قوة الهند.. من بوذا إلى بوليوود رحاب جودة خليفة 0 331 طباعة المقال
«القوى الناعمة» حسب تعريفها الغربى المتعارف عليه هى القدرة على جذب الناس دون إكراه. وهو تعريف استخدمته دول أمام دول أخرى لدفعها لقبول ما تطلبه منها دون إراقة الدماء ودون كراهية وبتأثير ممتد لسنوات طويلة ولشرائح كبيرة من المجتمع. وهذا بالضبط ما نجحت فيه الهند منذ سنوات عديدة وأصبحت بالتالى قوتها الثقافية والفنية لها تأثير أكبر وأعمق من السلاح.
وتمثل ذلك فى انتشار أفكارها وحضارتها من البوذية وحتى السينما او الملقبة بـ«بوليوود» فى كل أنحاء العالم. وحول أسباب تهافت العالم على هذه الثقافة واهتمامهم بها من كل الفئات وكل المجتمعات وكل الأعمار والمستويات، وضع لنا البروفيسور دايا ثوسو أستاذ الإعلام الدولى بجامعة ويستمينستر البريطانية كتابه الجديد «قوة القوى الناعمة بالهند: من بوذا إلى بوليوود» ليكون عن حق خير دليل وتحليل حول اتساع حجم الدبلوماسية الهندية على مر العصور وأهمية القوى الناعمة فى التحكم فى السياسة الخارجية أكثر من الحروب والضغوط الاقتصادية.
وفى الجزء الأول من الكتاب آثر الكاتب أن يبدأ بتأثير بالثقافة الأمريكية ويطرح سؤالا عن المنافس الرئيسى للطرف الشرقى فى هذه المعادلة الفنية. ويرى قى ذلك أنها ليست مصادفة أن يبدأ البحث عن «القوى الناعمة» فى الولايات المتحدة التى تعد أقوى دولة فى العالم اقتصاديا وسياسيا وعسكريا. وقوتها الكبرى بادية فى أكثر من ألف قاعدة عسكرية حول العالم وميزانيتها العسكرية الهائلة وحجم إنفاقها الذى يزيد عن اكثر من 17 دولة. والقوة الأمريكية التى تؤثر فى دول كثيرة وتساعد فى انتشار مفهوم الحياة الأمريكية يتم الترويج لها عبر «قوتها الناعمة» ابتداء من هوليوود إلى امبراطوريات الإنترنت. وتملك الولايات المتحدة أيضا مجموعة من كبريات الشركات و المراكز البحثية المميزة وأشهر المنظمات غير الحكومية والأهم من ذلك؛ أفضل الجامعات ذات التسهيلات والأبحاث المتقدمة.
ورغم تعدد الأسباب وراء إعجاب غير الأمريكيين بالثقافة الأمريكية لكنه من الصعب للغاية أن نفهم سبب انتشارها العالمى بدون الرجوع إلى النص التاريخي. ويكمن تأثير الثقافة الأمريكية حول العالم فى قوتها الاقتصادية والعسكرية منذ بدء القرن العشرين: فوجود القوات الأمريكية منذ الحرب العالمية الأولى كان ومازال أحد اهم أسباب عولمة الثقافة الأمريكية. وبعد الحرب العالمية الثانية كان صعود نجم الولايات المتحدة باعتبارها المنتصر فى الحرب ضد الفاشية فى أوروبا وتزايد حجم رخائها قد بدأ فى الاتساع عبر شبكات الترفيه والإعلام التى لاقت قبولا واسعا لدى الكثير من الأجيال فى أوروبا التى أرهقتها الحرب. وينطلق الكاتب بعد ذلك فى الجزء الثانى ليشرح لنا البعد التاريخى للقوى الناعمة فى الهند. ويوضح أنه وباعتبارها حضارة عريقة، فقد أثرت الثقافة الهندية فى الغرب والشرق على حد سواء. وعلى مدى العصوراستطاعت الهند استيعاب أفكار من ثقافات اجنبية خاصة الإسلامية والأوروبية وذلك خلال فترة إقامة أبناء تلك المناطق على الجانب الغربى من جنوب الهند منذ عصور الرومان. ويوجد مسلمون بالهند أكثر من الذين يعيشون فى باكستان اسهموا فى نشر الكثير من الأفكار وتوسيع نطاق الابتكار والبحث لدى الهند. وبما أن الهند أصبحت موطنا لواحدة من أقدم الحضارات والديانات، فقد أصبحت أيديولوجياتها و فنها وتأثيرها الثقافى من اكثر القوى الناعمة انتشارا فى العالم. وسافرت أفكار الهند حول العالم ابتداء من البوذية وحتى رسالة الزعيم غاندى لتثرى وتتبادل الآراء مع ثقافات أخرى وتستوعب الأخرى أيضا. وخلال عمليات الاستيعاب كان هناك دائما البحث عن المعرفة والوجود والتأثير.
وفى الجزء الثالث، يوضح لنا الكاتب مدى تأثير المغتربين من الهنود والثقافة الهندية على العالم. ويؤكد هنا ان القوى الناعمة فى الهند خاصة بوليوود أصبح تأثيرها العالمى لا يصدق. ويرد الكاتب فى ذلك مثالا ليس له مثيل يؤكد مدى قوة السينما الهندية على الجمهور بل على كل الحروب والخلافات. ويروى أن صحفيا يدعى «بوبى جوش» كان مدير مكتب مجلة «التايم» الأمريكية فى بغداد بعد غزو العراق عام 2003 وكان يراسل المجلة من إحدى القرى الواقعة غرب بغداد. وعندما علم احد الضباط العراقيين وظيفة الصحفى امسك بسلاحه ووجهه للصحفى قائلا «أنت أمريكي؟»، فرد الصحفى قائلا « لكننى من الهند». فقال الضابط مجددا « لا أنت أمريكى وستموت»، وهنا رد الصحفى « انا هندى مثل شامى كابور نجم السينما الشهير». فما كان من الضابط إلا أن أخفض سلاحه متسائلا «هل تعلم شامى كابورحقا؟ كنت اشاهد كل أفلامه وانا صغير»، فاجاب الصحفى منتهزا الفرصة «نعم وأنا أيضا». فسأله الضابط مبتسما هذه المرة «ماذا كان يصرخ قائلا فى أفلامه؟» فأجاب الصحفى «ياهوو». وهنا فقط انتهى الخطر! وقال الضابط» اذهب أيها الصحفي، أنت محظوظ هذه المرة وإلا كنت فى عداد الأموات ويجب أن تشكر ربك على ذلك». هل تتخيلون؟
ولا توضح هذه القصة الطريفة والمخيفة أيضا فقط حجم الانتشار والحب الواسع لبوليوود وتقبل الهند والهنود كقوة موازية للغرب، لكن أيضا دور الخبراء فى مجال الإعلام من الهند الذين يعملون لمصلحة الولايات المتحدة.
وفى ظل العولمة وعمق الاتصالات وكثرتها فى هذا العالم المعاصر، أصبح للمهاجرين الأجانب والمقيمين دور أساسى فى العلاقات الدولية مما أضاف بعدا للقوى الناعمة فى البلاد. واعتمادا على تأثيرهم الاقتصادى والسياسى وسط مراكز القوى العالمية تحول هؤلاء المهاجرون والمقيمون إلى أداة أساسية وفعالة وقناة اتصال لمزيد من الأهداف الخارجية والمكاسب. وهذه المجتمعات المتفرقة من ذوى الأصول الهندية المنتشرين بالخارج يجتمعون دائما من خلال تكنولوجيا الاتصالات. وقد ظهروا بشكل خاص خلال السنوات الأخيرة كصوت مهم ومسموع فى العالم. ويظهر دورهم بشكل واضح ومؤثر عن طريق انتشار الكثير منهم فى الجامعات الكبرى والإعلام الدولى والمنظمات المتعددة الجنسيات والمؤسسات ذات النشاطات الدولية.
ومن قوة التكنولوجيا إلى القوى الناعمة ننتقل فى الجزء الرابع لبحث الصلة بينهما. ووفقا للدراسات الدولية فإن تكنولوجيا الإنترنت لعبت دورا رئيسيا فى تحويل صورة الهند من بيروقراطية اقتصادية تتحرك ببطء إلى أرض من المستثمرين المبتكرين ولاعب دولى فى توفير حلول تكنولوجية رائعة وخدمات فى مجالات الأعمال المختلفة. فما كان من جهات الدولة المختلفة إلا أن انتهزت الفرصة وسعت دائما إلى تطوير حضارتها وتوسيع انتشارها. والتحرر من القيود وتحرير التجارة والخصخصة التى بدأت منذ التسعينيات قادت إلى تحول سريع فى صناعات الخدمات الهندية خاصة فى مجال المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات. ومع انشاء منظمة التجارة العالمية عام 1995 جاءت ميزات التجارة العالمية واتبعت الهند هذا المسار بقوة.
وفى الجزء الخامس تحت عنوان «الثقافة كقوى ناعمة: بوليوود ومابعدها»، يعود كاتبنا ليقص علينا قصة مثيرة من عبق التاريخ وذلك وفقا للشاعر الفارسى «الفردوسي» من القرن الحادى عشر الذى جمع عدة أساطير وتقاليد فى كتابه الشهير «شاهناماه» أو «كتاب الملوك». ويروى الشاعر أنه فى القرن الخامس دعا ملك ساسان «باهارام جور» اكثر من 10 آلاف موسيقى هندى إلى بلاطه ومنحهم ماشية وذرة وبغالا حتى يستقروا فى بلاده لفترة من الوقت للترفيه عن رعاياه الفقراء الذين كانوا يشتكون وبدأوا يتذمرون عليه بسبب حصول الأغنياء على كل وسائل الترفيه من موسيقى وغناء. إذن فإن أهمية الموسيقى والرقص الهندية فى العالم تعود إلى تاريخ قديم مكونة جزءا مهما من نسيجها الثقافى الذى يراه العالم بكل وضوح. والقصص الدينية الهندية دائما لها صلة أو تروى باستخدام الفن والموسيقى والرقص. وبالتالى أصبحت الهند موصلا رئيسيا للثقافة عبر آسيا وخارجها. ومن هنا يصل بنا الكاتب إلى الجزء الأخير والسادس من الكتاب عن ضرورة تحويل الهند إلى «علامة تجارية» فى إطار الاندماج مع المجتمع الدولى وتقدمه. ومما لا شك فيه فإن بوليوود اكبر صورة للشعبية الهندية فى العالم و«ماركتها المسجلة». والماركة المسجلة هنا أو العلامة التجارية هى اداة أساسية للترويج عن البضاعة او البلد الذى ينتج هذه البضاعة فى ظل عالم أصبحت الصورة تتحكم به وأيضا لحماية هذه القوى الناعمة. ومن هذا المنطلق فإن للهند ماركات اخرى مسجلة مازالت تدر عليها ربحا وشعبية مثل غاندى رمز السلام واليوجا كرياضة الروح والكريكت والطعام المميز والاحتفالات المختلفة والموضة.
ويؤكد الكاتب أن النظام الدولى فى القرن الحادى والعشرين فى ظل مشاركاته المتشابكة بحاجة دائمة لإعادة التفاوض بشأن الأدوار التى يجب أن تتولاها فى العالم، والهند مؤهلة بالشكل الكافى لإعادة كتابة هذه القواعد وتحديد المعايير التى ستقود العالم غدا. ويرى أن مسار السلام والوجود السلمى الذى كثيرا ما كان أساسيا فى التاريخ الهندى هو السبيل لدعم التعاون واستقراره فى كل مناطق العالم. وكما انتشرت البوذية بمبادئها السلمية ساهم التعاون بين دول آسيا المختلفة رغم اختلاف ثقافاتها فى تنامى قوتها الاقتصادية والسياسية متفوقة على حضارات أقوى مثل الصين.
رابط دائم:0 اضف تعليقك البريد الالكترونى الاسم عنوان التعليق التعليق
ساحة النقاش