المواطنة‏..‏ إرادة أمة
بقلم: د. أحمد يوسف القرعى


يتردد شعار الوحدة الوطنية كثيرا منذ بدء ثورة‏25يناير‏,‏ وكأن مصر دولة حديثة الاستقلال‏,‏ بينما تؤكد وقائع التاريخ والجغرافيا أن المواطنة بالتاريخ الحضاري القديم‏,‏ نحن المصريين صانعوها‏,‏ باعتبار مصر أول دولة موحدة منذ التاريخ القديم للبشرية‏.‏

 

ومن هنا وعبر عصور التاريخ القديم والوسيط والحديث صارت المواطنة عقدا اجتماعيا لأجل غير مسمي ووثيقة تعاقدية توافقية لايمكن التحلل من التزاماتها أيا كانت الأسباب والمبررات‏,‏ لسبب بسيط أنها إرادة الأمة‏,‏ وهي جماع إرادات المواطنين‏,‏ ومن ثم يجب أن نعض عليها بالنواجذ‏,‏ ونسعي للمشاركة في إرساء أساسها وتشييد أركانها بالتوافق لا بالعراك‏,‏ بالتفاهم لا بالخصام‏.‏
وعندما يمارس هذا الجيل اجتهاده ويقدح سراج فكره للتعريف بالمواطنة فإنه لن يأتي بجديد أبلغ من تعريف جيل الأجداد والآباء المؤسسين لنهضة مصر الحديثة منذ أوائل القرن التاسع عشر‏,‏ ويكفي الاشارة هنا إلي التعريف الشامل الجامع الذي قدمه رائد الاستنارة المصرية رفاعة رافع الطهطاوي في كتابه المعروف‏(‏ مناهج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية‏)‏ والذي أصدره في أخريات حياته‏,‏ ويقول فيه عن الوطنية‏:,‏ أسعد الناس الذي يميل بطبعه إلي إبعاد الشر عن وطنه‏,‏ ولو بإضرار نفسه‏,‏ فصفة الوطنية لاتستدعي فقط أن يطلب الانسان حقوقه الواجبة علي الوطن‏,‏ بل يجب عليه أيضا أن يؤدي الحقوق التي للوطن عليه‏,‏ فالتقدم لايتم بدون انجذاب قلوب الأهالي صوب مركز التمدن والتنظيم‏,‏ وتوجيه نفوسهم بالطوع والاختيار إلي الوفاء بحقوق هذا الوطن العظيم‏]‏
هكذا في كلمات بسيطة وعميقة الدلالة يقدم رفاعة رافع الطهطاوي تعريفا كاملا متكاملا للوطنية أو المواطنة في إطار رؤية شاملة ومتكاملة لبناء النهضة‏,‏ حيث استعرض في كتابه معالم الفكر الأوروبي العصري في الفلسفة والاجتماع والسياسة والقانون والتعليم وغيرها‏.‏ وكان الطهطاوي من أوائل الدعاة حديثا إلي تعليم المرأة للمساعدة في النهوض بالمجتمع‏,‏ كما أسس مدرسة الألسن لتعليم المصريين اللغات الأجنبية والانفتاح علي الفكر الأوروبي واقتباس ما يتوافق منه مع ظروفنا وديننا لأجل تطوير المجتمع‏.‏
ولايعني تقريظ المفهوم الطهطاوي للوطنية أو المواطنة التقليل من الاجتهادات التي ـ تكاثرت بعد ذلك مع بداية القرن العشرين‏,‏ حيث انبري جيل الأجداد والآباء إلي حسم هذه المسألة الوطنية دون تكليف من أولي الأمر‏,‏ بل تطوعا في أدبيات الفكر السياسي المصري‏,‏ أو في المناهج الدراسية‏.‏ وهنا أشير إلي تجربة جيل أواخر العشرينيات مع السنوات الأولي لاستقلال مصر لمجرد تأكيد أن المسألة مسألة مبدأ‏,‏ وفي الوقت نفسه عمل تطوعي كان ديدان كل مفكر أو تربوي أو مثقف مصري‏,‏ وخير ما يعبر عن فكر جيل السنوات الأولي لاستقلال مصر‏(‏ أواخر العشرينيات‏)‏ كتاب التربية الوطنية المقرر علي المدارس الثانوية منذ العام الدراسي‏1927/1926(198‏ صفحة‏)‏ وكان وزير المعارف العمومية علي ماهر باشا قد كلف الأستاذ أحمد أمين بك وكيل مدرسة الحقوق الملكية في مارس‏1925 بوضع الكتاب مع مشاركة عبدالفتاح بك السيد وديت أفندي ابراهيم الاستاذين بمدرسة الحقوق الملكية والشيخ عبدالعزيز البشري القاضي بمحكمة مصر الشرعية‏,‏ وانتهي هذا الفريق من إعداد الكتاب في أكتوبر‏1925 ليصبح أول كتاب في التربية الوطنية‏.‏
وجاء الباب الأول تحت عنوان‏,‏ الأمة والوطن والوطنية‏)‏ وجاءت في معرض شرح هذا الباب فقرة يتوقف عندها كل قارئ معاصر لهذا الكتاب‏,‏ وجاء بها‏(‏ وإن إثما دون كل إثم أن ينصرف أبناء الوطن عن النهوض بحقوقه قانعين من الوطنية بالنفحات بما سلف من أخباره والتباهي بما درس من آثاره‏,‏ فما كانت الوطنية إلا تلك العاطفة التي تزكي في نفوسنا حب الوطن وترصد أبلغ جهودنا وأنبل مساعينا لخيره‏,‏ والعمل لمجده‏,‏ وإذا كان للوطنية الصادقة مظاهر عدة فإن اجلاها وأوضحها الشعور بالواجب الوطني‏,‏ فهو مادة القومية الحق‏,‏ وهو دليل الوجود السياسي في هذا الوجود‏).‏
ولعل الكلمات الأخيرة من الفقرة السابقة تعكس بوضوح أن الوطنية أو المواطنة إرادة سياسية في المقام الأول كما سجلت أدبيات الفكر السياسي المصري آنذاك أواخر عشرينيات القرن العشرين بما يعني أنها‏(‏ أي الإرادة السياسية‏)‏ كامنة في قلب ووجدان كل مواطن وتسري في عروقه ذهابا وإيابا‏,‏ وتبعث في قلبه روح الانتماء للأرض وتحثه علي المشاركة المجتمعية وأداء الواجب الوطني في أي موقع يختاره أو أي موقع يكلف به‏.‏
‏{{{‏
يعني هذا بلغة العصر الذي نعيشه أن المواطنة المصرية ليست مجرد رقم قومي أو بطاقة أو هوية شخصية وانها‏(‏ أي المواطنة‏)‏ ليست مجرد صفة لفرد أو نفر من مجموع سكان جمهورية مصر العربية دون الآخرين‏,‏ فالمواطنة تتسم بالعمومية‏,‏ لكن البعض في الكلمات التي تناولت هذا الموضوع يحاول ممارسة التهييج السياسي دون مبرر ومنهم من حاول تلوين مفهوم المواطنة سياسيا أو دينيا أو اجتماعيا أو طبقيا‏..‏ إلخ‏,‏ بينما المواطنة ترتبط بشخصية مصر الأزلية‏,‏ ولم تكن عبقرية المكان إلا انعكاسا لعبقرية المواطن المصري‏,‏ وارجعوا في هذا إلي كتابات عالمنا الفذ الراحل د‏.‏ جمال حمدان في رباعية‏(‏ شخصية مصر‏).‏

 

المزيد من مقالات د. أحمد يوسف القرعى
azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 104 مشاهدة
نشرت فى 24 مارس 2011 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,688,239