جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
القسم الثالث من دراستي في رواية الكاتب محمّد أحمد هيبي " نجمة النّمر الأبيض"، وقد كنت سابقًا قد أفضت في دراسة القسميْن الأوّليين من الرواية بناءً على المعاني والدّلالات والشّخصيّة المركزيّة فيها...
والآن سننتقل إلى مرحلة ما بعد النّصّ (نشاط ما بعد القراءة)، بحيث سنتحوّل من مقاربة الشّخصيّة الأنتروبولوجيّة لحركتها على اِمتداد النّصّ بوصفها كيانًا بشريًّا، إلى المعاينة السّيميائيّة بوصفها كيانًا لغويًّا وذلك بإيجاز.
نقول أنّ رواية كاتبنا محمّد هيبي تسير وفق الطّريقة الكلاسيكيّة بشكل تصاعديّ في منحاها وحبكتها، لكنّها تتفرّد بميزات حداثيّة من توظيف لتقنيّات المونولوج والدّيالوج وتيّار الوعي والاِسترجاع الفنّيّ والحلم وأسلوب المفارقة السّاخرة بالمجمل العامّ.
في مضمونها تضرب على وتر "الفقد"؛ وهنا الوطن المفقود؛ إذ رأينا محمّد الأعفم يعيش همّه بشكل طوليّ وعرضيّ محاولًا أن يسترجع وطنه المفقود أو السّليب، مطوّرًا ذلك عبر أليّات من الوعي والذّكريات، وكأنّه يبثّ أمامنا شريطًا يستعرض فيه هواجسه وذكرياته الشّخصيّة والمعرفيّة والاِجتماعيّة والتّراثيّة.
هذه الرّواية تسجّل حالة من الوعي الجمعيّ، منصّبًا الرّاوي نفسه ساردًا أمينًا للحدث، مسجّلًا التّفاصيل خاصّة تفاصيل حكاية التّهجير والاِنتكاب، وذاكرة المكان، ومحاميًا عن الأرض.
تناول الكاتب الأحداث بشكل سرديّ تعاقبيّ، أشبه برحّالة يستعرض الأحداث، لكنّها ليست تقليديّة؛ فكاتبنا يرحل معنا عبر الوعي والوعي المضادّ بشكل حداثيّ، وهو ما يعرف في الحداثة بالسّعي (Quest)، مصطلح مجازيّ يشير إلى تحرّك الذّات نحو الهدف المرغوب فيه، وفي الظّروف العامّة فإنّ هذه الحركة دائمًا تشكّل فصل الذّات عن الهدف القيّم وحركتها نحو الوصل معه.
إذا أردنا إسقاط دلالة الرّواية على الواقع، فنجد أنّ الشّخصيّة المحوريّة تسعى للوصول، بحيث أنّ الرّاوي لم يؤل جهدًا في اِسترجاع المكان وجعله حيًّا وملازمًا لكلّ حركة من حركات الشّخصيّة المركزيّة، وليس أدلّ على ذلك من السّرد الوصفيّ التّفاعليّ الّذي يطغى على الحدث. فإنّ الشّخصيّة في حركيّتها ظلّ المكان ملازمًا لها حتّى يمكن اِعتباره شخصيّة ظلّ للرّاوي الّذي اعتبر المنارة حلمه الأبديّ ولا يمكن التّنازل عنه مهما كلّفت الظّروف. وهو يُدين الأشقّاء العرب أوّلًا في تفريطهم بالوطن قبل أن يأتي المستعمر ويفرض هيمنته ويطمس ملامح القرية، فالمشهد حاضر على ما أعمله المحتلّ من تهجير وطمس للهويّة واِقتلاع البشر والحجر، وكلّ مكوّنات المكان المتمثّل في رواية محمّد هيبي بالمنارة والمعروفة بِ "ميعار".
في أيّامنا هذه لا تزال المئات من أبناء هذه البلدة المهجّرة المنكوبة تحجّ إليها في يوم نكبتها؛ كبرهان دامغ على ضرورة العودة واسترجاع الأرض، وعلى الأقلّ وجدانيًّا وشعوريًّا ووجوديًّا، لمّا تعذّر العودة الحقيقيّة جغرافيًّا كما كان!
لقد قيل في هذه الرّواية الكثير منذ خروجها إلى النّور، ونحن من خلال هذا الاِستقراء نؤكّد أنّ الكاتب يسعى من خلال الآليّات الشّكليّة والفكريّة أن يحملنا إلى قريته المهجرّة، وهو يواجه ذاك المستعمر بأدواته الّتي يعرفها ويحمّله المسؤوليّة، وإن تقادم الزّمن على التّهجير، إلّا أنّ الوعي يرفض كلّ دواعي التّدجين. وبما أنّ الكاتب ملتزمًا لوطنه وأرضه وينأى عن الإقليميّة؛ فهو يدقّ
نواقيس الخطر ليل نهار ليذكّر كلّ فرد بحلم العودة. تعذّر الرّحيل إلى القرية والسّكن فيها واقعًا، هذا قد يخلق حالة صداميّة مستقبلًا، ولمّا لم تتح السّلطات للرّاوي وما يمثّله أن يعود للقرية فإنّه جعل من الجغرافيا تسكن وعيه، ولو بشكل مجازيّ وهذا ما قاله البروفسور إبراهيم طه في تظهيره للرّواية" ... يصرّ الأعفم على أن يقيم المنارة في وعيه، في ذاكرته، حتّى تصير تُبنى وتتشكّل فوق التّراب".
إنّ الطّريق للمنارة هو طريق كلّ إنسان حرّ مناضل يأبى الانهزام والظّلم والتّهجير، وهي درب كلّ من يخوض تجربة مماثلة عن وعي. هذا لا يتأتّى بالخنوع والاستكانة وإنّما بالنّضال وقارعة القانون حتّى لا يذهب حلم العودة هدرًا وبالتّالي تموت القضيّة بموت المطالبين بها.
الرّواية تضرب على وتر الحريّة والكرامة حيال الحالة العربيّة المترديّة الرّاضية بالاِنهزام ولم يفكّروا في دقّ جدران الخزّان
لا بدّ من هزم المستعمر من أنفسنا لنحرّر أرضنا بعدها، هذا ما قاله المفكّر الجزائريّ مالك بن نبي!
إنّ الرّواية تعرّي الواقع العربيّ الفلسطينيّ، وقد حدث ما حدث لتخاذل الأنظمة العربيّة وعدم مطالبتها بالدّولة، وتنازلها عن حقّ فلسطين الّذي اِنتُكب. وما زالت النّكبات تضرب بنا وتتوالى وليس هناك من يقف بوجهها إلّا فيما ندر.
إنّ الرّواية تحرّك المشاعر والوجدان وتذيب الأبعاد الجغرافيّة وتجعل من كلّ الأوطان وطنًا واحدًا ينزف على مائدة العدوّ، وليس من مُشمّر في سبيل اِسترجاع الحقّ بشتّى الطّرق والوسائل، وإن كنّا ندرك في وعينا أنّه لا عودة عن حقّ العودة!
بقلمي: محمود ريّان
المصدر: مجلة عشتار الالكترونية