{ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}
( الأنفال:30).
بقلم: د. زغلول النجار
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في أواخر النصف الأول من سورة الأنفال, وهي سورة مدنية, وآياتها خمس وسبعون بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم الأنفال أي المغانم جمع نفل بالفتح وهو الزيادة أو الأمر الثانوي.
وفي ذلك إشارة إلي الغنائم التي غنمها المسلمون أثناء معركة بدر الكبري. وقد سميت الغنائم بالأنفال احتقارا لشأنها أمام نصر المسلمين وحماية الدين. ويدور المحور الرئيس لسورة الأنفال حول عدد من التشريعات الإسلامية انطلاقا مما جري في غزوة بدر الكبري.
هذا وقد سبق لنا استعراض سورة الأنفال وما جاء فيها من التشريعات, وركائز العقيدة الإسلامية, ونركز هنا علي لمحة الإعجاز الإنبائي في وصف القرآن الكريم لمؤامرة مشركي قريش علي رسول الله صلي الله عليه وسلم.
وفي مقالنا السابق تحدثنا عن خروج رسول الله- صلي الله عليه وسلم- وصاحبه الكريم من مكة المكرمة إلي غار ثور في طريقهما إلي المدينة, وتوقفنا عند مبيتهما في الغار لثلاث ليال جد فيها فرسان قريش ومقتنو الآثار في البحث عن المهاجرين الكريمين. ولما هدأ الطلب في المغارات المحيطة بمكة المكرمة, واتجهت أنظار المطاردين إلي ما هو أبعد من ذلك, جاء عبدالله بن أبي بكر بالراحلتين والدليل الذي كان مشركا, ولكنه عاهد علي ألا يخون الأمانة, وأتتهما أسماء بنت أبي بكر- رضي الله عنها- بزاد رحلتهما, وخرج رسول الله وصاحبه من الغار, فانطلقا سالكين طريق الساحل, وصحبهما في رحلة الهجرة كل من عامر بن فهيرة وعبد الله بن أريقط. اتجه الصاحبان إلي المدينة, وقد اشتد الطلب في أثرهما من الطامعين في جائزة قريش (مائة ناقة) لمن يأتي بواحد منهما حيا أو ميتا. فبادر سراقة بن مالك يركض بحثا عنهما, حتي إذا قرب منهما غاصت أقدام فرسه في الأرض فيستجير برسول الله فيجيره. ثم يدفعه الطمع إلي تناسي ما وقع له فيصيبه أشد منه, وهكذا حتي آمن ألا سبيل له إليهما فيعود صادا للطلب, رادا للمتعقبين.
وفي الطريق إلي المدينة نزل الركب لشيء من الراحة والتزود علي خيام لأم معبد الخزاعية وهي تعيش في شدة من الجدب والعوز. فسألها رسول الله- صلي الله عليه وسلم- أن تبيعهما لحما أو لبنا أو تمرا, فقالت: والله لو كان عندنا ما أعوزناكم القري. ثم أبصر رسول الله شاة خلفها عن الغنم شدة ما بها من جهد وهزال, فقال: هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك قال: أتأذنين لي في حلابها؟ أجابت: والله ما ضربها فحل قط فشأنك إن رأيت فيها حلبا فاحلبه, فمسح بيده الشريفة علي كل من ظهرها وضرعها وسمي الله, فدرت. ودعا بإناء فحلب, فنزل اللبن قويا في صوته, ثرا في تدفقه, فقدم لأم معبد فشربت حتي رويت, وشرب من حضر حتي روي, وأخيرا شرب رسول الله حتي روي.وكان قدومه علي أهل هذه المحلة بشير يمن وبركة فنزل الغيث, واخضرت الأرض, ودرت الضروع, فأطلقوا علي زائرهم اسم المبارك.
وفي الطريق لقي ركب المهاجرين أبا بريدة وكان رئيس قومه, وكان قد خرج في طلب الرسول وصحبه, ولما واجههم أسلم مع سبعين من قومه. كذلك لقي الركب الكريم الزبير في جماعة من التجار المسلمين العائدين من بلاد الشام, ففرحوا بلقاء رسول الله. وكان المسلمون من المهاجرين والأنصار من أهل المدينة قد سمعوا بخروج رسول الله وصاحبه من مكة المكرمة قاصدين المدينة, فكانوا إذا صلوا الصبح خرجوا إلي ظاهر المدينة ينتظرونهما حتي تستبد بهم الشمس فيعودون إلي بيوتهم, وكان الوقت صيفا, واستمروا علي ذلك عدة أيام.
وأخيرا وصل ركب رسول الله إلي قباء فاستقبله أهلها بالترحاب والبهجة. وقضي رسول الله وصاحبه أياما في قباء يصليان في مسجدها, وكان أول مسجد أسس علي التقوي.
ثم تحول الركب إلي المدينة, وتزاحم أهلها علي زمام ناقة رسول الله, كل يريد أن يظفر بنزوله عنده, فيقول دعوها فإنها مأمورة, حتي بركت في موضع مسجده الشريف, وإلي جواره كانت دار أبي أيوب الأنصاري التي نزل فيها رسول الله. وكانت هذه الأرض الخلاء التي بركت فيها ناقة رسول الله ملكا ليتيمين في المدينة, وهباها لرسول الله الذي أصر علي دفع ثمنها كاملا لهما قبل البدء ببناء المسجد.
أمر رسول الله ببناء مسجده حيث بركت ناقته القصواء, وجاء بناء المسجد بسيطا: فراشه الرمال والحصباء, وأعمدته جذوع النخل, وسقفه الجريد. وفي هذا البناء المتواضع ربي رسول الله رجالا مؤمنين بالله, وملائكته, وكتبه ورسله, واليوم الآخر, وبرسالة الإنسان في هذه الحياة عبدا مستخلفا في الأرض, يعبد الله- تعالي- بما أمر ويقيم عدل الله في ربوعها, ويسعي في عمارتها وفي حسن القيام بواجبات الاستخلاف فيها. وفي المدينة المنورة آخي رسول الله بين المهاجرين والأنصار فجعل لكل مهاجر أخا من الأنصار, فقاسموهم كل شيء حتي نزل فيهم قرآن يتلي حتي اليوم.
وكان من عوامل نجاحه- صلي الله عليه وسلم- في أداء رسالته ذلك التدريب النفسي الشاق الذي عرضه الله- تعالي- له طيلة حياته. فقد عاني من اليتم, والاغتراب عن الأهل في طفولته المبكرة, ومن فقد الزوجة والعم, وموت أبنائه الذكور في حياته. كما عاني من شظف العيش, فقد زهدت فيه المرضعات بعد ولادته, ورعي الغنم منذ حداثة عمره, ثم عمل بالتجارة إلي ما قبل بعثته الشريفة, وحوصر في شعب بني هاشم لثلاث سنوات كاملة حتي اضطر ومن معه إلي أكل أوراق الشجر.
وكان من عوامل نجاحه- صلي الله عليه وسلم- كذلك أنه كان قد أوقف حياته, ونذر نفسه من أجل إعلاء دين الله, وإقامة عدله في الأرض, انصياعا لأمر الله- تعالي- بقوله: قل إنني هداني ربي إلي صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين. قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين.لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين (الأنعام:161-163).
وكان من عوامل نجاحه أيضا وضوح الرؤية أمامه, ومعرفة الطريق التي يسلكها معرفة دقيقة, والإلمام بأبعاد الرسالة التي حملها له الله- تعالي- تكليفا وتشريفا وحملها هو إلي الناس جميعا في زمانه, ومن بعد زمانه إلي يوم الدين, وحمل أمانة التبليغ إلي كل مسلم ومسلمة من بعده, وفي ذلك يأمره الله- تعالي- بقوله العزيز: قل هذه سبيلي أدعو إلي الله علي بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين (يوسف:108).
وهذه الآية الكريمة تحوي إنباء من الله- تعالي- إلي رسوله الكريم بتفاصيل المؤامرة التي خطط لها أقطاب قريش في تكتم شديد, وفضحهم القرآن الكريم بكشف تفاصيل المؤامرة, مما يجعل من هذه الآية الكريمة وجها من أوجه الإعجاز الإنبائي في كتاب الله.
المزيد من مقالات د. زغلول النجار
ساحة النقاش