الإنترنت لم تعد فضاء سياسيا افتراضيا
كتب:محمد فايز فرحات


أثارت التطورات السريعة التي شهدتها شبكة الإنترنت خلال السنوات الأخيرة‏,‏ سواء فيما يتعلق بتطور المستوي التقني أو التوسع الضخم في عدد المواقع الإلكترونية وتوزعها علي مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية‏,‏ وظهور المواقع المتخصصة والمنتديات الحوارية‏.

 

, فضلا عن اتساع قاعدة مستخدمي الإنترنت في الدول العربية أثارت عددا مهما من الإشكاليات النظرية حول مدي مساهمة شبكة الإنترنت في دفع عملية الإصلاح والتحول الديمقراطي في الدول العربية.
وقد ساد حتي وقت قريب اتجاه رأي أن اتساع نطاق ظاهرة الإنترنت في الدول العربية لن يكون له تأثير سياسي ملحوظ, سواء فيما يتعلق بتشجيع عملية التحول الديمقراطي, أو فيما يتعلق باحتمالات تصاعد العمل السياسي العنيف ضد النظم السياسية الحاكمة. استند هذا الافتراض إلي عدد من المبررات. كان أولها افتقاد شبكة الإنترنت ذاتها الديمقراطية وما تعكسه من تكريس لما يمكن تسميته ظاهرة الانقسام الرقمي بين فئات المجتمع, بمعني الانقسام بين أقلية تمتلك القدرة علي النفاذ إلي الإنترنت, وأغلبية أخري ما زالت تفتقد هذه القدرة, بما يزيد من احتمالات تعميق الأزمات الاجتماعية داخل المجتمع, خاصة أن النفاذ إلي الشبكة لا يعتمد فقط علي الشروط المادية( أجهزة الكمبيوتر, والتليفون أو خط الإنترنت المباشر) ولكنه يعتمد أيضا علي الظروف الاجتماعية, خاصة في ضوء ما انتهت إليه بعض الدراسات من أن نسبة مهمة ممن تتوافر لديهم القدرة علي النفاذ إلي الإنترنت لا يستخدمونها لأسباب اجتماعية وسيكولوجية تتعلق بمدي قدرتهم علي التفاعل معها.
ومن ناحية أخري, كانت هناك شكوك قوية حول مساحة الحرية الحقيقية المتاحة علي الإنترنت, فرغم صعوبة السيطرة الحكومية علي المواقع الإلكترونية بالمقارنة بالكثير من الوسائل الإعلامية الأخري, فإن هذا لم ينف تزايد قدرة واتجاه الحكومات إلي فرض مزيد من الضبط والسيطرة علي المواقع الإليكترونية, سواء من خلال وضع القوانين والتشريعات المنظمة لعمل هذه المواقع, أو من خلال التوسع في استخدام آليات الفلترة والحجب والتدمير للمواقع الإلكترونية ذات المحتوي الذي لا يتوافق مع مصالح النخبة الحاكمة. وقد ازدادت قدرة الحكومات علي السيطرة الإليكترونية في ضوء التطور المتسارع في تكنولوجيات الضبط والسيطرة والفلترة والمراقبة, وتطور جدل مهم حول الحاجة إلي تنظيم وضبط الشبكة من خلال تطوير تشريعات قانونية محددة, جنبا إلي جنب مع الاستفادة من تكنولوجيات المراقبة. ورغم وجود اتجاه يدعو إلي رفض فكرة المراقبة والتنظيم تلك, فإن الاتجاه المؤيد لها لقي رواجا ملحوظا عقب أحداث سبتمبر2001 وامتداد الحرب ضد الإرهاب إلي ساحة شبكة الإنترنت ذاتها وتطور مفاهيم مثل الجهاد الإليكتروني والإرهاب الإليكتروني..الخ. ورغم أن معظم الحكومات العربية لم تنتقل بعد إلي وضع تشريعات مقيدة أو ضابطة لعمل المواقع الإليكترونية, فإنها راكمت خبرة مهمة في مجال المراقبة السياسية للمواقع الإليكترونية.
ولا يقتصر الاتجاه إلي الاستخدام المكثف لتكنولوجيات المراقبة والفلترة( الترشيح) علي الحكومات فقط, فقد ذهب هذا الاتجاه إلي أن عملية الفلترة تلك ستحدث أيضا علي مستوي الأفراد أنفسهم في ضوء كثافة المعلومات ذات المحتوي السياسي والتوجهات المتناقضة, الأمر الذي يضطر الفرد ذاته إلي استخدام التكنولوجيات والبرامج المتاحة لفرز تلك المعلومات واستبعاد المعلومات والآراء التي لا تتوافق وميوله وتوجهاته السياسية والثقافية, واستقبال المعلومات التي تتوافق فقط وتلك التوجهات وتدعمها. ويترتب علي عملية الضبط والفرز الذاتي تلك ظاهرتان مهمتان تتصلان بالتحول الديمقراطي والعمل السياسي الإنترنتي, الأولي هي تزايد فرص عزلة مستخدم الإنترنت عن التيارات والاتجاهات السياسية الأخري وعدم التعرض للأفكار الجديدة. والثانية هي دعم فرص حدوث حالات الاستقطاب السياسي بين الجماعات السياسية داخل المجتمع وتراجع فرص تطور حالة من التوافق العام حول مختلف القيم الأساسية بما في ذلك قيمة الديمقراطية ذاتها.
أيضا أثارت الكثير من الدراسات الشكوك حول افتراض دعم الإنترنت لفرص مشاركة المواطن في عملية صناعة القرار السياسي ونشر فرص التأثير داخل المجتمع, استنادا إلي أن النظم الديمقراطية ذاتها لا تضمن للمواطن الفرد القدرة علي التأثير في الأحداث السياسية وعملية صنع القرار من خلال الوسائل الإعلامية التقليدية. ومن ثم, لم يكن من المتوقع- وفق هذا الاتجاه- أن يترتب علي اتساع نطاق الإنترنت تغيير جوهري في هذا الواقع, بل علي العكس فإن هذا الانتشار وما يترتب عليه من تقليل الحواجز أمام عملية نشر المعلومات والآراء الفردية سيؤدي إلي المزيد من إضعاف قدرة الرأي الفردي علي التأثير في عملية صناعة القرار بسبب حالة التزاحم الشديدة بين الآراء الفردية. ومن ثم فقد تدعم الإنترنت حالة التفكيك داخل المجتمع بدلا من بناء التوافق العام.
ورغم جاذبية الحجج والفرضيات التي طرحها أصحاب الاتجاه السابق, فقد جاءت موجة الثورات العربية التي اعتمدت علي الإنترنت بشكل عام, وعلي المواقع التفاعلية( الفيس بوك وغيرها) بشكل خاص, لتضع دقة ومصداقية هذه الفرضيات أمام تحد كبير. وبشكل عام, فقد تجاهل هذا الاتجاه النظر إلي الإنترنت باعتبارها عمليةprocess جديدة ذات سمات خاصة لابد أن تترك آثارها علي مختلف الظواهر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية داخل المجتمع, وأن هذه زس زس تعظم القدرات السياسية للفاعلين في مواجهة النظام السياسي في سياق عملية الصراع السياسي بين الطرفين.
ويمكن في هذا الإطار طرح عدد من التفسيرات التي حولت الإنترنت ليس فقط إلي ساحة للعمل السياسي ولكن أيضا إلي أداة فاعلة في إدارة هذا الصراع. يتعلق أولها بالميزات النسبية التي توفرها شبكة الإنترنت فيما يتعلق بتخفيض تكلفة المعاملات والاتصالات وتكلفة الحصول علي المعلومات وتبادلها, وفرص إجراء تلك الاتصالات علي نطاق واسع, سواء من جانب الجمهور أو من جانب الفاعلين السياسيين في ظل تواضع تكلفة إنشاء وتسجيل المواقع الإليكترونية والبحث الإليكتروني عن المعلومات, وتواضع تكلفة إرسال رسائل البريد الإليكتروني وغيرها من المعاملات الإليكترونية. أضف إلي ذلك ما وفرته الإنترنت من فرص مهمة لممارسة حريات التعبير والعمل السياسي للقوي السياسية المحجوبة عن الشرعية أو القوي السياسية التي قد تطرح رؤي سياسية وإصلاحية تتجاوز السقف المتاح من جانب النظام السياسي. وقد استطاعت الكثير من القوي السياسية في الدول العربية بالفعل استخدام الإنترنت كساحة بديلة للعمل السياسي من خلال تشكيل المنتديات والجماعات السياسية الافتراضية, والتغلب علي القيود السياسية والقانونية المفروضة علي حريات التنظيم السياسي, وتجاوز القيود المادية التي واجهت عمليات الاتصال والتنسيق.
ويشار في هذا الإطار أيضا إلي ثلاث سمات أساسية للإنترنت, هي: الطبيعة التفاعلية, وغياب السلطة المركزية المنظمة للإنترنت ومن ثم صعوبة السيطرة والرقابة علي محتوي المواقع الإليكترونية بالمقارنة بوسائل الاتصال التقليدية, وأخيرا اتساع نطاق القاعدة الاجتماعية المستخدمة للإنترنت وعدم التزامها بالحدود الجغرافية والسياسية. وقد أدت هذه السمات إلي تحول مستخدم الإنترنت من مجرد متلق أو مستهلك مجهول للرسالة الإعلامية إلي مشارك فاعل في تشكيل تلك الرسالة, وتحول طبيعة الاتصال من مجرد اتصال نخبوي- نخبوي أو اتصال نخبوي- جماهيري أو حوار أقلية أغلبية إلي اتصال جماهيري- جماهيري, وتحول الحوار الإليكتروني إلي حوار ندي لا يعكس تفاوت القدرات السياسية والاقتصادية بين المتحاورين بقدر ما يعكس مدي توافق/ تناقض الرؤي والآراء المطروحة بشأن القضية موضوع الحوار. وعلي العكس مما ذهب إليه الاتجاه السابق من ارتباط الإنترنت بظاهرة التفكيك والاستقطاب السياسي وغياب التوافق العام, فقد أدي انتشار النفاذ إلي الإنترنت داخل المجتمع وسيطرة نمط التفكير الشبكي إلي إضعاف التوزيع الهيراركي للسلطة والتحول من الدولة الهيراركية إلي المجتمع الشبكي.
وقد ساهم في تعظيم التأثيرات السياسية الإيجابية السابقة للإنترنت عوامل عدة, فبالإضافة إلي اتساع نطاق النفاذ للإنترنت وحجم الشرائح الاجتماعية المستخدمة له, فقد تركز هذا التوسع داخل قطاع الشباب بالأساس. ومن ناحية, ثالثة فقد استندت الافتراضات المتشائمة حول العلاقة بين الإنترنت والعمل السياسي في العالم العربي إلي انتشار أنماط محددة من استخدامات الشبكة تدور حول اختزالها في مواقع الترفيه والتسلية( الألعاب, الأغاني, الأفلام, ممارسة القمار, المواد الإباحية..الخ) مقابل تراجع أهمية الإنترنت كمصدر للمعرفة وجمع المعلومات وتبادل الآراء والجدل بشأن قضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي..الخ. ورغم انتشار أنماط الاستخدام الترفيهي للإنترنت بالفعل في العالم العربي بالمقارنة بالدول الديمقراطية المتقدمة, فإن هذا ربما انسحب علي المراحل الأولي لانتشار الإنترنت, وقد حدث علي ما يبدو تحول واضح في أنماط استخدام الشبكة في العالم العربي خلال السنوات الأخيرة, في اتجاه ارتفاع معدلات استخدامها كوسيلة وكساحة للعمل السياسي, الأمر الذي يطعن في مقولة إن الانترنت تمثل عالما سياسيا افتراضيا.

 

azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 17/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
6 تصويتات / 134 مشاهدة
نشرت فى 28 إبريل 2011 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,624,780