د. نبيل على المفكر وخبير المعلوماتية يكتب: مدينة «زويل» وتحديات الواقع المصرى ٢٣/ ٦/ ٢٠١١ |
من حق الدكتور زويل علينا وهو يطلق مشروع مدينته أن نبادر بطرح توقعاتنا ووجهات نظرنا عن التحديات النابعة من الواقع المصرى التى يمكن أن يواجهها مشروعه القومى الطموح ومن أبرزها فى رأيى مجموعة من التحديات أدرجتها تحت العناوين الرئيسية التالية: ١- عدم البداية من الصفر. ٢- ترسيخ اللامركزية فى تنظيمات المدينة وأنشطتها. ٣- أزمة الجامعات المصرية. ٤- تجنب الطبقية التعليمية والأكاديمية. ٥- ضرورة تلازم الإبداع العلمى مع الإبداع الاجتماعى. ٦- التصدى للتحدى العلمى التكنولوجى الإسرائيلى. ٧- التأسيس لعلم جسور ومختلف. نتناول فيما يلى بإيجاز كلا من هذه التحديات باستثناء التحديين الأخيرين فقد رأيت أن أخصهما بحديث مفصل فى مقال قادم. أولاً: عدم البداية من الصفر عالمنا زويل هو- بلا شك- أشدنا حرصا على تحقيق نتائج ملموسة فى أقصر وقت ممكن، وهو يدرك يقينا كم عانت مصر من بناة القلاع رافعى شعار البداية من الصفر، وكلنا ثقة أن صاحب الفيمتوثانية لن يطيق صبراً انتظاراً لاستكمال مبانى المدينة وتجهيز معاملها وتوفير كوادرها بل سيشرع على الفور فى دفع حركة الإنتاج العلمى من خلال البناء على ما هو قائم بالفعل، فمصر زاخرة بمؤسسات الإنتاج العلمى والتكنولوجى، وعلى رأسها المركز القومى للبحوث الذى أنشئ منذ قرابة نصف قرن ويعمل به ما يزيد على ٣٠٠٠ عالم ومهندس، وهناك العديد من مراكز البحوث المتخصصة التابعة للجامعات والوزارات، وتكفى الإشارة هنا إلى أن وزارة الزراعة وحدها تضم ١٦ معهداً بحثياً و١٣ معملاً مركزياً و٤٦ محطة بحوث ولا يمكن هنا أن نغفل ما أطلقوا عليه مدينة مبارك للبحوث التى جعلت من نفسها جزيرة منعزلة، ثقبا أسود لا يدرى عنه غالبية المصريين شيئاً. نعم، تدهورت هذه المؤسسات كثيراً، بيد أنها تنتظر من يزيل عنها طبقات الصدأ كى تستعيد بريقها، ويا ليت د. زويل يسهم فى ذلك من أجل استرداد الثقة التى فقدها الكثيرون لدينا فى أهمية العلم وجدوى البحوث العلمية، وبهذا يضمن وقوف جميع فئات المجتمع المصرى وراء مشروعه الوليد. أما مصادر المعلومات الخاصة بالتنمية العلمية التى سوف تحتاجها بلورة استراتيجيات المدينة والتخطيط لها فحدث ولا حرج، فى مقدمتها الدراسات التى قامت بها المجالس القومية المتخصصة والمجالس النوعية لأكاديمية البحث العلمى، إضافة إلى عدد كبير من دراسات الجدوى لمشاريع التنمية التى دعمتها وكالات المعونة الدولية. ثانياً: ترسيخ اللامركزية فى تنظيمات المدينة وأنشطتها كما هو متوقع سيكون لمدينة زويل ثقل هائل سوف يرج جميع أرجاء مجالنا العلمى والتعليمى وما نخشاه أن يضفى ذلك على المدينة طابعاً مركزياً يؤدى إلى تهميش ما عداها، لذا فمن الضرورى زرع نواة اللامركزية فى صلب تنظيماتها ومشروعاتها، وليس هذا من قبيل الوجاهة التنظيمية بل مطلب أساسى تفرضه طبيعة الإنتاج العلمى فى عصرنا الراهن، فالمؤسسات الضخمة لإنتاج العلم صنيعة عصر الصناعة تتوارى حالياً فى عصر المعلومات واقتصاد المعرفة لتحل محلها كيانات الإنتاج الصغيرة لكونها تتسم بسرعة الحركة والقدرة على اقتناص الفرص، على عكس المؤسسات الضخمة التى عادة ما تئن تحت ثقل تنظيماتها المتشعبة، فعلى سبيل المثال نجحت مجموعة «ساليرا» الصغيرة أن تلحق بل وتسبق مشروع فك الشفرة الوارثية للكائن البشرى، «مشروع الجينوم» الذى شاركت فيه عدة حكومات ويعمل فيه قرابة ٣٠٠٠ عالم ومهندس وقدر لإنجازه عشر سنوات، وخصصت له ميزانية قدرت بثلاثة مليارات دولار. وكما هو معروف فإن معظم الإنجازات الرائدة فى مجال صناعة البرمجيات وتكنولوجيا المعلومات مثل تلك التى حققتها ميكروسوفت وجوجل وأبل وفيس بوك تمت على يد حفنة صغيرة من شباب العلماء والمطورين. إن التحول فى إنتاج العلم من الكيانات الضخمة إلى الكيانات الصغيرة هو- كما يرى البعض- تحول نحو «العلم الديمقراطى»، ومدينة زويل كما أعلن رائدها هى مدينة ٨٥ مليون مصرى ومن ثم لابد أن تسعى إلى دمقرطة إنتاج العلم وإتاحة الفرص أمام كل القادرين والواعدين. ثالثاً: أزمة الجامعات المصرية الجامعات- بلا منازع- هى رائدة إنتاج المعرفة، ولا أمل فى إقامة مجتمع المعرفة المصرى فى ظل جامعات ضامرة، مهما أقمنا من عناصر البنى التحتية لدعم جهود البحوث والتطوير، وتعانى جامعاتنا من أزمة حادة تعددت أسبابها، بيد أن الخروج منها ليس بالأمر المستحيل، وأخطر مظاهر هذه الأزمة فيما يتعلق بحديثنا الراهن هو تفشى الفساد الأكاديمى المتمثل فى تخلف أساليب التعليم والتأهيل وغياب روح البحث وعدم الأصالة الفكرية والأمانة العلمية التى راجت بعد انتشار الإنترنت، وبالرغم من كل هذا ما زالت جامعاتنا تحتفظ بعدد هائل من أعضاء هيئة التدريس النابغين المخلصين القادرين على انتشال جامعاتنا من كبوتها، وأملنا أن تسهم مدينة زويل فى التصدى لهذا الفساد الأكاديمى والذى لا يكفى فيه رعاية جامعة نموذجية كجامعة النيل. ولن نضيف جديداً بقولنا إن نجاح الجامعات فى تأدية رسالتها رهن بارتباطها بعلاقات وثيقة مع قطاعات الإنتاج والخدمات، وفى هذا الصدد تختلف جامعاتنا عن نظيراتها فى أمريكا وأوروبا ودول العالم المتقدم الأخرى، فقطاعات الإنتاج والخدمات فى هذه الدول تقوم من تلقاء نفسها بتكليف الجامعات بإجراء بحوث لحل ما نواجهه من مشكلات، ووصل الأمر إلى حد أن باتت المؤسسات الاقتصادية الكبيرة هى صاحبة اليد العليا فى تحديد أجندة البحوث فى كثير من الجامعات الأجنبية، والوضع لدينا جد مختلف، فما أندر أن تتلقى جامعاتنا طلبا بإجراء البحوث لصالح قطاعات الإنتاج والخدمات، وذلك بسبب التبعية التكنولوجية المتسرخة، فمعظم مشروعات التنمية لدينا يتولاها مقاول أجنبى بأسلوب تسليم المفتاح على الجاهز. فى ذات الوقت فإن معظم أهل الصناعة لدينا لا يدركون الفرص العديدة المتاحة لهم فى ظل الاقتصاد الجديد، اقتصاد المعرفة، وهو الدور المنوط بالجامعات أن تتولاه- فعلا لا قولا- لإرشاد قطاعات الإنتاج والخدمات إلى كيفية استغلال هذه الفرص، ذلك من خلال نشر أكبر عدد من الحضانات incubators لتفريخ الباحثين الجدد وتأهيل الخريجين على ريادة الأعمال. لمؤازرة هذا التوجه أتوقع أن ترتبط مدينة زويل ارتباطا وثيقا بشبكة الجامعات المصرية بصورة تضمن التواصل الفعال عن قرب وعن بعد، وبهذا تتلاحم مراكز التميز centers of excellene التى سترعاها المدينة مع الحضانات التى ترعاها الجامعات. رابعاً: تجنب الطبقية التعليمية والأكاديمية على الرغم من أن إنتاج العلم يرفض أشكال الطبقية التزاما بمبدأ تكافؤ الفرص، فإن الفساد الأكاديمى قد استشرى داخل جامعاتنا حتى أفرز نوعا بغيضاً من الطبقية متمثلة فى الكليات النظرية فى تلك الثنائية للتعليم بالعربية وباللغات الأجنبية، أما الكليات العملية مثل كليات الهندسة فقد ارتضى بعضها أن يشطر كيانها الأكاديمى إلى قسمين على أساس طبقى محض، مفاده «من يدفع أكثر يتلقى خدمة تعليمية أفضل»، وهكذا خصصت قاعات الدرس المكيفة والمعامل المجهزة لأبناء القادرين، ولهم حق اختيار التخصصات التى تؤهلهم للاستئثار بفرص سوق العمل، أما باقى الطلبة فلهم القاعات المكتظة والمعامل الفقيرة. هناك من يخشى أن تؤدى المدينة إلى تفاقم حدة هذه الطبقية البغيضة نتيجة الفارق فى الرواتب والمزايا وفرص المشاركة فى اللقاءات والنشر العلمى، وهو وضع إن حدث سوف يؤدى إلى تجريف الجامعات بنزوح كثير من أعضاء هيئة التدريس إلى المدينة بما يمكن اعتباره نزيفا داخليا للعقول وهو أخطر فى رأيى من نزيف العقول الخارجى لهجرة ذوى المهارات العليا إلى الخارج. ولتجنب ذلك يجب أن يتطرق مشروع المدينة لمثل هذه الأمور بضمان حد أدنى لرواتب أعضاء هيئة التدريس، يتساوى فيها الجميع بحيث يوفر لهم سبل الحياة اللائقة أما ما يتلقاه العضو زيادة على هذا الحد الأدنى فيجب ألا يرتبط بالمؤسسة التابع لها بل بمعايير موضوعية يمكن قياسها، وليس هناك ما هو أعدل من حجم النشر العلمى الرصين فى الدوريات العلمية المحكمة خارج مصر. خامساً: ضرورة تلازم الإبداع العلمى مع الإبداع الاجتماعى كم كان عالمنا موفقاً فى سياق محاضرته بالجامعة الأمريكية بأن جعل من انتصارنا فى حرب ٧٣ شاهداً على قدرة المصريين على التحدى، وكيف أسهم إبداعهم فى تحطيم أسطورة التفوق الإسرائيلى، والحديث هنا عن الإبداع الاجتماعى القادر على الإنجاز فى ظل الظروف المحلية وقيود الموارد البشرية والمادية، وفى بيئة غير مواتية لتنمية القدرات وتشجيع الابتكار، وبهذا التعريف فإن ما أنجزه فى الواقع المصرى علماء مصريون من أمثال: «د. مجدى يعقوب، ود.محمد غنيم، ود.أحمد مستجير» يعد مثالاً نموذجياً لضرورة تلازم الإبداع العلمى مع الإبداع الاجتماعى. إن تبنى مدينة زويل هذا الإبداع المزدوج هو أبلغ رد على تلك القلة القليلة التى تشكك فى قدرة عالمنا الفذ على الإنجاز فى ظل قيود الواقع المصرى، وتعزى نجاحه الباهر إلى عمله فى بيئة علمية دافعة. |
ساحة النقاش