{ فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} (385)
بقلم: د. زغلول النجار 2438
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في الثلث الأول من سورة الأنعام, وهي سورة مكية, وآياتها مائة وخمس وستون بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي الأنعام في أكثر من موضع.
ومن خصائص هذه السورة المباركة أنها أنزلت كاملة دفعة واحدة, ويدور المحور الرئيسي للسورة حول عدد من العقائد والتشريعات الإسلامية, هذا وقد سبق لنا استعراض سورة الأنعام وما جاء فيها من ركائز العقيدة والتشريعات, والقصص, والآيات الكونية, ونشير هنا إلي لمحة الإعجاز الإنبائي والتاريخي والتشريعي في الآية التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال.
من أوجه الإعجاز في الآية الكريمة
يقول ربنا ـ تبارك وتعالي في محكم كتابه, مخاطبا خاتم أنبيائه ورسله ـ صلي الله عليه وسلم:
{ ولقد أرسلنا إلي أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون* فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون* فلما نسوا ماذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتي إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون* فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين* (الأنعام 42-45).
وهذه الآيات الأربع تتحدث عن سنة الله في عباده, وسنن الله نافذة لا تتوقف, ولا تتبدل, ولا تتغير أبدا, وبأس الله شديد, لا يعوقه عائق, ولا يرده مخلوق, وغالبية البشر تمر بهم الأحداث تلو الأحداث, وهم لا يعتبرون, وقد ذكر لنا القرآن الكريم من أخبار الأمم الغابرة ما فيه العظة والعبرة, وشرح لنا كيف يتلقي الناس الهداية الربانية فلا يؤمن بها إلا أقل القليل, وتعرض الغالبية الساحقة من الخلق عنها فيمهلهم الله تعالي وينذرهم المرة تلو المرة, ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر, ويكرر التاريخ نفسه مرات والبشرية سادرة في غيها علي مستوي الأفراد, والجماعات, والأمم, دون أدني اعتبار بما حدث لأسلافهم, فلا تدفعهم الشدة إلي التوجه لله ـ تعالي بالضراعة, ولا تذكرهم النعمة بالتوجه إليه بالشكر, ولذلك فسدت فطرتهم فسادا عظيما, وقست قلوبهم قسوة شديدة, وتدهورت مجتمعاتهم تدهورا لا يجدي معه إصلاح وحينئذ ينزل بأس الله الذي لا يرد.
وفي هذه الآيات وصف دقيق لهذا النموذج المتكرر في أمم شتي جاءتهم رسلهم بالبينات فكذبوهم, وتطاولوا عليهم, وصبر عليهم رسلهم أملا في هدايتهم, فلما يئسوا من ذلك دعوا الله ـ تعالي عليهم, فجاءهم بأس الله الذي لا يرد فقضي عليهم, والناس من ورائهم لا يعتبرون.
حدث ذلك مع كل من مشركي قوم نوح الذين دمرهم الله ـ تعالي بالطوفان الذي أغرقهم, وطهر الأرض من شركهم, والذين نجوا مع نبي الله نوح وعايشوا الطوفان عاشوا علي التوحيد الخالص لله الخالق ـ سبحانه وتعالي حتي جاء من نسلهم قوم عاد فاغتالهم الشيطان وحرفهم عن دينهم حتي أشركوا بالله ـ وعبدوا الأصنام والأوثان, فبعث الله ـ تعالي إليهم نبيه هودا عليه السلام ـ يدعو إلي التوحيد من جديد فما آمن معه إلا قليل, وطال صبر سيدنا هود ـ عليه السلام علي قومه, فلما يئس من هدايتهم دعا الله ـ تعالي عليهم فعاقبهم بمنع المطر عنهم فلم يعتبروا, ثم بعث عليهم الريح العقيم التي طمرتهم في مساكنهم.
والذين نجوا مع سيدنا هود ـ عليه السلام ـ لجأوا إلي مكة المكرمة, ومنها رحلوا إلي وادي القري (الحجر), وعاشوا علي توحيد الله ـ سبحانه وتعالي (بغير شريك, ولا شبيه, ولا منازع, ولا صاحبة ولا ولد) لفترة من الزمن, ثم جاء الشيطان فأغواهم بالشرك حتي غرقوا فيه إلي آذانهم, فبعث الله ـ تعالي إليهم سيدنا صالحا ـ عليه السلام ـ يدعوهم إلي التوحيد من جديد فطلبوا منه خوارق المعجزات, فدعا الله ـ تعالي- أن يحققها لهم طمعا في هدايتهم, وبالرغم من تحقيق ما قد طلبوا فإنهم بقوا علي شركهم, وعنادهم, وتكبرهم, فدعا سيدنا صالح الله ـ تعالي عليهم فجاءتهم الصيحة, والرجفة, والصاعقة, والطاغية التي قضت عليهم في مساكنهم. لجأ سيدنا صالح والذين آمنوا معه إلي مكة المكرمة, وجاء من نسلهم ثقيف الذين عاشوا علي التوحيد ثم أشركوا.
ويتكرر هذا المشهد مع كل قوم من أقوام أنبياء الله جميعا دون أن تعي غالبية الناس الدرس, أو تفهم العبرة من وجودها في هذه الحياة, عبادا الله مطالبين بعبادته وحده بما أمر, وبحسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض بعمارتها وإقامة شرع الله وعدله فيها, ثم العودة إلي الله بالبعث والحشر والحساب والجزاء ثم الخلود إما في الجنة وإما في النار.
وكل أمة من هذه الأمم التي ذكر القرآن الكريم طرفا من أنبائها لم تتعلم من نزول بأس الله الشديد بالأمم السابقة علي وجودها, ولا من ابتلاءات الله ـ تعالي لها بالبأساء والضراء, وهو الفقر والبؤس, والأمراض والأسقام, حتي يرجعوا إلي الله, ويتضرعوا إليه, ولكنهم لكفرهم وجهلهم وفسادهم لم يفعلوا ذلك, فاستحقوا التدمير الشامل والاستئصال الكامل.
وهذه الأمم المتتالية التي لم تتعلم من ابتلاءات الله لها, ولا من الشدائد التي مرت بها, والتي زين الشيطان لها أعمالها, وأغراها بالشرك, وبالإعراض عن الحق, وبمعاندة أهله, فاستدرجها الله ـ تعالي بشيء من الرخاء, والابتلاء بالرخاء قد يكون أشد من الابتلاء بالبأس, وفي ذلك يقول رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ: إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا ـ علي معاصيه ـ مايحب, فإنما هو استدراج ثم تلا قول الحق- تبارك وتعالي: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتي إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم ملبسون* (رواه كل من ابن جرير, وابن أبي حاتم).
وإذا كان الله ـ تعالي قد رفع الاستئصال عن الأمم بعد بعثة رسول الله صلي الله عليه وسلم ـ فقد أبقي سبحانه وتعالي ألوانا أخري من العقاب للأفراد والجماعات قد تكون أشد وأنكي من الاستئصال الكامل للأقوام.
وبأس الله كما ينال الأمم التي تفسد فطرتها, فإنه ينال الأفراد والأسر والجماعات التي تقع في مثل هذا الفساد والضلال, وكما يمنح الله الأمم الإنذار تلو الإنذار من أجل التوبة, والرجوع إليه, فإنه يعطي كلا من هؤلاء فرصا كثيرة, وينذرهم مرات عديدة ويبتليهم بالشر والخير علي حد سواء, فإذا لم توجههم النعمة إلي شكر الله وإلي الحذر من ابتلائه, ولم تدفعهم الشدة إلي التضرع لله, والرجوع عن معاصيه جاءهم بأس الله الذي لا يرد, وعقابه الذي لا نجاة منه.
ساحة النقاش