بقلم: د. محمد عمارة 388
إبان الغزوة الصليبية (489 ـ690هـ ـ1096 ـ1291م) التي دامت قرنين من الزمان كانت أوروبا تعيش ـ تحت حكم الكنيسة ـ عصور الجهالات والظلمات..
وكان فرسان الاقطاع الأوروبيون ـ الذين غزوا بلادنا, واقاموا فيها المستعمرات الاستيطانية ـ كما يقول الكاتب الفارس الأمير أسامة بن منقذ (488 ـ584هـ ـ1095 ـ1188م) بهائم, لا فضيلة لديهم سوي القتال!.. ولذلك زالت كل آثار هذه الغزوة الطويلة مع زوال قلاعها الحربية من الشام, فلم يكن لديهم فكر ولا حضارة تترك آثارها بعد هزيمة الجيوش, وسقوط القلاع.
لكن الغرب الاستعماري تعلم من هذا الدرس, عندما عاود غزو الشرق الإسلامي, بعد ثورته الصناعية ونهضته الحديثة, فبدأ غزوته الحديثة بالفكر, الذي يحتل العقل ويمنح الهوية حتي إذا ما جاءت الجيوش الغازية لتحتل الأرض وتنهب الثروة, قام التغريب بالتأييد والتأبيد لاحتلال الأرض ونهب الثروات.
وفي القرن التاسع عشر, وعندما كانت فرنسا العلمانية تطارد الدين في بلادها كانت تنفق الأموال علي اقامة مدارس الارساليات الكاثوليكية في المشرق العربي, لايجاد جيل من المثقفين المتغربين الذين يحولون البوصلة الحضارية في اتجاه أوروبا, مستبدلين النموذج الغربي بالإسلام.. ولتحقيق هذه الغاية ـ تمهيد المدارس لجيوش الاحتلال ـ كتب القنصل الفرنسي في بيروت إلي وزارة الخارجية الفرنسية يطلب الدعم المالي لمدارس الارساليات الفرنسية الكاثوليكية في لبنان, والتي ستخرج جيشا ثقافيا متفانيا في خدمة فرنسا وحضارتها الأوروبية وعاملا علي ركوع الحضارة العربية ـ التي سماها البربرية العربية! ـ أمام الحضارة المسيحية لأوروبا.. نعم.. كتب القنصل الفرنسي ببيروت ـ إلي وزير خارجيته ـ بباريس يقول: إن حكومة الملك ـ (ملك فرنسا) ـ ستوجد بين هذه العائلات ـ (المارونية) ـ من خلال نشر اللغة والثقافة الفرنسيتين نقاط اتصال جديدة معها ومع البلد, ورموزا جديدة وثمينة للاعتراف بفضل فرنسا.. وان حكومة الملك تدرك تماما أن خدمتها للمصالح الدينية تعني خدمة الحضارة التي هي في الوقت نفسه مصالح السياسة الفرنسية.. وان الهدف هو جعل سوريا حليفا أكثر أهمية من مستعمرة, وتأمين هيمنة بلدنا علي منطقة خصبة ومنتجة وتكوين جيش متفان لفرنسا في كل وقت.. وأن تنحني البربرية العربية لا إراديا أمام الحضارة المسيحية لأوروبا!!
هكذا خططت فرنسا الاستعمارية ـ في منتصف القرن التاسع عشر ـ لتكوين جيش ثقافي تخرجه مدارس لارساليات الكاثوليكية بلبنان, يتفاني في خدمة فرنسا وحضارتها المسيحية الأوروبية ويجعل الحضارة العربية تنحني لا إراديا أمام النموذج الحضاري الأوروبي!
ولقد تم تحقيق هذا المخطط كما اراده الاستعمار.. وبسبب من الدور المحوري لمصر, هاجرت كوكبة من طلائع هذا الجيش الثقافي الذي تخرج من مدارس الارساليات الكاثوليكية الفرنسية, هاجرت إلي مصر, فأصدروا بها الصحف والمجلات ومؤسسات النشر والثقافة, التي بشرت بالنظريات الغربية, ونماذج التحديث علي النمط الغربي, والتي أخذت ـ تحت ستار العلم ـ في زرع الشكوك واللاأدرية بعقائد الإسلام.. بل والتبشير بالمادية والزندقة والإلحاد.. وعلي سبيل المثال.. فلقد كان أول داعية لإحلال اللهجات العامية محل العربية الفصحي هو أمين شميل (1828ـ1897م) أحد خريجي هذه المدارس.. ولقد تصدي عبدالله النديم (1261ـ1313هـ ـ1845ـ1896م) لهذه الدعوي سنة 1881م بمقال عنوانه: التفريط في اللغة اضاعة للذات!.. وكان الراعي للداروينية والمادية والإلحاد, هو شبلي شميل (1860ـ1917م) من خريجي ذات المدارس الفرنسية.. وكذلك كان فرح أنطون (1874ـ1922م) الذي سعي إلي تفسير فلسفة ابن رشد (520ـ595 هـ ـ1126 ـ1198م) تفسيرا ماديا, وإلي احلال العلمانية محل الشريعة الإسلامية وفقه معاملاتها.. بل ان أول دعوة إلي العلمانية في الشرق قد جاءت من قبل خريجي هذه المدارس, ومن أركان الجيش الثقافي الذي تخرج فيها ـ من قبل حنا الطرابلسي وميشيل حكيم ـ في صحيفة المقطم ـ أغسطس سنة 1898م و1899م. ويومها قام بالرد عليهما الشيخ رشيد رضا (1282ـ1354هـ ـ1865ـ1935م) في أول معركة فكرية شهدتها بلادنا حول هذا الموضوع.
ولقد أنشأ هذا الجيش الثقافي ـ بمصر ـ العديد من المنابر الثقافية والصحفية, من أشهرها مجلة المقتطف ـ التي استمرت تصدر من سنة 1876م حتي قيام ثورة يوليو سنة 1952م.. والتي كانت تدس سم الإلحاد في عسل النظريات العلمية الحديثة.. وكذلك صحيفة المقطم التي صدرت سنة 1889م وحتي ثورة يوليو سنة2591 م.. والتي كانت لسان حال الاستعمار الإنجليزي ودار المعتمد البريطاني بمصر!.. وكان القائمون علي هذه المنابر الثقافية والسياسية هم ـ أيضا ـ من خريجي مدارس الارساليات الكاثوليكية الفرنسية ـ يعقوب حروف (1852ـ1927م) وفارس نم ر(1856ـ1951م) وشاهين مكاريوس (1853ـ1910م).
ولأن عبدالله النديم كان أحد المعبرين عن ضمير الأمة وهويتها العربية والإسلامية فلقد تصدي لهذا الجيش الثقافي الذي زحف علي مصر المحروسة.. فكتب يصف القائمين علي مجلة المقتطف بأنهم: اعداء الله وأنبيائه.. والأجراء الذين انشئوا لهم جريدة جعلوها خزانة لترجمة كلام من لا يدينون بدين, فمن ينسبون معجزات الأنبياء إلي الظواهر الطبيعية والتراكيب الكيماوية, ويرجعون بالمكونات إلي المادة والطبيعة منكرين وجود الإله الحق. وقد ستروا هذه الأباطيل تحت اسم فصول علمية, وما هي إلا معاول يهدمون بها عموم الأديان!
أما صحيفة المقطم ـ العاملة في خدمة الاحتلال الإنجليزي فلقد تحدث النديم عن أصحابها وكتابها فوصفهم بأنهم الأجراء الخونة, عملاء الأجانب الذين خانوا وطنهم وأهلهم وداروا حول أبواب الإنجليز, فخوفوهم من المصريين, حتي ابعدوهم عن الخدمة وحشدوا مكانهم الغرباء حتي كأن ثمرة مصر ما حرمت إلا علي ابنائها.. وهم يستدعون أوروبا علي مصر بدعوي المحافظة علي الأمن والخوف من الحركات الدينية.. فهم اعداء المصريين, العاملون علي شق عصا الاجتماع الشرقي!
هكذا مولت فرنسا العلمانية مدارس الارساليات الدينية لتخريج الجيش الثقافي المتفاني في خدمة الحضارة المسيحية لأوروبا.. والذي مهد الأرض لجيوش احتلال الأرض ونهب الثروات!
ساحة النقاش