سـلاحنا الحقيقي

ماهيته - وهل يكفى وحده لمجابهة عدونا ؟

     كل إنسان مهما علا فكره وقوى عقله, أو انحطت فطرته وضعفت فطنته يجد من نفسه أنه مغلوب لقوه أسمى من قوته ما أنس منه الغلبة عليه ممن حوله, و تشعر كل نفس أنها مسوقه لتلك القوه فتطلبها من حسها تارة ومن عقلها تارة أخرى, وقد ذهب كل في طلبها, فمنهم من تأولها في بعض الحيوانات  ومنهم من تمثلت له في بعض الكواكب ومنهم من وجدها في النار كالمجوس, ومنهم من صورها في أحجار عبدها

أما ذوى البصائر من أصحاب العقول الراجحة فقد توصلوا إلى معرفة واهب الوجود الحقيقي, وعرفوا أن هناك إلها واحد هو المنفرد بكل كمال , وهو واهب الحياة, واهب القوه, ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير.

 والإنسان  مكون أساسا من ماده وروح ولا بد منهما معاً لتكوين إنسان فلا يكفى أحدهما دون الآخر, أشار إلى ذلك القرآن الكريم ؛ قال تعالى إشارةً إلى المكوِّن المادي :- ( إِذْ قَاْلَ رَبُّكَ لِلْمَلَاْئِكَةِ إِنِّىْ خَاْلِقٌ بَشَرَاً مِّنْ طِيْنٍ) (1), وإلى الركن الثاني ( فَإِذَاْ سَوُّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيْهِ مِنْ رُوْحِيْ فَقَعُوْا لَهُ سَاْجِدِيْنَ )(2), وكل من المكونين له تأثير فالعنصر المادي له تأثير مادي يُعرف بالبطش والقوه  والمعنوي له تأثير يُعرف بقوة العزيمة والإرادة

ولكن القوه المعنوية أعم من المادية وأشمل, فالمادية لا تتوفر إلا لدى فئة من الشباب بخلاف المعنوية فقد يملكها الشاب والشيخ والمرأة والصغير وغيرهم, كما أن الشخص لا يبلغ المراد بالاعتماد على القوه المادية فقط, ولكنه يبلغه بالقوة المعنوية بالتوكل على الله عز وجل.

تلك القوه هي التي قال عنها النبي – صلى الله عليه وسلم – (المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)(3).

تلك القوه هي التي جعلت أخت عمر بن الخطاب تصمد أمام جبروته وغلظته فتعجب من ذلك وعلم أن وراء ذلك أمراً عظيماً  فكانت سبباً قوياً لإسلامه.

إذن فالقوه المادية تفتقر إلى المعنوية وليس العكس, وكلاهما يُستمد من الله تعالى, كما أن غذاء القوة المادية – غذاء الجسد - مادي, أما غذاء الروح فهو يكمن في الذل والافتقار والتوكل على الله عز وجل.

ويتجلى الفرق بين القوتين؛ ويتضح وضوح الشمس في رمضان حيث انقطاع الغذاء عن المكوِّن المادي للإنسان, وازدياده تزايداً كبيراً للمكوِّن المعنوي  فنجد أن ذلك لا يعد عائقاً للمؤمن بل هو منتهى القوة.

ولعلنا ندرك أن تلك هي الحكمة من الصيام وهى قطع الغذاء عن الجسد, وفى الوقت نفسه زيادته للروح حتى  تسمو الروح لخالقها فتكون أفضل من الملائكة.

سلاحنا الحقيقي بعد الأخذ بالأسباب هو دعاء الله والتوكل عليه وأتباع منهجه

 و إذا رجعنا بالتاريخ سوياً حيث العهد الأول للإسلام؛ حيث الصحابة الأوائل ممن أدركوا هذا المعنى فتسلحوا بالسلاح الحقيقي حتى ملكو القوه الحقيقية, نجد أنهم فطنو أسباب النصر والتمسوها من مظانها  فدانت لهم الدنيا,  وغزواتهم خير شاهد على ذلك.

ففي غزوة بدر :-  بماذا تسلح جيش المسلمين ؟ , وبماذا تسلح جيش المشركين ؟ ولمن كان النصر ؟

كانت الغزوة في رمضان حيث انقطاع الغذاء المادي عن المسلمين, في الوقت الذي كان فيه المشركين مفطرين حيث وجود الغذاء المادي لهم.

قوام الجيش الإسلامي كان ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ولم يكن معهم إلا  فرس(4)أو فرسان وسبعون بعيراً, في الوقت الذي بلغ فيه قوام الجيش المكي نحو ألف وثلاثمائة مقاتل وكان معهم مئة فرس وستمائة درع وجمال كثيرة لا يعرف عددها.

إذن فقد ملكو من المقومات المادية أضعاف ما ملك المسلمون , ولكن ! – رغم ذلك كله – كانت الغلبة للمؤمنين لأنهم ملكو السلاح الحقيقي , السلاح الذي لا يخيب قاصده, بينما كان ذلك السلاح بعيد المنال عن جيش المشركين.

فبمجرد بدء المعركة أول  شيء فعله الرسول – صلى الله عليه وسلم –  أن لجأ إلى واهب القوه الحقيقى طالباً العون منه وحده موقنا أن النصر لا يكون إلا من عنده (وَمَاْ اَلْنَّصْرُ إِلَّاْ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ )(5)فناجاه بالدعاء رافعاً أكف الضراعة بدعاء قد استكمل مقومات القبول, وكلمات اخترقت عنان السماء, لا أدل منها على ضعف قائلها أمام ربه ؛ فقال :- " اللهم إن هذه قريش قد أقبلت بخُيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك , اللهم فنصرك الذي وعدتنى اللهم أحنهم الغداة "(6)وظل يناشد ربه حتى إن حمى الوطيس واستدارت رَحْىُ الحرب قال :  "اللهم إن تُهْلك هذه العصابة لا تُعبد, اللهم إن شئت لا تُعبد بعد اليوم أبدا " , وبالغ في الابتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه فرده عليه الصديق وقال – وهذا هو الشاهد - "حسبك يا رسول الله ألححت على ربـك " .

إذن: تمسك المؤمنون بمبدئهم وطلبوا العون من ربهم فكانت الإجابة في الحال أوحى الله إلى رسوله ( أَنِّىْ مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ اَلْمَلْائِكَةِ مُرْدِفِيْنَ )(7)أي ردف لكم, أو يردف بعضهم إرسالاً فلا يأتون دفعة واحده.

وأوحى إلى الملائكة (إِذْ يُوْحِىْ رَبُّكَ إِلَىْ اَلمْلََاْئِكَةِ أَنِّىْ مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ اَلَّذِيْنَ آمَنُواْ سَأُلْقِىْ فِىْ قُلُوْبِ اَلَّذِيْنَ كَفَرُوْا اَلْرُّعْبَ فَاْضْرِبُوْا فَوْقَ اَلْأَعْنَاْقِ وَاْضْرِبُوْا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَاْنٍ)(8), وبدأت الملائكة تقاتل مع المسلمين بأمر من الله تعالى  لأنهم-أي المسلمين- فطنوا طريق النصر فكانت النتيجة: (إِذْ تَسْتَغِيْثُوْنَ رَبَّكُمْ فَاْسْتَجَاْبَ لَكُمْ).       

إذن فالنصر من عند الله ,أما البشر فمهما بلغ من قوه بدون عون الله فهي قوة واهية فانية, فها هو الرسول –صلى الله عليه وسلم – يخرج من عريشه فيأخذ حفنة من الحصباء ويستقبل بها قريشا ويقول : " شاهت وجوههم " ويرمى بها وجوههم فما من أحد منهم  إلا و أصابت عينيه ومنخريه وفمه,  فهل الرسول – صلى الله عليه وسلم – بقوته المحدودة مهما بلغت  – كبشر – يستطيع أن يصيب أكثر من ألف وثلاثمائة برمية واحده ؟  أم هو تأييد الله ؟  (وَمَاْ رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِّنَّ اَللهَ رَمَىْ )(9).

 يقول القرطبي في معنى قوله تعالى (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّهُُ):- " أذلة معناها قليلون وذلك أنهم كانوا ثلاثمائة وثلاث عشر أو ثلاث مائه وأربعة عشر بينما عدد الكفار ما بين التسعمائة إلى الألف , "وأذله"  جمع ذليل, و اسم الذل في هذا الموضع مستعار ولم يكونوا فى أنفسهم إلا أعزه ولكن نسبتهم إلى عددهم وإلى جميع الكفار في أقطار الأرض تقتضى ذلتهم وأنهم يغلبون "(10).  

قال تعالى : ( وَاْذْكُرُوْا إِذْ أَنتُمْ قَلِيْلُُُُ مُّسْتَضْعَفُوْنَ في اَلأَرْضِ تَخَاْفُوْنَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ اَلْنَّاْسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ اَلْطَّيِّبَاْتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُوْنَ) (11). 

وفى أُحُد :-  لم تكن الظروف أفضل من يوم بدر؛ فقد كان جيش المسلمين آنذاك سبعمائة مقاتل, في الوقت الذي كان فيه قوام جيش المشركين ثلاثة آلاف مقاتل, وكان سلاح النقليات في جيشهم- أي المشركين-  ثلاثة آلاف بعير, ومن سلاح الفرسان مائتا فرس جنبوها  طول الطريق(12), وكان من سلاح الوقاية سبعمائة درع, ورغم كل هذه الأسلحة والعتاد – إذا ما قورنت بجيش المسلمين – إلا أن الله تعالى كتب النصر للمسلمين لأنهم تسلحوا بالسلاح الحقيقي, ولم تلحقهم الهزيمةُ  بعد ذلك – إن صح القول – إلا بعد أن فرطوا في التمسك به, وسعوا وراء أمر دنيوي , فالحقيقة التي يجب الإذعان بها أن النصر لا يتأتى إلا من طريق واحد( وَمَاْ اَلْنَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اَللهِ  ) ولذلك لما حزن المسلمون من هزيمتهم في أحد وقالوا : كيف نهزم ومعنا سيد الخلق؛ رد عليهم القرآن بقوله :(أَوَلَمَّاْ أَصَاْبَتْكُم مُصِيْبَةٌ قَدْ أصَبْتُم مِّثْلَيْهَاْ قُلْتُمْ أنَّىْ هَذَاْ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ  إِنَّ اَلَّلهَ عَلَىْ كُلِّ شَيْىٍء قَدِيْرٌ) (13).

وفى غزوة  الأحزاب  بعد أن تآمرت قريش مع اليهود وغيرهم من أعداء الإسلام وكونوا جيوشا عظيمة بغية القضاء على المسلمين مستخدمين نفس السلاح, فكونوا جيوشاً عظيمة تملك من العدد والعتاد ما لا يملكه المسلمون, ولكنهم  أخطأو أسباب النصر فبعد أن ضاق الأمر بالمسلمين اهتدوا إلى خندق يحول بينهم وبين المشركين, وجاء المشركون وحاصرو المدينةَ, و هنا سأل المسلمون الرسول – صلى الله عليه وسلم - ماذا نفعل ؟ فأرشدهم قائلا: إذا حاصركم المشركون فقولو : " اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا ", ويصف القرآن الكريم موقف المسلمين فيقول : (وَلمَاَّ رَأَىْ اَلْمُؤْمِنُوْنَ اَلْأَحْزَاْبَ قَاْلُواْ هَذَاْ مَاْ وَعَدَنَاْ اَلَّلهُ وَرَسُوْلُهُ وَصَدَقَ اَلَّلهُ وَرَسُوْلُهُ وَمَاْ زَاْدَهُمْ إِلَّاْ إِيْمَاْنَاً وَتَسْلِيْمَا)(14),أما المنافقون فقد تزعزعت عقائدهم لرؤية هذا الجيش (وَإِذْ يَقُوْلُ اَلْمُنَاْفِقُوْنَ وَالََّذِيْنَ فِىْ قُلُوْبِهِم مَرَضُُ مَّاْ وَعَدَنَاْ اَلَّلهُ وَرَسُوْلُهُ إِلَّا غُرُوْرَاْ)(15)

   وكانت جيوش الأحزاب آنذاك تزيد على عشرين ألف مقاتل, في الوقت الذي  كان فيه قوام جيش المسلمين ثلاثة آلاف مقاتل - (لعل الفرق بين الجيشين  واضح)

 بل و يشتد الأمر على المسلمين ويزداد سوءا عندما نقضت يهود قريظة العهد مع الرسول – صلى الله عليه وسلم – فلم يكن يحول بينهم وبين بنى قريظة شيء يمنعهم من ضربهم من الخلف, بينما كان أمامهم جيش عرمرم لم يكونوا يستطيعون الانصراف عنه, وكانت ذراريهم ونساؤهم بمقربة من هؤلاء الغادرين في غير منعة وحفظ, وصاروا كما وصفهم القرآن: (وَإِذْ زَاْغَتِ اَلْأَبْصَاْرُ وَبَلَغَتِ اَلْقُلُوْبُ اَلْحَنَاْجِرَ وَتَظُنُّوْنَ بِالَّلــهِ اَلْظُنُوْنَاْ . هُنَاْلِكَ اَبْتُلِىَ اَلْمُؤْمِنُوْنَ وَزُلْزِلُوْا زِلْزَاْلَاً شَدِيْدَاً (16).

ولكن التمسك بحبل الله المتين واللجوء إليه بالمناجاة, والثبات على الحق والصمود لأجله لا بد لهم من نتيجة إيجابية مهما قل العدد وقلت العدة, ترجم ذلك القرآن الكريم في آيات تشير كل كلمة منها إلى معنى واحد, و تقر مبدأً واحد ألا وهو :(وَمَاْ اَلْنَّصْرُ إِلَّاْ مِنْ عِندِ اَللهِ إِنََّ اَللهَ عَزِيْزٌ حَكِيْمٌ).

فقال تعالى : (يَاْ أَيُّهَاْ اَلَّذِيْنَ آمَنُوْا اُذْكُرُوْا نِعْمَتَ اَللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاْءَتْكُمْ جُنُوُدٌ فَأَرْسَلْنَاْ عَلَيْهِمْ رِيْحَاً وَجُنُوْدَاً لَمْ تَرَوْهَاْ وَكَاْنَ اَلََّلهُ عَزِيْزَاً حَكِيْمَاً )(17).

أرسلنا عليهم ريحاً .............. جنودا لم تروها,  تلك هي إجابة دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم – والمسلمون معه " اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا ", و أيضا هي إجابة دعائه –صلى  الله عليه وسلم - "اللهم منزل الكتاب , سريع الحساب , اهزم الأحزاب , اللهم اهزمهم وزلزلهم " (18).

وصدق الله العظيم إذ يقول:( وَرَدَّ اَلَّلهُ اَلَّذِيْنَ كَفَرُوْا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَاْلُوْا خَيْرَاْ وَكَفَىْ اَلَّلهُ اَلْمُؤْمِنِيْنَ اَلْقِتَاْلَ وَكَاْنَ اَلَّلهُ قَوِيَّاً عَزِيْزَاْ (19).

يقول القرطبى فى معنى قوله تعالى " إِن يَنصُرْكُمُ اَللَّهُ فَلَاْ غَاْلِبَ لَكُمْ .... " أي عليه توكلوا فإنه يعينكم ويمنعكم من عدوكم فلا تغلبوا, " وَإِن يَخْذُلْكُمْ .." أي يترككم من معونته فمن ذا الذي ينصركم من بعده, أي لا ينصركم أحد من بعده أي من بعد خذلانه إياكم لأنه قال : "وَإِن يَخْذُلْكُمْ " والخذلان ترك العون , والمخذول المتروك الذي لا يعبأ به .... (20) , على عكس هذا كله إذا ألقينا الضوء على غزوة حُنَيْن , تلك الغزوه التى اعتمد المسلمون  فيها  على قوتهم المادية, فقد كان قوام جيشهم حينئذ اثنا عشر ألف مقاتل, ومعهم من السلاح والعدة الكثير, والغزوة في شوا , وكانوا في عزة ومنعة وحفظ, حينئذ وقفت جيوش المسلمين, ونظروا إلى سيوفهم تسطع بريقاً من ضوء الشمس وقالو :" لن نهزم اليوم من قله ".

اغتروا بقوتهم (المحدودة ) ونسوا - ولو للحظات – أن الله تعالى وحده هو واهب النصر والقوه , فماذا كانت النتيجة  ؟

كانت على عكس  بدر والأحزاب , على الرغم من الفرق الواضح بينهما وبين  حنين من ناحية التعبئة المادية, لكن – وكما قلنا سابقاً – ليست تلك هي مفاتيح النصر , زلزل الله الأرض من تحتهم وألقى في قلوبهم الرعب فتشتتوا وفروا إلا قليل منهم(21). 

ويصف القرآن الكريم موقف المسلمين  فيقول تعالى (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَلََّلهُ فِِىْ مَوَاْطِنَ كَثِيْرَةً وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئَاً وَضَاْقَتْ عَلَيْكُمُ اَلْأَرْضُ بِمَاْ رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُدْبِرِيْنَ . ثُمَّ أَنزَلَ اَلَّلهُ سَكِيْنَتَهُ عَلَىْ رَسُوْلِهِ وَعَلَىْ اَلْمُؤْمِنِيْنَ وَأَنزَلَ جُنُوْدَاً لَمْ تَرَوْهَاْ وَعَذَّبَ اَلَّذِيْنَ كَفَرُوْا وَذَلِكَ جَزَاْءُ اَلْكَاْفِرِيْنَ)(22).

قال ابن جريج عن مجاهد في تفسير هذه الآية : " هذه أول آية نزلت من براءة يذكر تعالى للمؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله, وأن ذلك من عنده تعالى وبتأييده وتقديره لا بعددهم ولا بعددهم ونبههم على أن النصر من عنده سواء قل الجمع أو كثر فإن يوم حنين أعجبتهم كثرتهم ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئاً فولوا مدبرين إلا القليل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أنزل نصره وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين الذين معه كما سنبينه إن شاء الله تعالى مفصلاً ليعلمهم أن النصر من عنده تعالى وحده وبإمداده وإن قل الجمع فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين "(23).

غاية ما نخلص إليه أن منتهى القوه أن نلجأ إلى لله عز وجل, ومنتهى العزة أن ننكسر لله عز وجل, و منتهى الغلبة أن نخضع  لله عز وجل.

وحروب المسلمين بعد ذلك وانتصاراتهم المتعاقبة على أعدائهم أمثال الفرس والروم حتى دانت لهم الأرض لم تأت إلا نتيجة إقرارهم لهذا المبدأ.

ولا يعنى هذا أن نتواكل فنقف ثباتاً منتظرين العون من الله تعالى, أو منتظرين النصر دون أن نقدم أسبابه , فالله تعالى لم يأمرنا بذلك, بل علينا أن نلتمس أسباب النصر ببذل الجهد والمشقة, ونستنفذ كل ما أوتينا من قوه ثم نطلب النصر من الله عز وجل .

فلا يخفى علينا ما عاناه النبي –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يوم بدر  , وأُحُد , وما عانوه جميعا يوم الخندق,  فقد كانوا يحفرون بجد وعزيمة رغم الجوع والتعب , حتى وصل بهم الأمر إلى أن يربطون الحجارة على بطونهم , والرسول معهم يربط الحجر والحجرين(24)

وما عانوه حين قاوموا الكفار بالنبال وغيرها خشية أن يخترقوا الخندق , وما عاناه الرسول –صلى الله عليه وسلم- في ذلك كله من إعداد للجيوش, وغير ذلك مما يطول شرحه, بعد كل هذا رفعوا أكف الضراعة طالبين العون والنصر من الله عز وجل .

إذن فالتوكل بمفهومه الصحيح يعنى تحقيق المعادلة الصعبة بمعنى بذل الجهد واستنفاذ القوى بغية النصر , وفى نفس الوقت طلب العون والافتقار له سبحانه.

والقرآن الكريم يصف ذلك , قال تعالى إشارة إلى الشق الأول (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّاْ اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاْطِ الْخَيْلِ.... )(25),وقال إشارة إلى الشق الثاني(وَمَاْ اَلْنَّصْرُ إِلَّاْ مِنْ عِندِ اَللهِ ), ثم عمم ذلك قائلا :- (وَجَاْهِدُوْا فِيْ اَللهِ حَقَّ جِهَاْدِهِ)(26).

ولذلك لما بلغ المسلمون في بدر منتهى القوه -قوة الإيمان- أخبرهم الله تعالى بقوله :(يَـاْ أَيُّهَاْ اَلْنَّبِىُّ حَسْبُكَ اَللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مَنِ اَلْمُؤْمِنِيْنَ . يَاْ أَيُّهَاْ اَلْنَّبِىُّ حَرِّضِ اَلْمُؤْمِنِيْنَ عَلَىْ اَلْقِتَاْلِ إِن يَّكُن مِّنكُمْ عِشْرُوْنَ صَاْبِرُوْنَ يَغْلِبُوْا مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَّكُن مِّنكُمْ مِاْئَةُُُ يَغْلِبُوْا أَلْفَاً مِّنَ اَلَّذِيْنَ كَفَرُوْا بِأَنَّهُمْ قَوْمُُ لَاْ يَفْقَهُوْنَ)(27).

وبعد ذلك ,  بعد أن اضمحل الإيمان تدريجيا , فى نفس الوقت الذى تزايد فيه عددهم يخبرهم قائلا : (اَلآنَ خَفَّفَ اَلَّلهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيْكُمْ ضَعْفَاً فَإِن يَّكُن مِّنكُم مِّاْئَةُُُُ صَـاْبِرَةُُ يَّغْلِبُوْا مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَّكُن مِّنكُمْ أَلْفُُ يَّغْلِبُوْا أَلْفَيْنِ)(28),ثم يردف قائلا : (بِإِذْنِ اَللهِ  وَاَللَّهُ مَعَ اَلْصَاْبِرِيْنَ )(29) 

إذن فالضعف الحقيقي؛ ليس ضعف العدد والعدة, وليس ضعف الجمع, إنما الضعف الحقيقي هو ضعف القلوب, ضعف العقائد والعزائم, الضعف الحقيقي يكمن في التفريط في منهج الحق سبحانه.

فلننظر إلى يأجوج ومأجوج بقوتهم و جمعهم بماذا أهلكهم الله ؟

وها هم أصحاب الفيل بجيوشهم وجموعهم بماذا أهلكهم الله ؟

 , وما نحن فيه الآن – رغم عددنا وثرواتنا – هو منتهى الضعف , وهو ليس إلا نتيجة تفريطنا في منهجنا ودستورنا,  وسعينا وراء أسباب  أشبه بالسراب , بل هي السراب (وَمَاْ أَصَاْبَكُم مِّن مُّصِيْبَةٍ فَبِمَاْ كَسَبَتْ أَيْدِيْكُمْ (30), ونسينا أن المذلة فى ترك الإيمان فأخطأنا طريق العزه  كما وصفه القرآن (مَن كَاْنَ يُرِيْدُ اَلْعِـزَّةَ فَلِلَّهِ اَلْعِزَّةُ جَمِيْعَاْ )(31).

فلندعوا الله أن نستعيد هيبتنا وعزتنا وتراثنا وأمجادنا التي خلفها لنا الأولون, ولن نكون كذلك إلا إذا صرنا كما قال القرآن: (مُحَمَّـدٌ رَّسُوْلُ اَللهِ وَالَّذِيْنَ مَعَهُ أَشِــدَّاءُ عَلَىْ  الْكُفاْرِ رُحَمَـاْءُ بَيْنَهُمْ تَرَاْهُمْ رُكَّعَاً سُجَّــدَاً يَّبْتَغُوْنَ فَضْلًا مِّنَ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيْمَاْهُمْ في وُجُوْهِهِم مِّنْ أَثَرِ اَلْسُّجُوْدِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ في الْتوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ في الْإِنجِيْلِ ..)(32). 

 

 


الهوامش:

(1)    سورة ص آيه 71   (2) ص 72   (3)   أخرجه مسلم في صحيحه , وأحمد في مسنده , وابن ماجة في سننه – عن أبى هريرة  (4)كما رواه أبو يعلى وأحمد فى مسندهما .(5) آل عمران126 (6) الرحيق المختوم (7) الأنفال 9 (8) الأنفال 12 (9)     الأنفال 17  (10)  الجامع لأحكام القرآن الكريم للقرطبي  جـ4 ص 166 ,177 (11) الأنفال26 (12)زاد المعاد 2/92وهو المعروف , وفى فتح البارى: مائة فرس 7/346 (13)آل عمران 165 (14) الأحزاب 22  (15) الأحزاب12 (16)   الأحزاب 10,11 (17) صحيح البخاري كتاب الجهاد 1/411 , المغازى 2/590 (18)   الأحزاب 9 (19) الأحزاب 25  (20) الجامع لأحكام القرآن – القرطبى جـ4 ص 213 فى تفسير الآيه 160 من سورة آل عمران (21)   الرحيق المختوم ص 317(22)   التوبه 25 , 26 (23)   تفسير ابن كثير جـ 4 ص 159 وما بعدها .(24)   ابن هشام جـ 3 ص 336 (25) الأنفال 60  (26) الحج 78 (27) الأنفال 64 ,65   (28) الأنفال 66 (29) المرجع السابق (30)الشورى 30 (31) فاطر 10  (32) الفتح 29

 

المصدر: الاعجاز العلمي - أحمـد حسين خليل كلية الدراسات الإسلامية - جامعة الأزهر
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 151 مشاهدة
نشرت فى 2 مارس 2013 بواسطة MuhammadAshadaw

بحث

تسجيل الدخول

مالك المعرفه

MuhammadAshadaw
مكافحة اضرار المخدرات والتدخين ومقالات اسلامية وادبية وتاريخيه وعلمية »

عدد زيارات الموقع

900,664

المخدرات خطر ومواجهة

مازال تعاطي المخدرات والاتجار فيها من المشكلات الكبرى التي تجتاح العالم بصفة عامة والعالم العربي والإسلامي بصفة خاصة وتعتبر مشكلة المخدرات من أخطر المشاكل لما لها من آثار شنيعة على الفرد والأسرة والمجتمع باعتبارها آفة وخطراً يتحمل الجميع مسؤولية مكافحتها والحد من انتشارها ويجب التعاون على الجميع في مواجهتها والتصدي لها وآثارها المدمرة على الإنسانية والمجتمعات ليس على الوضع الأخلاقي والاقتصادي ولا على الأمن الاجتماعي والصحي فحسب بل لتأثيرها المباشر على عقل الإنسان فهي تفسد المزاج والتفكير في الفرد وتحدث فيه الدياثة والتعدي وغير ذلك من الفساد وتصده عن واجباته الدينية وعن ذكر الله والصلاة، وتسلب إرادته وقدراته البدنية والنفسية كعضو صالح في المجتمع فهي داخلة فيما حرم الله ورسوله بل أشد حرمة من الخمر وأخبث شراً من جهة انها تفقد العقل وتفسد الأخلاق والدين وتتلف الأموال وتخل بالأمن وتشيع الفساد وتسحق الكرامة وتقضي على القيم وتزهق جوهر الشرف، ومن الظواهر السلبية لهذا الخطر المحدق أن المتعاطي للمخدرات ينتهي غالباً بالإدمان عليها واذا سلم المدمن من الموت لقاء جرعة زائدة أو تأثير للسموم ونحوها فإن المدمن يعيش ذليلاً بائساً مصاباً بالوهن وشحوب الوجه وضمور الجسم وضعف الاعصاب وفي هذا الصدد تؤكد الفحوص الطبية لملفات المدمنين العلاجية أو المرفقة في قضايا المقبوض عليهم التلازم بين داء فيروس الوباء الكبدي الخطر وغيره من الأمراض والأوبئة الفتاكة بتعاطي المخدرات والادمان عليها.