بقلم: د. محمد عمارة 1084
قبل أربعة عشر قرنا, وعندما لم يكن هناك من يعترف بالآخر ـ دينيا أو حضاريا كان هذا الآخر ـ وعندما كانت ديمقراطية أثينا وقفا علي القلة من الفرسان الملاك الأحرار, ومن عداهم من البشر برابرة وأرقاء ليست لهم أي حقوق..
وعندما كان شرف التحاكم إلي القانون الروماني مدونة جستنيان(725 ـ566 م) ـ وقفا علي السادة الرومان الأحرار, دون من عداهم من أبناء المستعمرات.. في ذلك التاريخ, ظهر الاسلام الذي جعل التكريم لمطلق بني آدم( ولقد كرمنا بني آدم) ـ الإسراء:07 ـ وجعل التعددية والاختلاف في الشرائع الدينية, وفي الألوان والأجناس, وفي اللغات والقوميات, وفي المناهج والثقافات والحضارات قانونا وسنة ماضية إلي يوم الدين, ليس لها تبديل ولا تحويل( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) ـ المائدة:84 ـ( ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف السنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين) ـ الروم:22
( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة و لايزالون مختلفين. إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) ـ هود:911,811 ـ أي وللاختلاف خلقهم..( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) ـ الحجرات:31 ـ.. كما جاء الاسلام مصدقا لما سبقه من الكتب والنبوات والرسالات( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله) البقرة:582 ـ
منذ ذلك التاريخ, وقبل أن تعرف الإنسانية شيئا عن حقوق الإنسان, ومواثيق هذه الحقوق, افتتح الاسلام صفحة جديدة قرر فيها الاعتراف بالآخر ـ كل ألوان الآخر ـ وتقديس مقدسات الآخر.. وحماية الآخر وعقائده ومقدساته ومعابده بما يحمي به أهل الاسلام( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) ـ الحج:04 ـ..
ولم يقف الاسلام ـ في هذا الفتح الجديد ـ عند الفكر النظري, وإنما وضع هذه المبادئ والاعلانات والمواثيق الدستورية ـ مواثيق التعايش ـ في الممارسة والتطبيق:
> فمع تأسيس الدولة الاسلامية الأولي سنة1 هـ سنة226 م نص دستور هذه الدولة علي التعددية الدينية لرعية هذه الدولة, وعلي المساواة في الحقوق والواجبات بين رعية هذه الدولة ـ علي اختلاف دياناتهم ـ وجاء في هذا الدستور ـ عن تكوين يهود المدينة أمة مع المؤمنين بالاسلام: لليهود دينهم وللمسلمين دينهم. ومن تبعنا من يهود فإن لهم النصر والأسوة, غير مظلومين ولا تناصر عليهم, وأن بطانة يهود ومواليهم كأنفسهم. وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين, علي اليهود نفقتهم وعلي المسلمين نفقتهم. وأن بينهم النصر علي من حارب أهل هذه الصحيفة ـ( الدستور) ـ وأن بينهم النصح والنصيحة والبر المحض من أهل هذه الصحيفة, دون الإثم. لا يكسب كاسب إلا علي نفسه.
> فلما كانت سنة01 هـ,631 م جاء إلي المدينة المنورة ـ في عام الوفود ـ وفد نصاري نجران ـ باليمن ـ وفيه أمراؤهم وأساقفتهم ـ فاستقبلهم رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ وصحابته, وفتح لهم باب مسجد النبوة فصلوا فيه صلاة عيد الفصح.. وكتب لهم عهدا دستوريا, لهم ولكل من يتدين بدين النصرانية ـ عبر الزمان والمكان ـ جاء فيه: لنجران وحاشيتها, ولأهل ملتها, ولجميع من ينتحل دعوة النصرانية في شرق الأرض وغربها, قريبها وبعيدها, فصيحها وأعجمها, جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله, علي أموالهم وأنفسهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم, وتبيعهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير.
>لا يغير أسقف من أسقفيته, ولا راهب من رهبانيته
>وأن أحرس دينهم وملتهم أين كانوا, بما أحفظ به نفسي وخاصتي وأهل الاسلام من ملتي
>ولا يحملون من النكاح ـ( الزواج) ـ شططا لا يريدونه, ولا يكره أهل البنت علي تزويج المسلمين, ولا يضاروا في ذلك إن منعوا خاطبا وأبوا تزويجا, لأن ذلك لا يكون إلا بطيبة قلوبهم ومسامحة أهوائهم, إن أحبوه ورضوا به.
>وإذا صارت النصرانية عند المسلم ـ( زوجة) ـ فعليه أن يرضي بنصرانيتها, ويتبع هواها في الاقتداء برؤسائها, والأخذ بمعالم دينها, ولا يمنعها ذلك. فمن خالف ذلك وأكرهها علي شيء من أمر دينها فقد خالف عهد الله وعصي ميثاق رسوله, وهو عند الله من الكاذبين.
>ولهم ـ( أي النصاري) ـ إن احتاجوا في مزمة بيعهم وصوامعهم أو أي شيء من مصالح أمورهم ودينهم إلي رفد ـ( مساعدة) ـ من المسلمين وتقوية لهم علي مرمتها أن يرفدوا علي ذلك ويعاونوا, ولا يكون ذلك دينا عليهم, بل تقوية لهم علي مصلحة دينهم, ووفاء بعهد رسول الله, وموهبة لهم, ومنة لله ورسوله عليهم.
> لأني أعطيتهم عهد الله أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما علي المسلمين وعلي المسلمين ما عليهم, بالعهد الذي استوجبوا حق الزمام, والذب عن الحرمة, واستوجبوا أن يذب عنهم كل مكروه, حتي يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم.
> واشترط عليهم أمورا يجب عليهم في دينهم التمسك بها, والوفاء بما عاهدهم عليه, منها:؟ لا يكون أحد منهم عينا ولا رقيبا لأحد من أهل الحرب علي أحد من المسلمين في سره وعلانيته, ولا ينزلوا أوطانهم ولا ضياعهم ولا في شيء من مساكن عباداتهم ولا غيرهم من أهل الملة ولا يساعدوا أحدا من أهل الحرب علي المسلمين, بتقوية لهم بسلاح ولا خيل ولا رجال ولا غيرهم, ولا يصانعوهم. وإن احتيج إلي اخفاء أحد من المسلمين عندهم أن يؤوهم ويرفدوهم ويواسوهم فيما يعيشون به ما كانوا مجتمعين, وأن يكتموا عليهم, ولا يظهروا العدو علي عوراتهم. ولا يخلوا شيئا من الواجب عليهم.
> ولا يدخل شيء من بنائهم في شيء من أبنية المساجد ولا منازل المسلمين.
> ولا خراج ولا جزية إلا علي من يكون في يده ميراث من ميراث الأرض, ممن يجب عليه فيه للسلطان حق, فيؤدي ذلك علي ما يؤديه مثله. لا يجار عليه, ولا يحمل منه إلا قدر طاقته وقوته علي عمل الأرض وعمارتها واقبال ثمرتها, ولا يكلف شططا, ولا يتجاوز به حد أصحاب الخراج من نظرائه.
> ولا يكلف أحد من أهل الذمة منهم الخروج مع المسلمين إلي عدوهم لملاقاة الحروب, فإنه ليس عليهم مباشرة القتال, وإنما أعطوه الذمة علي أن لا يكلفوا ذلك وأن يكون المسلمون ذبابا عنهم وجوارا من دونهم.
> ولا يكرهوا علي تجهيز أحد من المسلمين إلي الحرب بقوة وسلاح أو خيل, إلا أن يتبرعوا من تلقاء أنفسهم, فيكون من فعل ذلك منهم وتبرع به, حمد عليه, وعرف له, وكوفئ به.
>ولا يجبر أحد ممن كان علي ملة النصرانية كرها علي الاسلام( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن).
>ويخفض لهم جناح الرحمة, ويكف عنهم أذي المكروه حيث كانوا وأين كانوا من البلاد.
>فمن نكث شيئا من هذه الشرائط وتعداها إلي غيرها فقد برئ من ذمة الله وذمة رسوله.
>ولا ينقض ذلك ولا يغير حتي تقوم الساعة إن شاء الله
هكذا أعلن الاسلام ـ منذ ما قبل أربعة عشر قرنا ـ أول ميثاق للتعايش بين أهل الديانات السماوية. وهو ميثاق ينتظر منا أن ندرسه.. وأن نفقه مراميه.. وأن نضعه في الممارسة والتطبيق؟
المزيد من مقالات د. محمد عمارة
ساحة النقاش