن يحتمي بالزبد؟، والمقطع الثاني الذي جعل الجوع يعض وتتكالب الأنياب عليه، ولا يجد من يتعاطف معه أو يتقدم لمساعدته، صور متداخله ومركبة تجعل المشهد في غاية الألم، لكن الصور الشعرية جاءت لتدفعنا إلى الأمام، لمعرفة المزيد عن هذا السواد.
إذا ما توقفنا عند الصور السابقة نجد أن هناك ـ راوي ـ يحدثنا عنها، لكنه ليس مشارك فيها، بل راصد لها كما نحن المتلقين للنص الشعري، نتألم لها كما يتألم الشاعر، لكنه في قصيدة العنوان: "يتنفس الحزن فضاءاته المعتمة" نجده يتحدث عن نفسه، عن "خليل حسونة" فيستخدم "ياء" الأنا في القصيدة:
" (1)
. حزين لأنى لم انم في العراء/ ..
وألم في جعبتي الحروف الأبجدية ... والمزاريب تهمي،
....
حزين لأن السماء/..لا تمطر الخبز،
على الأشقياء" ص36.
بعد أن استمالنا الشاعر للقضايا العامة وما يتعرض له الوطن و"الصبايا والطفل"، يحدثنا عن ذاته، فقد أصبحنا نحن هو مشتركين في حمل الهموم، وبما أننا اقتربنا من بعضنا، فهو يريد أن يفرغ همومه لنا، فنحن الأقرب عليه بعد حديثه السابق، لهذا وجدنا أهل للاستماع له، لكن ما هذا الكلام الذي يتحدث به!!، هو حزين لأنه "لم انم في العراء"!!، ما هي اسباب والدوافع والمبررات لهذه الصورة من الحزن؟ سؤال يتركه الشاعر للقارئ ليجيب عليه.
فرغم أن الحزن الثاني جاء بشكل منطقي إلا أن الشاعر عندما قال "لا تمطر الخبز" أذهلنا من جديد، فكيف للسماء أن تمطر الخبز، رمزية الخز واضحة، وهي قريبة المعنى، لكن التركيبة التي أبدل بها الماء بالخبز هي المذهلة والمهمة، وهي تشير إلى عدة حاجات لهؤلاء "الأشقياء" وليس إلى حاجة بعينها، وهنا يعود بنا الشاعر إلى حالة الهم العام، نشاركه ويشاركنا الهموم، وكأنه بهذا الأمر يريدنا أن نقترب منه ويقترب منا أكثر.
"(2)
حزين لدمعة كسيح هربته السماوات في منافي الشتاء ../
فصار الجنون حدائق نجم، ، وصرت الرصيف ..
، وقعت ...لم اتقدم خطوة ،
عانقتني الموانئ، والحقائب..
خاصرتني القبلات اللصيقة..
برصاص عينيها، تصفعني المطارات.
فأبحر في عتمة من رجاء/..
حزين أنادي هواي الذي صار نثاراً
غائما في الهواء."ص36و37
بعد أن أصبحنا والشاعر أقرب ما يكون، أخذ يحدثنا بطريقة حميمة، فنجده يجمع بين حالته الشخصية والحالة العامة بحيث ينصهرا معا، فهو يحزن لدمعة الكسيح، ثم صبح الجنون حالة عادية في ظل هكذا أحداث دامية، ونجد الشاعر يتماهي مع المشاهد ليكون داخلها وليس خارجها، "عانقتني الموانئ، خاصرتني القبلات" كل هذا يخدم فكرة التماهي بين الشاعر والحدث، وأيضا يدخلنا نحن المتلقين إلى الداخل الأحداث، ألم نصبح نحن هو اقرباء على بعضنا، ونعرف هموم بعضنا البعض؟، من هنا لا نقول: أن القصيدة كتبها الشاعر فحسب بل أن القصيدة هي من كتبت الشاعر، ونحن ـ القراء ـ كنا أمام ناظيره، لهذا أدخلنا إلى المشاهد وجعلنا نشاركه الأحداث.
هناك مجموعة من الأشياء التي تخدم فكرة الهجرة القصرية فيما سبق، "المنافي، الجنون، الرصيف، وقعت، خطوة، القبلات، تصفعني، المطارات، ابحر، رجاء" فنجد المكان والحالة النفسية التي يكون بها "المنفي" والأوضاع/الحالات التي يتعرض لها، وكلها صور شعرية تستوقف القارئ وتجعله ينبهر بالشكل الذي جاءت به.
ونجد في الأفعال المستخدمة الفعل الماضي والمضارع، وكأن الشاعر يريد أن يقول لنا أنه تعرض للألم وما زال يتعرض، هو وشعبه/أمته لم يعيشوا حياة عادية/طبيعية كباقي الناس، فكانت حياتهم قاسية ومازالت، وهذه دعوة لنسرع في انقاذه وانقاذ شعبه/أمته.
لا يكتفي الشاعر بالحديث عن الناس فقط، بل يتناول الحياة الطبيعية أيضا:
"(3)
حزين لأن الفراشات تبكي،
والعصافير تلثم الجمر،
لم تعد تغني هواها...، والمدى الأخيلي..
الذي صبح توبة، والحنين أرتعد..
يعانق وجهك الريان، أنسام طير الرعد" ص37.
وعندما يكون هذا الجمع المتنوع بين الاشقاء يتوجب علينا نحن المتلقين أن نستعجل العمل، فالحالة ملحة ولم تعد تحتمل.
ومن المشاهد القاسية هذا المشهد:
" (24)
...
وعجوز تمزقه النائبات يعوي على الأبواب/ يبتسم لعينه الجريحة
ظفر
وناب ..، الابرياء تناثرت أشلائهم عبر الأزقة، والشوارع تتخطى
المواقع
للاهبات .. فيذوب الذي غاب هواهم والحنين أرتعد..،
صار وجعا يعض الجوانح ويجافي الولد
فيقطر الحزن للذين تاهوا في دروب الشوك عبر الزحام..
يعانقهم القيظ، وللأرض حبل من مسد..، عذابهم يهد الجبال
ويحملون ولا أحد يقرأ حلمهم" ص55
المشاهد متتابعة ومتلاحقة بحيث يكمل كل مشهد المشهد السابق، فنجد ال"واو" و"فاء" جاءا ليخدما فكرة التواصل وتكامل الأحداث السوداء وتتابعها، في المشهد الأول العجوز الذي يمر بحالة مزرية وبائسة ـ ومن المفترض ان تتعاطف معه ـ لأن الشاعر بدأ المأساة بلفظ عيون وبفعل يبتسم، واللذان يوحيان لبداية مشهد إنساني متعاطف، لكنه يفاجئنا بلفظ "ظفر وناب" فيزيد السواد قتامة، ويدهشنا بهذا الأمر، حتى أننا لا نتصور أو نتوقع ان يكون هناك سواد بهذه القتامة، فالدهشة والذهول يستوقفنا، فكيف استطاع "خليل حسونة" أن يأتي بمثل هذا المتناقضات ويجملها معا لنكون أمام هذه البشاعة المركبة من ألفاظ سوداء وأخرى بيضاء!!.
وإذا ما توقفنا عند بقية المشاهد سنجدها تتابع تواليا، ونجد في الألفاظ وكأننا أصبحنا في الجحيم بعينه: "فيذوب، ارتعد، وجعا، يعض، يجافي، فيقطر، تاهوا، الشوك، الزحام، القيظ، حبل، مسد، عذابهم" كل هذه الأفعال والأوصاف والكلمات حاضرة في الجحيم الرباني، لكن الشاعر نقله إلى الجحيم الأرضي وجعلنا نشاهده من خلال هذه الصور.
يستخدم الشاعر شكل الومضة في قصيدة "رؤى ليست ناعمة" ليعطينا صورة سوداء بأقل عدد ممكن من الكلمات، وهذا النوع من الشعر يحتاج إلى مقدرة خاصة على التكثيف والاختزال، وقدرة على الصياغة الشعرية لتقديم الفكرة:
"تخفق الجوانح، مخفورة بالسلاسل،
منذ عقود الفجيعة..
تصرخ الجنازير .. فيبول عصفور على ذؤابة شجرة" ص91، تركيز الشاعر على المأساة في الماضي "منذ عقود" والحضر "تخفق، تصرخ، فيبول" أراد به حثنا على التقدم منها والعمل على وضع حد لها، أفلا يكفي أنها مستمرة/ممتدة منذ عقود!!.
ويقول في قصيدة "لها وللبلابل":
" (17)
تجلل الأقواس أقواسها البهية،
وتربط عقدها بالمدد..
روابي عيبال، صخرة الأقصى،
شهادة المثلى، تحتضن ذلك الموت الزؤام..
وغياب الغمام..
حالة من النعاس
لرجل أمرهم عليه التبس/..
وتوالى جنوح الهمم..
يسير إلى الحالمين بضرب الجمون التعس" ص30.
يقدم لنا الشاعر فاتحة بيضاء، لكنه صراعان ما يتحول إلى السواد، وكأنه بهذا يريدنا أن نشعر بحجم وقع السواد ليس على الأشياء "الأقواس، وروابي عيبال، والصخرة الأقصى" بل علينا نحن، المتلقين، فعندما يكون اللون الأبيض بجانب الأسود يمكننا معرفة المساحة التي تفصل بينهما أكثر من حالة تقديم اللون الأسود لوحدة أو الأبيض.
كما أن تناول الشاعر للجغرافيا الفلسطينية "نابلس/جبل عيبال والصخرة/القدس" أراد به أن يشعرنا بأهمية المكان وقدسيته، ليست الدينية فحسب بل الوطنية والإنسانية، لهذا ربط بين المكان المقدس "صخرة الأقصى" وبين "جبل عيبال".
ويقول في قصيدة العنوان "يتنفس الحزن فضاءاته المعتمة":
" (7)
حزين لأنا لصبح رجله مكسورة قام يحبو ..
والهوى على حد سواء/ ..
يخامرني كل فجر سارق النار، بشأبيب جراح
تضع على جبينه أريج الشمس، ساعة قيظ مجهدة..
تموز يعقر ناقته،
يعفر لحاظه بليل غاب فيه المدى،
الأرض تمد جدائلها، وعناة عينها مرمدة." ص40.
بداية في غاية الأبداع، فالشاعر يتفنن في رسم صورة السواد، "صبح رجله مكسورة" وكأن هناك اصرار عند الشاعر على اقران السواد بالبياض، ليبين المفارق الكبيرة بينهما، كما أن استحضار الأسطورة السومرية/البابلية/الكنعانية "تموز/البعل وعشتار وعناة" خصب النص الشعري وجعل المتلقي يتقدم من جذوره التاريخية الأدبية، فنجد تموز/البعل يغيب طويلا على غير عادته، كدلالة على الوقع الكبير الذي يحدثه غياب "تموز" على الخصب ومسار الحياة على الأرض.
ونجد حضور للمكان في قصيدة "آخر الكلام":
" (3)
ومضة أخرى ..تصرخ يافا وحيفا..
القيان تتجلى راعفات أرجلهن..
يطربن ليل العرب..
ومع كل نخب ونخب..،
على حمى لقاء الكؤوس...،
فتتيه الرؤوس..،
بما لها من علل وشظايا شغب
أطفال الندى يرسلون عيونهم
نحو صخرة الأقصى بحب نهادى" ص105.
المكان الفلسطيني يصرخ من الألم، بينما ليل العرب في حالة طرب وشرب انخاب، أيضا نجد الصور متناقضة بين الحالتين، السوداء/فلسطينية والبيضاء/العربية، لكن البياض في الحالة العربية لم يكن نقي، بل جاء بياض مخادع، بياض مغشوش، لا يعبر عن حالة حقيقية، بل عن حالة مشوشة ومغشوشة، فرغم أن الفعل يبدو أبيض في الحالة العربية، إلا أنه يعطي مدلول أسود يعمق الهوة التي تقصل الحالة العربية عن واقعها الحقيقة.
الشاعر لا يتوانى عن ذكر الجغرافيا التي تهم الفلسطيني ويتواجد فيها، فيذكرنا بعدة أماكن تهم الفلسطيني:
" (9)
أيها اليرموك..
خذني اليك..
أطلق جراح روحي المشعة.
ضمد جسدي، علق شظاياه على صفحات
المساجد والكنائس..
الأمهات يرسلن إليك ألف زهرة ممتدة من
دير ياسين، وشاتيلا تلقى عليك السلام،
صخرة الأقصى لم تفك الجدائل..
عكا ترسل إليك طير الحمام" 110.
كل هذه الامكان عانى ويعاني فيها الفلسطيني، وقد مورست بحقه أبشع الجرائم في التاريخ المعاصر، وكعادة الشاعر يجمع المتناقضين "الأسود والأبيض" بين مجزرتي "دير ياسين وصبرا وشاتيلا" وبين السلام، بين "الصخرة وعكا" الأسيرتين وبين الفرح الكامن في "فك الجدائل وطير الحمام" لهذا نقول أن وقع السواد على القارئ يكون أقوى، لكنه في ذات الوقت يقدم الصور السوداء بطريقة سلسلة، أو من خلال أدوات سهله يتقبلها القارئ، وهذا ما يحسب للشاعر.
إذن ما يميز هذا الديوان أنه قدم لنا مشاهد في غاية القتامة،، لكن الصورة الشعرية التي استخدمها الشاعر، والشكل الأدبي والمتمثل باستخدام المتناقضات، واللغة الشعرية السلسة كلها تجعل ديوان "يتنفس الحزن فضاءاته المعتمة" يعد نقلة نوعية في الشعر الفلسطيني خاصة والعربي عامة.
الديوان من منشورات دار الكلمة للنشر والتوزيع، غزة، فلسطين الطبعة الأولى 2016.
"