<!--StartFragment-->
ولكن صناعة القيادات في مجتمعاتنا الإسلامية تقابلها تحديات عميقة، تحتاج منا إلى أن نتعلم كيف نجتازها؛ ومن تلك التحديات ما يلي:
<!--حطم القفص:
فكثير من المسلمين يعيشون دون شعور بدورهم في صنع المجد الضائع، وإنما تلخصت أهدافهم وتمحورت حياتهم حول أهدافهم الشخصية؛ فأصبح المسلم الذي قلده النبي صل الله عليه وسلم الأمانة يوم أن أكمل الله الدين وأتم النعمة، يعيش أسير نفسه ومتطلباتها، أصبح يعيش في جدران الحياة الدنيا ولذاتها.
ولكن من رحمة الله تبارك وتعالى بهذه الأمة الإسلامية أنه مهما مرت عليها من أوقات المحن والانزواء، إلا أنها لا تموت أبدًا إذا كان أفرادها لا يزالون يحلمون بالمجد الضائع والمسلوب، ولا شك أن الأمة الإسلامية قد صنعت حضارة شهد لها العدو قبل الصديق، والقريب قبل البعيد، وما قامت الحضارة الغربية إلا على الإرث الإسلامي.
ولقد شاء الله أن يتبدل حال الأمة إلى غير الحال الذي طالما عاشته، وتحول المسلمون من قادة العالم إلى أتباعه، ولقد عمل أعداء هذه الأمة على النخر في عظامها، حتى تتناسى مجدها الضائع، وترضى بذلها.
إلا أنها كما قلنا حضارة لا تموت، وطالما أن شغاف قلوب أبنائها المخلصين تمتلئ بالحلم والأمل والثقة باسترداد المسلوب، والسير على خطى الجيل الأول؛ فإن يقظتها ليست بالمستحيلة، ولكن الأمر يحتاج إلى أن يتبنى هذه الفكرة القطاع العريض من أبناء الإسلام؛ فيهبوا لنفض غبار السلبية والتبعية ويستمدوا من التاريخ طاقة التغيير نحو المستقبل.
إن الواجب على الأمة أن تتناسى دوامة القضايا الأولية التي اجتهد أعداء الإسلام أن يجعلوها على رأس قائمة أولويات المسلم، وهنا يأتي دورك أيها المؤمن الفعال، لتنفض عن هذه الأمة غبار السنين؛ حتى يتجلى بريق هذه الرسالة السمحة، وهذا الدين العظيم.
يأتي دورك أيها المؤمن الفعال لتحطيم تلك الأقفاص التي عاش داخلها صقور هذه الأمة، من أحفاد أبي بكر وعمر وصلاح الدين ومحمد الفاتح؛ حتى نسى هذا الصقر قدرته العظيمة على الطيران، وتناسى حدة بصره، وقوة جسده.
<!--الكنز الغائب:
فالبرامج المؤهلة لصنع القيادات قد عجت بها الكتب، لكن تبرز المشكلة في الجيل الذي افتقد الفاعلية المطلوبة والإيجابية المرادة للاستفادة من هذه البرامج وتحويلها إلى أشياء واقعية حية في الواقع، فاثَّاقل الناس إلى أرض الخنوع والسلبية، وأدمنوا إلقاء التبعية والمسئولية على غيرهم.
فقد يكون الإنسان ذكيًّا أو صاحب شهادات علمية رفيعة، ولكنه لا يتمتع بالفاعلية؛ لأن الثقافة المحيطة به والتي أُشربها لا تساعده على إنجاز كبير، إن لم يتخلص من آثارها السلبية.
وهنا يطالعنا قول المستورد القرشي عند عمرو بن العاص رضي الله عنه بكلام عظيم من حديث سيد المرسلين؛ فيقول المستورد القرشي: (سمعت رسول الله صل الله عليه وسلم يقول: (تقوم الساعة والروم أكثر الناس)، فقال له عمرو: (أبصر ما تقول)، قال: (أقول ما سمعت من رسول الله صل الله عليه وسلم، قال: (لئن قلت ذلك، إن فيهم لخصالًا أربعًا؛ إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة وجميلة، وأمنعهم من ظلم الملوك) [رواه مسلم]
فالقضية ليست في عدد وإنما عمل وإصرار، والشاهد من الحديث السابق هو قول عمرو عن مصدر قوة الروم الأكثر أهمية وهو: (وأسرعهم إفاقة)، فلا يعني تنحي الأمة عن القيادة وتخاذل بعض أبنائها عن نصرتها أن تنكفئ الأمة على ذاتها وترفض الرغبة في التغيير، بل العكس تمامًا ينبغي التحرك والعمل والفاعلية والإيجابية؛ حتى يتسنى جمع هذه الجهود وصياغتها بما فيها النفع الوفير للإسلام والمسلمين.
ونعني بهذا الكنز الغائب أو الفاعلية تحديد الوجهة والهدف، (فقد يقود الإنسان سيارته بكفاءة عالية، ولكن إذا كان لا يملك خارطة للطريق واتجه الوجهة الخطأ، فإن عمله لا يتسم بالفاعلية، ولو أن طائرة متجهة من لندن إلى موسكو انحرفت عن مسارها درجة واحدة؛ لوجدت نفسها أخيرًا في مطار القاهرة).
<!-- من يرفع للخير راية:
إن هذه هي نتيجة تنحي الثقات طواعية عن قيادة الأمة؛ فنطق الرويبضة، ووُسد الأمر لغير أهله، فصنعوا وحركوا وقادوا الناس نحو أهداف واهية وغايات وضيعة، فانصرف الناس عن المشاركة في استعادة مجد الإسلام إلى تحقيق أهداف فُرضت عليهم فرضًا.
فعن أبي الدرداء قال: كنا مع رسول الله صل الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: (هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء)، فقال زياد بن لبيد الأنصاري: (كيف يختلس منا، وقد قرئنا القرآن، فوالله لنقرئنه وليقرئنه نساءنا وأبناءنا)، فقال: (ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى؛ فماذا تغني عنهم؟!) [رواه الترمذي وصححه الألباني].
فما أحوجنا لرموز حية نستبدل بها الرموز الواهية التي تصدرت للأمة من غير أن تكون مؤهلة لتلك المهمة وتقود الأمة إلى ما فيه خيري الدنيا والآخرة؛ فيصدق في أمتنا قول الشاعر:
خير الصناعات صنــع الرجال فهم أس نـهـضتنا والعماد
على الدين والعلم تُبنى النفوس وبـالجد صرح المعالي يشاد
ثامناً: منهج صناعة القائد
إن قضية صناعة القادة ليست بالعملية السهلة، خصوصًا وإن كنت تتكلم على مستوى أمة من الأمم، فهي وظيفة تتشارك فيها الأسر والمؤسسات التعليمية، وأساتذة الجامعات والتربويون، والمشايخ وطلبة العلم، أو بمعنى آخر؛ إن عملية صناعة القادة إذا أردنا أن تكون على مستوى أمة، فينبغي أن يُصنع المناخ الملائم لذلك، وسنحاول أن نضع علامات في الطريق، وإلا فالموضوع يحتاج إلى دراسة مستقلة وبحث مستفيض.
ويمكن أن نعرض لبعض مبادئ صناعة القائد؛ ومنها:
<!--وصية رسول الله صل الله عليه وسلم:
فأغلب المفكرين والمربين يرون أن علامات القيادة تظهر على الطفل منذ نعومة أظافره، ومن المشاكل التي تواجه عملية صناعة القادة أن كثيرًا من الآباء يهملون هذه المرحلة، بل كثير من الشخصيات قد فسدت نتيجة التربية الخاطئة.
ولذلك يقول "مونتجومري": (إن طفل اليوم هو رجل المستقبل، يجب أن يكون الغرض من صناعته بناء سجيته ليتسنى له عندما يحين الوقت المناسب أن يؤثر في الآخرين إلى ما فيه الخير، إن تجربتي الشخصية تحملني على الاعتقاد بأن الأسس لبناء السجية يجب أن تغرس في الطفل عندما يصبح في السادسة من عمره).
وانظر إلى أمِّ الإمام مالك وطريقتها العظيمة في بناء هذه القيادة العلمية الفريدة، فيصف الإمام مالك طريقة أمِّه في تنشئته فيقول: (كانت أمي تعممني وتقول لي اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه).
وإن كانت مرحلة الطفولة هي مرحلة الاكتشاف، فإن مرحلة الشباب هي بداية مرحلة الممارسة، ولابد من برامج تربوية وعملية لإخراج الطاقات القيادية المكبوتة في الشباب، واستغلالها في صالح المجتمع والأمة.
فتلك كانت أمنية ورقة بن نوفل حين علم بأمر رسالة النبي صل الله عليه وسلم فتمنى أن يكون شابًّا فتيًّا فيبني صرح هذه الأمة مع النبي صل الله عليه وسلم وصحبه؛ فقال: (يا ليتني فيه جذعًا) أي شابًّا، ولماذا كان يريد أن يكون شابًّا؟ يجيبنا ورقة نفسه في موضع آخر؛ فيقول: (وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا).
وكان أبو سعيد الخدري يقول إذا رأى الشباب: (مرحبًا بوصية رسول الله صل الله عليه وسلم، أوصانا رسول الله صل الله عليه وسلم أن نوسع لكم في المجلس، وأن نفهمكم الحديث فإنكم خلوفنا، وأهل الحديث بعدنا) [رواه البيهقي].
ولنا في رسول الله صل الله عليه وسلم الأسوة والقدوة، فهو الذي عقد لواء الجهاد ضد الروم بالشام في آخر حياته لشاب لم يتجاوز العشرين من عمره؛ وهو أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
<!--الجينات وحدها لا تكفي:
فإن الصفات الجينية المكتشفة في الأشخاص ذوي الأهلية للقيادة لابد من صقلها بالتدريب والتعليم للمهارات المختلفة، خصوصًا مهارات التعامل مع النفس، ومهارات استخدام العقل لتحقيق الأهداف.
والتدريب يؤدي إلى تطوير المهارات والأساليب، بينما التعليم يؤدي إلى المعلومات والمعرفة واللذان يسهمان في بناء الفهم المطلوب لمواجهة تحديات الحياة.
والجينات هي العوامل الوراثية التي تحدد صفاتنا الجسدية والعقلية، ولكنها وحدها لا تكفي في بناء القائد. فالقيادة هي مهارة تتعلق بالشخصية والخبرة والتعلم، وتتطلب العديد من الصفات والمهارات الأخرى التي لا تختصرها الجينات.
على سبيل المثال، يمكن أن يكون لدى شخص بعض الصفات الوراثية المرتبطة بالقيادة، مثل الثقة بالنفس والعزيمة والتحمل، ولكن هذه الصفات وحدها لا تجعله قائداً ناجحاً. بل يحتاج القائد إلى تطوير مهارات الاتصال والإلهام والتحليل والتخطيط والتنظيم وغيرها من المهارات اللازمة لإدارة الفريق بنجاح.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن الخبرة والتعلم الذاتي يلعبان دوراً حاسماً في بناء القائد، حيث يحتاج القائد إلى معرفة الثقافة والمجتمع والسياسة والاقتصاد والتكنولوجيا وغيرها من المجالات التي تؤثر على العمل الإداري.
وبالتالي، لا يمكن الاعتماد على الجينات وحدها في بناء القائد، وإنما يجب تطوير المهارات والصفات اللازمة للقيادة من خلال التعلم والتدريب والخبرة، وهي الأشياء التي يمكن للفرد أن يتحكم فيها ويعمل على تحسينها من خلال الجهود الشخصية والتدريب المستمر.
<!--الواقع خير معلم:
يعتبر الواقع هو أفضل معلم للقائد، حيث يتعلم القائد من خلال تجاربه وتحدياته وصعوباته التي يواجهها في ممارسة دوره الإداري والقيادي. ومن الأسباب التي تجعل الواقع هو أفضل معلم للقائد:
<!--الخبرة: يحتاج القائد إلى الخبرة العملية في مجال الإدارة والقيادة، وتكتسب هذه الخبرة من خلال التعامل مع التحديات والمشكلات والفرص في سياق العمل اليومي.
<!--التعلم المستمر: عندما يواجه القائد تحديات ومشكلات في العمل، يتعلم منها ويبحث عن الحلول الأمثل لهذه المشكلات، ويتمكن من تحسين مهاراته القيادية ومنع أخطاء مماثلة في المستقبل.
<!--تطوير القدرات: يتعلم القائد من خلال التعامل مع الناس والتفاعل معهم، ويتمكن من تطوير قدراته الاجتماعية والتواصلية والإدارية والقيادية بشكل أفضل.
<!--صنع القرارات: يساعد الواقع القائد على صنع القرارات المناسبة والفعالة، وتتعلم القائد من خلال تجاربه السابقة وتجارب الآخرين وصنع القرارات الصائبة والمناسبة للحالات المختلفة.
وبالتالي، يعتبر الواقع هو أفضل معلم للقائد، حيث يتعلم القائد من خلال تجربته العملية وتحدياته اليومية، ويتمكن من تطوير مهاراته وصنع القرارات الصائبة والفعالة في سياق العمل. يحتاج القادة بعد التدريب والتعليم إلى النزول إلى أرض الميدان والتعامل مع تحديات الحياة المختلفة، بحيث يكتسب الخبرة المطلوبة ويحصل على التدريب العملي المراد، والشباب عندما تعطيهم المسئوليات تطرد عن عقولهم وهم العقول المستريحة والشعور بالدونية.
لكن على القائمين على برامج صناعة القادة أن يدركوا أنهم لابد أن يعطوا هؤلاء الشباب الفرصة للتجربة مع احتمالات خطأ معتبرة؛ حتى تصقل خبراتهم وتشتد أعوادهم فهم قادة المستقبل الحقيقيين.
<!--التجربة خير دليل:
وخصوصًا إن مُنح قائد المستقبل حرية التجربة في سن مبكرة، فكما يقول "جون كوتر": (كان لدى القادة الذين قابلتهم حرية التجربة في العشرينات والثلاثينات من أعمارهم، ليخاطروا وليتعلموا من كلا النتيجتين؛ النجاح والفشل).
ويتعلم الواحد منا من كل التجارب التي مرت عليه، من التجارب الفاشلة قبل الناجحة، فتترك تلك التجارب الناجحة في نفس قائد المستقبل أثرًا طيبًا يدفعه للاستمرار، كما تخلف تلك التجارب الفاشلة في نفسه ألمًا معنويًّا يصقل شخصيته ويقويها ويدعم أركانها.
وهذا ما يوجزه لنا الشاعر حين يقول:
ألم تر أن العقل زين لأهله ولكن تمام العقل طول التجارب
من سيحمل الراية بعدك؟!
وبعد أن عشنا معًا طوال هذه الرحلة الطويلة، رحلة صناعة القائد، وبعد أن صرت أيها المؤمن خبيرًا بمهارات القائد وصفاته، وسماته وركائزه، فاسمح لي عزيزي القائد، أن أهمس في أذنك بنصيحة غالية، لعلك بفطنتك قد اهتديت إليها في ثنايا العنوان السابق، إنه السؤال الأهم، الذي ينبغي لكل قائد أن يطرحه على نفسه دائمًا؛ من سيحمل الراية بعدي؟!
تاسعاً: لا تكرر هذه القصة
إنها قصة (النمر الكبير)، الذي تقدمت به السن، وكان قائدًا لقطيع من النمور، وفي يوم من الأيام قرر أن يخرج للصيد في الغابة المجاورة، فجمع نموره وقال: علينا أيها الأصدقاء أن نخرج للصيد، وأرجو أن تصحبني النمور اليافعة، لعلهم يتعلمون مني شيئًا أو شيئين.
أحست النمور الصغار بالغبطة والفرح عندما سمعوا ما قاله النمر الكبير؛ لأنه نادرًا ما يبدي لهم اهتمامًا حقيقيًّا بتدريبهم على الصيد، ولم يكن لهم أي دور يؤدونه عندما كانوا يخرجون معه.
وفي اليوم الأول شاهد النمر الكبير قطيعًا من الفيلة، فانتدب أحد النمور اليافعة ليهجم على قطيع الفيلة ويجلب لهم ما تيسر، وقد فوجئ النمر الصغير بكلام قائده؛ حيث لم تكن لديه أدنى فكرة لصيد أرنب، فكيف بفيل ضخم الجثة؟!
ولم يستطع النمر الصغير أداء المهمة، فقال النمر الكبير: يبدو أن على أن أقوم بالمهمة بنفسي، وكذلك فعل، فاصطاد فيلًا كبيرًا.
وتكرر هذا المشهد عدة مرات مع نمور صغيرة أخرى، وكان الفشل نصيبهم جميعًا وكان على النمر الكبير أن يقوم بالمهمة بنفسه، وفي كل مرة يؤنب النمور الصغيرة لعدم قدرتها على الصيد.
تحلقت النمور حول النمر الكبير مبدية إعجابها بمهاراته وشجاعته؛ فتنهد النمر الكبير قائلًا: يبدو أنه ليس بينكم من يتوفر لديه الاستعداد ليحل محلي، وآسف إذا قلت إنني نمر لا يمكن الاستغناء عنه.
وتمر السنون والنمر الكبير على هذا الحال، يصطاد بنفسه، ولم يغير من أسلوبه في تعامله مع رفاقه، ولم يخطر بباله أن يعلمهم حيله وأفانينه في اصطياد الصيد.
وفي أحد الأيام، التقى النمر الكبير بصديقه الأسد، واشتكى النمر الكبير من ضعف النمور الصغيرة وقلة همتها وانعدام المبادأة لديها قائلًا: إنه رغم كبر سني فإني أقوم بالصيد لجميع أتباعي، ويبدو أنه ليس ثمَّة نمر على شاكلتي بين النشء الجديد.
عندئذٍ انتفض الأسد، وقال: هذا أمر غريب، إنني أجد الأشبال عندي يتعلمون بسرعة، وينفذون ما أطلبه منهم، بعضهم يحسن في عمله، وبعضهم يخطئ، ولكن لا بأس، وأصدقك القول، إنني أفكر في ترك العمل والتقاعد في السنة القادمة، وأسلم القيادة لأحد الأشبال.
قال النمر الكبير: إنني أغبطك، ومن المؤكد أنني كنت سأرتاح لو عرفت جيدًا معنى القيادة، نهض الأسد فودعه النمر الكبير الذي قال متألمًا: إنه لعبء ثقيل حقًّا أن تتصرف وكأنك القائد الذي لا يُستغنى عنه.
إن النمر الكبير قد فشل فشلًا ذريعًا عندما تجاهل أتباعه ولم يعلمهم فنون الاصطياد ولم يدربهم على كيفية الصيد، واعتبر أن النجاح والفشل مرتبط بشخصه فقط؛ وبالتالي كان الفشل الذريع حليفه، ولم يستطع أن يحدث التغيير المطلوب، ولم تتعلم النمور الصغيرة أي شيء من النمر الكبير خلال رحلات الصيد المتكررة.
وعندما شاخ وكبرت سنه؛ لم يجد البديل الذي يستطيع القيام بالمهام التي كان يؤديها.
إن بعض القادة الإداريين ينسبون إلى ذواتهم الفردية كافة النجاحات التي تحققها المنظمة، وينسون أنه لا تميز لهم دون أتباع مميزين، فأصبح الأتباع في منظماتهم لا قيمة لهم إلا خدمة قادتهم.
بل لا يقبل هؤلاء القادة إلا من هم أقل كفاءة؛ خشية أن يسحبوا عليهم النفوذ من داخل المنظمة، ولا يريدون إلا إمعات ورعاعًا لا يحسنون شيئًا، وكلما أحسن الأتباع الطاعة العمياء؛ كلما تأكد بقاؤهم حول قادتهم.
نخلص من هذا كله أن (النمر الكبير) افتقد إلى الرؤية المستقبلية، ولم يدرك أنه يحتاج إلى جيل من الأتباع المميزين (النمور الصغيرة) ستحل محله عندما يكبر سنه، وأنها بحاجة إلى التأهيل والتدريب على القيادة حتى يمكن الاعتماد عليها مستقبلًا.
كما أن هؤلاء الأتباع بحاجة إلى التشجيع، وكما قال الأسد عن أتباعه: (بعضهم يحسن عمله، وبعضهم يخطئ ولكنهم بحاجة إلى الصبر والتحفيز)، ولم يدرك (النمر الكبير) هذه الحقيقة كما أدركها الأسد؛ فكان الفشل حليفه في قيادته للنمور الصغيرة.
فالقائد الناجح الذي يحيط نفسه بالقادة، فيكون بحق أسدًا يقود مجموعة من الأسود، لا أسدًا يقود مجموعة من الأرانب، فتبقى مسيرة القائد مستمرة حتى لو لم يكن هو بطل هذه المسيرة.
فإن تخلف هذا القائد لمرض أو موت أو لظرف يمنعه من قيادة أتباعه نحو هدفهم؛ لم تتوقف مسيرة أتباعه عن هدفهم.
ولقد كانت أعظم سنوات هذه الأمة يوم أن كان أسودها يقودون أسودًا، يوم أن كان النبي صل الله عليه وسلم يقود جماعة المؤمنين من صحابته، وفي مقدمتهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وسعد بن وقاص وخالد بن الوليد وابن عباس عليهم رضوان الله أجمعين.
ثم خلفه أبو بكر فكان مجلس مشورته يضم خيار الصحابة، ولكن تتابعت الأيام فصار يخرج على الأمة بين الفينة والأخرى قائد فذ يعيد السمت الأول للخلافة الراشدة، ولكنه لا يخلف وراءه قيادات عظيمة، فيبدأ هذا النور الذي بدأ يلوح في الآفاق في الخفوت.
فهذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله يعيد سمت الخلفاء الراشدين حتى ليلقب بخامس الخلفاء الراشدين، ولكن من وراءه يكمل المسيرة؟! وهذا صلاح الدين يعيد القدس ويوحد كلمة المسلمين، ولكن أين من يخلفه؟!
<!--إذاً كيف السبيل؟
ولكي يخلف القائد من بعده قادة؛ عليه بجملة أمور يربي عليها أتباعه القادة؛ ومنها:
<!--إعطاؤهم مكانة خاصة لا تُمنح لغيرهم، كأن يشاركوا في اتخاذ قرارات هامة ومصيرية، أو يكون لهم نصيب في رسم الرؤية الكلية وتحديد الأهداف الهامة.
فمثل هذه الشخصيات دائمًا تبحث عن مساحة للعمل، وتريد أن تثبت كفاءتها وأهليتها للقيادة، وتريد أن تستشعر تأثيرها في العمل وفي الواقع؛ ولذا عليك كقائد تسعى إلى أن يخلفك قيادات تكمل مسيرتك، أن تفتح لها مثل هذه المساحات وتعطيها الفرصة لتثبت وجودها وتشعر بأهميتها في العمل، كما عليك كقائد أن تشعر هذا الشخص بمكانته وأهميته في العمل، واعتماد جزء كبير من العمل عليه.
وهذا فعل النبي صل الله عليه وسلم كما ذكرنا في قصة غزوة بدر، وكيف أخذ برأي الحباب بن المنذر رضي الله عنه، وكيف كان النبي صل الله عليه وسلم حريصًا على استشارة أصحابه وكان أكثر من يستشيرهم هم من يعدهم ليخلفوه من بعده؛ كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
وهذا ما فعله عمر بن الخطاب لما حدد مجموعة الشورى في ستة أشخاص، كان من بينهم خليفته عثمان بن عفان رضي الله عنه.
<!-- إعطاؤهم قدرًا من الحرية في تنفيذ المهام الموكلة إليهم، مع الاهتمام بالمتابعة والتوجيه والإرشاد، ومن أوضح الأمثلة لذلك؛ منح النبي صل الله عليه وسلم حرية كبيرة لمصعب بن عمير حين بعثه إلى المدينة بعد بيعة العقبة الأولى، والتي كانت في موسم الحج في العام الثاني عشر من البعثة.
وكان مصعب ذاهبًا لأداء مهمة بهدف محدد، ألا وهي نشر الإسلام في المدينة وتأهيلها لقدوم رسول الله صل الله عليه وسلم ، وفي أقل من عام ينجح مصعب في مهمته، ويعود إلى رسول الله صل الله عليه وسلم قبل موسم الحج في العام التالي ليبشره بانتشار الإسلام في المدينة، وتتم بالفعل في موسم الحج لهذا العام 13 من البعثة بيعة العقبة الثانية، يحضرها ثلاثة وسبعون رجلًا من الأنصار وامرأتان.
<!-- التجاوز عن الخطأ الصغير أمام ما قدموه من الإنجازات الكبيرة، وكما يقول رسول الله صل الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) [رواه أبو داود وصححه الألباني].
وكما في قصة بعث النبي صل الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة؛ ففي صحيح البخاري: بعث النبي صل الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا، وجعل خالد قتلًا وأسرًا، قال: فدفع إلى كل رجل أسيره حتى إذا أصبح يومنا أمر خالد بن الوليد أن يقتل كل رجل منا أسيره.
قال ابن عمر: فقلت والله لا أقتل أسيري ولا يقتل أحد، وقتل بشر من أصحابي أسيره قال: فقدمنا على النبي صل الله عليه وسلم فذكر له صنع خالد، فقال النبي صل الله عليه وسلم ورفع يديه: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) [أصل القصة في صحيح البخاري]، قولهم "صبأنا"، يقصدون بذلك أنهم خرجوا من دين آبائهم ودخلوا في دين الإسلام، فإن الكفرة كانوا يدعون المسلم يومئذ بالصابئين، ولكن لما كان اللفظ غير صريح في الإسلام جوز خالد قتلهم، (وجعل خالد قتلى وأسرى)؛ أي جعل بعضهم قتلى
<!--EndFragment-->