بقلم: إبراهيم اصلان 362
الموهبة: زينة الأشياء, تعطي الأغنية لمن هو أخرس. القائل, هو الفرنسي الشهير جان جينيه, ذكرتنا به زيارة الأخوة من الكتاب الفلسطينيين, كما ذكرتنا بكتابه أسير عاشق الذي وضعه ما بين عامي1984 ـ1986.
لاستعادة الشهور الطويلة التي قضاها في ضيافة الفدائيين الفلسطينيين, مطلع العقد السبعيني في عجلون بالأردن, والجولان السورية, والمغرب ولبنان, والذي صدره بملاحظة تقول: ينبغي صيانة جميع صور اللغة واستخدامها, فهي كائنات في الصحراء, حيث ينبغي الذهاب للبحث عنها.
و جينيه1986/1910, الذي يعده مؤرخو الأدب أحد سادة النثر الفرنسي في العصر الحديث, كانت أمه, بعد شهور من ولادته, قد تخلت عنه إلي ملجأ للأيتام المعوزين, ولم يعرف سوي اليتم البائس والجوع والإذلال الجسدي والخوف والتحقير, وهو حين يلقي نظرة علي ماضيه لا يري سوي موكب من الأفعال المخزية التي تدعو للرثاء, ويقول: من مثل هذه المواقف المريرة استللت أسباب المجد, وأقول لنفسي ذلك ما أنت عليه, ولكني علي الأقل واع بذلك, وأنتم يا من تنظرون إلي باحتقار, ألستم نتاج كوارث مشابهة, ولكنكم لا تعون ذلك, وبالتالي لا تملكون ميزة الفخر, أقصد معرفة القوة التي تمكنكم من الصمود في وجه التعاسة, ليست تعاستكم الخاصة, بل تعاسة الجنس البشري.
من هناك, بدأت سنوات سجنه وتشرده وضياعه الذي استمر حتي العام1943, حيث أوشك علي السجن المؤبد والاستبعاد إلي معسكر للاعتقال الأمر الذي لم ينقذه منه إلا مداخلات ومناشدات عديدة من كتاب العالم أجمع, تصدرتها شهادة من الفرنسي الشهير الآخر: جان كوكتو التي قال فيها أمام المحكمة أن جينيه هو أكبر كتاب العصر الحديث قاطبة.
وكان, بعدما انتهي من كتابه الشهير: يوميات لص, وصفه بأنه عبارة عن مطاردة للعدم المستحيل, وفي مواقع متفرقة منه يتحدث عن جمال الفعل الأخلاقي: والفعل يكون جميلا إذا حرض حناجرنا علي الغناء, وهذه هي وظيفة الصور للتواصل مع أبهة العالم..
رغبت في مجد مرئي يظهر علي أطراف أصابعي.. رغبت أن ترفعني قوتي عن الأرض, وتنفجر داخلي, وأن تذروني في اتجاهات الريح الأربعة, بحيث أهطل علي الأرض, وأن يلمس مسحوقي وغباري النجوم.
كان المسرحي السوري الراحل سعدالله ونوس قد أجري حوارا مطولا مع جينيه ونشر في العدد الخامس من مجلة الكرمل, شتاء1982, ثم أعيد نشره في الكتاب الفاتن الذي أعده مالك سلمان تحت عنوان شعرية التمرد والذي تضمن مجموعة كبيرة من النصوص والحوارات. وأنا أعود هنا إلي بعض ما جاء في هذا الحوار حول علاقتنا, ثقافيا مع الغرب, والثورة وشروطها, من وجهة نظره بطبيعة الحال. إلا أنني, قبل ذلك, أود أن أخبرك أنه, كما جاء بالحوار, كان زار مصر في عام1967, بعد الهزيمة بشهور قليلة, ونزل في فندق سميراميس, حيث القاهرة خالية من السياح, وانه استقل التاكسي في طريقه إلي الهرم, ثم لاحظ أن السائق يخطئ الطريق, حينئذ: فتحت له الخريطة وأشرت له علي الطريق الصحيح, فاكتشفت انه أمي لا يعرف كيف يقرا الخريطة, لحظتها فهمت احد أسباب هزيمة يونيو حزيران.
والآن, لا تتوقف طويلا أمام اعتقاده أن مجرد عدم قراءة الخرائط تعد أمية, فهو يعرف عن الأمية غير ما نعرفه نحن, المهم أنه يصف إحساسه عندما وقف أمام الهرم بأنه إحساس لا يمكن التعبير عنه إلا بالشعر, أو بعمل يحاول أن يكون علي مستوي الأهرامات ذاتها:
لا أدري, هزتني هذه العظمة التي تسترخي هادئة, مثل راقصة خيالية.
يتحدث, في نفس الحوار, كيف أن مشكلتنا تتمثل في أننا شكلنا أنفسنا وفقا للنموذج الأوروبي, بمعني أن الغرب نجح في اصطيادنا إلي فخه الماكر, وقد جاءت هزيمة67 لتعمق شعورنا بالنقص, بعدما أجهضت ثورة محتملة, وضاعفت حاجتنا لأن تعكس لنا المرآة صورة طيبة عن أنفسنا, ولكنها المفارقة, لأننا ننظر إلي مرآة لا يمكن أن تعكس إلا سيماء الضعف والنقص والشعور بالانسحاق. ذلك هو الفخ الذي نتخبط في حبائله, فالشرط لقيام أي ثورة جذرية هو أن: تكسروا هذه المرآة, علي المستوي الثقافي والنفسي, فالغرب الذي استمرأ: مذاق السيطرة علي الشعوب واستغلالها, يتسلح بتاريخ من القوة والدهاء كي يحبط أي مشروع ثوري, أنا أفهم أن الثورة تحل كل الإشكاليات التي تعانون منها. ولكن كيف تقوم الثورة وأنتم تتخبطون في لعبة مرايا شبيهة بشبكة العنكبوت ؟.
المزيد من مقالات إبراهيم اصلان
ساحة النقاش