هندسة الانتباه

العلوم والفنون والآداب

 

 

البحث عن طريق للخروج من متاهة اللافتات المعكوسة...قراءة نقدية للكاتب الأديب فكرى عمر فى المجموعة القصصية (حمرة خجل) للأديب مجدي شلبي


ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
تشكل أقاصيص الكاتب "مجدى شلبى" فى مجموعته "حُمرة خجل" واحدة من محاولات النقد الاجتماعى اللاذع للعبث الذى نعيشه. الواقع اليومى محبط ومكرور. لم تتبدل سوءاته رغم التقدم العلمى، ونبرة الحرية السارية فى وسائل الإعلام الم

ختلفة. لقد تنوعت وسائل إبراز هذه العيوب بطرق واضحة فى المجموعة. لا يترك الكاتب لك الفرصة إلا لتراها من هذا المنظور الكاريكتورى، الذى يضخم الأشياء؛ فتراها بوضوح. تحاول التفكير معه فى حل ما. 

يميل الكاتب إلى هذا اللون من ألوان التعبير الساخر. يعده، فى فلسفته الخاصة، وسيلة ناجحة فعالة فى علاج مشاكل نراها كل يوم دون أن نعيرها انتباهاً، وإن كانت الرسائل المباشرة فى الأدب تبدو غير محبذة. إن القص يحبذ نقل رؤيته للحياة من خلال التلميح لا التصريح. الإيماء لا التجريح. طرح الأسئلة فى نسيج السرد الشيق. 

الأقاصيص هنا فى "حُمرة خجل" تتخفف من ذلك الالتزام تمسكاً بالتزام اجتماعى آخر. كأن عنوان المجموعة، العتبة الأولى للتعامل مع المجموعة ككل، يعطيك دلالة مراوغة. دلالة الحياء وخفوت الصوت حين تطالعه على غلاف المجموعة قبل أن تقرأها، ودلالة التوجع والقلق من كل هذه العورات المكشوفة للمجتمع بعد قراءة المجموعة. كأنه لا بد أن تعتريك حُمرة الخجل تلك وأنت تعيش كل هذا الفساد وتراه دون أن يكون لك موقف. محاولة للتغيير ولو بالكلمة. ولو بأقصوصة تبين ذلك مثلما فعل الكاتب. أقاصيص لاذعة، هكذا أحسستها وأن أقرأ، وظف فيها الكاتب إمكاناته المتعددة لينقل لنا ما يمور بداخله:

وظف الكاتب إمكاناته اللغوية فى بناء أقصوصة تعتمد على جملة قصيرة مكثفة تخلو من التفاصح والغموض.

بناء سردى اعتمد فى الغالب على المفارقة لإبراز عورات المجتمع المكشوفة.

استخدم الكاتب تكنيك القطع والتوازى بوحدات سردية مرقمة فى "اليد الرحيمة" والقطع بالأرقام فقط فى "غير مأسوف عليه".

احتل السارد أماكن متعددة فى القصص. أحياناً يسرد بضمير المتكلم؛ مما يدلل على تورطه أو رغبته فى التورط بالحدث، من تلك القصص التى تحكى عن تفاصيل كانت فى ماضى الكاتب الطفولى مثل أقصوصة "متى يبيض الديك" حينما ألمح إلى التبادل التجارى بالبيض فى فترة ما فى الريف، وأحياناً يحكى بضمير الراوى العليم وهو فى هذه القصص يعمل كمراقب للحدث مثل أقصوصة "أول يوم دراسة" التى سأعود إليها بعد قليل.

شكل الحوار القصير فى بعض الأقاصيص متكأ لمعرفة الزمان، والمكان السردى، والمستوى الاجتماعى لشخصيات العمل الفنى.

برع الكاتب فى توظيف النكتة قصصياً فى "القلل القناوى"، و"اقرأ الحادثة"، وتوظيف المثل الشعبى أيضاً فى ثنايا السرد القصصى.

وظف الكاتب أسلوب المقامات فى أكثر من أقصوصة، وقد نجح فى ذلك نظراً لميل تلك القصص للتأكيد على الفكاهة الشعبية التى تحمل مفارقة ما بين ما يدعيه الراوى وما يفعله فى الحقيقة كما فى "فوبيا الناس" و"محطة انتظار".
حملت القصص مضامين اجتماعية هادفة (وليست هاتفة)، وهذا هو الطريق الذى اختاره الكاتب ولا نملك سوى التعامل مع الأقاصيص سوى بمنطق الكاتب.

فى قصة "أول يوم دراسة" يواجهنا الطفل بالتمرد على الذهاب للمدرسة. من ثم التمرد على عالم النظام وعالم الكبار، يواجه الطفل بالقسوة وليس بتفهم أسباب التمرد والرفض، ومحاولة علاجها أسرياً وتربوياً. جُمل الأقصوصة قصيرة حادة النقلات تنقل لنا ذلك الحس بعنف الكبار تجاه مخاوف الصغار وحاجاتهم: "جذبته أمه بعنف. ألقت به فى ساحة طابور الصباح". أما مدير المدرسة فيبدو كمدير سجن وهو يصيح فى التلاميذ: "اسمع يا كلب انت وهو، مش عاوز صوت، اتكتموا خالص، اثبت مكانك، لو ثعبان قرصك فى الطابور لا تتحرك". الإذاعة المدرسية هى الأخرى تفتقد لأى نوع من التشويق والمتعة، ثم تكون المفارقة حينما تكون حكمة اليوم: "إذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب" لا شىء تغير رغم كل الأبحاث والدراسات التربوية، يكون الهروب هو الوسيلة الوحيدة للتمرد على هذا الواقع التعليمى البائس لكن سور المدرسة عال. نفهم الآن سبب كراهية الطفل للمدرسة حتى قبل أن يراها، نفهم أن التلاميذ ينقلون لبعضهم خبراتهم المدرسية، والمعاملة التى تفتقد إلى أى نوع من التواصل الإنسانى الحميم ناهيك عن الأسلوب التربوى الواجب. ينتهى الطفل بالاستسلام للرعب والقهر بأن يبول على نفسه فى الطابور. هل يمكن أن نقول إن ذلك سيصبح سمت حياة الطفل حينما يكبر ويصبح مواطناً؟

إن واقع المجموعة يبدو كابوسياً فاللافتة تشير للشارع المجنون لا للمستشفى المعروف بمستشفى الأمراض العقلية، والتواطؤ (عينى عينك) بين عامل المزلقان والباعة الجائلين، والأطفال يتم القبض عليهم لأنهم سيشكلون خطراً على النظام فى المستقبل (قد نرى ظلالاً هنا من القصة القرآنية التى تحكى عن نشأة سيدنا موسى وعلاقته بفرعون)، والشاعر يشترى مستمعيه بالهدايا، والصحافى ينشر مخاطه فيعجب الجماهير. العبث يصل لدرجة قصوى حين يحكى بأسلوب بسيط واقعى وكأنه يحدث بالفعل فى عالم الحس. 

* ملاحظات على المجموعة:
بعض عناوين المجموعة كانت مباشرة وكاشفة لمضمون الأقصوصة مثل "ضربة استباقية" و"اقرأ الحادثة".

القطع كان مصنوعاً فى قصة "عراك وعناق" ولم يضف للقصة عمقاً ومغزى بعدما مُزج بمفردات نشرة الأخبار الجوية.

بعض التعبيرات الفنية يمكن الاستغناء عنها فى أكثر من قصة مثل: "استمرت الإذاعة المدرسية فى بث برامجها الإجبارية، والأنسب، فقراتها" وفى نفس القصة: "على أصوات قرع الطبول، وكأنهم سيدخلون معركة حربية انطلق الأطفال إلى فصولهم" التعليق دائماً من جانب الكاتب يلغى مساحة (المسكوت عنه) المطلوبة ليتفاعل القارئ مع العمل الفنى، كما أن الشجرة تقف فى مكانها وهى لا توصف بالخائفة. وفى قصة "الميرى وسنينه": "حمد الله على سلامتك يا سبع البرمبة. بهذه العبارة ذات المعانى المقلوبة" وفى نفس الأقصوصة: "يحتسى مشروب الينسون؛ عله ينسيه ما به من أحزان وآلام" وغيرها فى بعض القصص، ويبدو أن الكاتب هنا قد تناسى المسافة بين كتابة المقالات الساخرة التى تستخدم وقع الكلمات المترادفة وتوظيف السجع وبين التكثيف والدقة المطلوبين فى القصة والأقصوصة.

اُستدرج الكاتب للترويج لمعنى فج، من وجهة نظرى، باستخدام نكتة شعبية فى أقصوصة "اشتباك" إذا أن الفاصل بين التناول الجنسى الفنى والتناول الشعبى الفج هو خيط رهيف قد ينقطع إذا أُسيء التعامل معه، ورغم ميل الكاتب فى باقى القصص إلى تعبيرات رهيفة تومئ بذكاء إلى ما يريدنا أن نعرفه.

هناك أقصوصتان "الرقم واحد" و "الحل الأيسر" كان تناول الحدث فيهما بسيطاً، لم يتعمق الكاتب بجملة واحدة عن بطل العمل؛ ليجعلنا نعرفه أو نتعاطف معه، وكان الحل كليشيهياً غير مقنع سردياً. 

رغم ذلك فإننى أعتقد أن الكاتب أمامه طريق مفتوح فى مجال الأقصوصة والقصة القصيرة لأنه يمتلك حساً ساخراً كما أن له خيالاً خصباً، وعين ثاقبة يضعها ببراعة على ما نراه أمامنا كل يوم وتفوتنا ما به من فواجع، والأجمل هو امتلاك رؤية وطريق للعبور إلى ما يريد مهما تشابك ذلك مع قناعاة بعضنا الفنية. 

كانت المجموعة تعبيراً عن ذلك القهر الذى يعيشه المواطن فى شتى الدروب بأسلوب يصل لقراء متعددى المواهب والقدرات، وهذا نجاح سيثبته الكاتب أكثر فأكثر ذات يوم بتناوله الأعمق لما نعايشه، وتلافيه لبعض الخيوط الشائكة بين فن الأقصوصة والقصة القصيرة، وبين المقال الساخر. 

فكرى عمر

 

 

  • Currently 7/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
7 تصويتات / 463 مشاهدة
نشرت فى 21 نوفمبر 2012 بواسطة elhaisha

ساحة النقاش

محمود سلامة محمود الهايشة

elhaisha
محمود سلامة الهايشة - باحث، مصور، مدون، قاص، كاتب، ناقد أدبي، منتج ومخرج أفلام تسجيلية ووثائقية، وخبير تنمية بشرية، مهندس زراعي، أخصائي إنتاج حيواني أول. - حاصل على البكالوريوس في العلوم الزراعية (شعبة الإنتاج الحيواني) - كلية الزراعة - جامعة المنصورة - مصر- العام 1999. أول شعبة الإنتاج الحيواني دفعة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

2,739,198