الإنسان بين النكرة والمعرفة


 

إن الإنسانَ أتى عليه حينٌ من الدهر لم يكن شيئًا، وهذه هي بدايتُه الحقيقية؛ أنْ لا وجودَ ثم الوجود، النكرة ثم المعرفة؛ قال - تعالى -: ﴿ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ﴾ [مريم: 9]، وقال - تعالى -: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [الإنسان: 1، 2].

 

يذكِّر ربُّ العالَمين الإنسانَ الذي نسِي نكِرتَه ببدايته، ويقول له: لقد أتى عليك وقتٌ لم تكنْ شيئًا، لم يكن لك نباهة أو رِفعة أو ذِكر، ثم جعلك نطفةً، فعلقة، فمضغةً، حتى كسا عظامَك لحمًا، وأنشأك خَلْقًا آخرَ، فما عليك إلا أن تقولَ: فتبارك اللهُ أحسنُ الخالقين، قال العلماء: هناك ثلاثُ نِعَمٍ لا كسْبَ للعبد فيها:

الأُولى: وجوده بعد العدم.

الثانية: نعمة الإيمان.

الثالثة: دخول الجنة.

 

وتتوالى نِعَمُ الله على الإنسان ليصبحَ أكثرَ معرفةً بنفسه وبما حوله، ثم يسخِّر الله الكون بما فيه من خيرات لهذا الإنسان؛ قال - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ * وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ * فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ * وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴾ [المؤمنون: 17 - 22].

 

ثم فجأة وسط هذه النعم ينسى الإنسانُ نكرتَه، ويتمسك بمعرفته، حتى ظن أن النِّعَمَ المحيطة به هي من تلقاء نفسه؛ بعقله وفهمه وجهده، بل قد تصل الفرعنةُ بالإنسان ألا يكتفيَ بجَحْدِ نِعَمِ الله عليه، بل ويَنسبها لنفسه؛ حيث يريد أن يحول الناسَ من عبودية الواحد الأحد (الله)، إلى عبودية الإنسان، وهذا ما صرَّح به فرعون المتأله، الذي ادعى الربوبيةَ والإلهية معًا - كما حكى القرآن عنه-: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24]، و﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾ [القصص: 38].

 

وقد صار على نهج التألُّه أتباعٌ كثيرون في كل عصر؛ فها هو فرعون قريش يخرج بطَرًا ورئاءَ الناس، يحادُّ اللهَ ورسوله، ويحاد الذين آمنوا: ﴿ كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ ﴾ [الأنفال: 47].

 

فكان الهلاك لهذا الطاغية على يدِ عبدٍ من عِباد الله الموحِّدين، وقد أذله اللهُ كما أذلَّ غيرَه بنفس الصورة التي يُهلِكُ اللهُ بها الفراعين، وكأنها صورةٌ صوِّرت وحمضت منذ فرعون الأول، مرورًا بأبي جهل، حتى وصل الإذلالُ والهوان إلى كلِّ مَن تكبَّر ونسي أصله وتكوينه، وها هي المشاهد تتكرر عندما يركع مَلِك ملوك إفريقيا القذَّافي؛ ليطلب الحياةَ من قاتليه الذين لا يملِكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا.

 

وظهر فرعون آخر في سوريا بمعاونة أمريكا الطاغوت، التي ستتحطم بإذن الله، ومعهم الصهاينة الغادرون، خرج هذا النكرة ليطلب جندُه من الناس أن يسجدوا لصورته، بل ويرضى بأن يحرف كلمة التوحيد، بإرغام الناس تحت شدة التعذيب والتنكيل وانتهاك الأعراض أن يقال: "لا إله إلا بشار"، كبُرت كلمةً تخرج من أفواههم، إن يقولون إلا كَذِبًا، والله إن السماءَ والأرض والجبال والكون كله ليَغارُ على هذه الكلمة مِن أن تحرَّفَ، أو أن يُتَّخذ مع الله نِدٌّ؛ ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ﴾ [مريم: 88 - 95].

 

رسالة إلى الفراعين:

ولا يحسبن الفراعين أن اللهَ غافلٌ عما يعملون، إنما يؤخرهم ويمهلهم، حتى إذا أكثروا الفساد، صبَّ عليهم العذاب، وهذه سنة كونية لا يُلتَفتُ إليها، وهي أن العذابَ الأليم المهين لا ينزل إلا إذا أكثر أهلُ الظُّلم والطغيان من الظلم والفساد؛ قال - تعالى -: ﴿ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾ [الفجر: 12 - 14].

 

رسالة إلى مَن بَغى عليهم الفراعين:

قد يتزلزل الناسُ حتى تصل القلوب إلى الحناجر، بل ويظنُّون بالله الظنون، بل ويظنُّون بالله ظن الجاهلية، حتى يقول الناس: لماذا مكَّن اللهُ لهؤلاء الفراعنة؟ ولماذا أُسلِمَت رقابُ عباد الله لهم؟

 

تظل هذه الأسئلةُ حائرةً في صدور كثير من الناس، بل وفي صدور الموحِّدين، وربما يصل الأمر إلى الاستسلام.

 

نقول لمن تتخالج نفسه بهذه الهواتف المريضة المثبطة: مهلاً مهلاً؛ فقد عصفت الأحداث بالمؤمنين في مواطنَ كثيرةٍ، وأحاط بهم الكافرون من كل مكان: ﴿ إِذْ جَاؤُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 10، 11].

 

ولكن سرعان ما تذكَّر المؤمنون - بما معهم من رصيد إيماني - أن الدائرةَ لهم، وأن نصر الله قريب ﴿ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214]، وأن هذا النصرَ يكون بعد البأساء والضراء: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214].

 

سرعان ما رُدَّتِ القلوبُ التي وصلت للحناجر إلى وضعها الطبيعي؛ لترسم لنا صور الإيمان في مواجهة الأعداء: ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 22]، بذَلوا وصمدوا؛ لأنهم يعلمون أن الدماءَ التي تسيل منهم لها ثمنٌ غالٍ عند الله، وأن فترة الإمهال لحكمة، وأن تداوُلَ الأيام بين الصعود والهبوط سنَّةٌ كونية: ﴿ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [آل عمران: 140]، وسنَّة التداول هذه ليمحص اللهُ الصفَّ، ويتخذَ الشهداء: ﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [آل عمران: 140، 141].

 

فصبرًا يا أهل سوريا، ومن على شاكلتهم، صبرًا صبرًا؛ فإن نصرَ الله قريب.

 

وصبرًا صبرًا أيها المتجبرون؛ فإنَّ أخْذَ الله شديد؛ ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102].

 

أيها المتجبرون المتكبرون، ستعودون نكرةً مرة أخرى كالذَّرِّ، يطؤكم الناسُ بأقدامهم، وما ذلك على الله بعزيز.

 



   



رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Culture/0/55008/#ixzz2UH9hFuDm

azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 69 مشاهدة
نشرت فى 25 مايو 2013 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,823,919