بقلم: د.عبد المنعم سعيد
المصريون مغرمون بالزمن والتاريخ; وعندما كانت تسمية الثورة بتاريخها الخامس والعشرين من يناير فإنها كانت تتبع تقاليد مصرية عريقة تعود إلي ثورة1919, وثورة23 يوليو1952
وحتي ثورة التصحيح في15 ما يو.1971 مثل ذلك مختلف كثيرا عن تسمية الثورة بوطنها فتكون الثورة الأمريكية أو الفرنسية, أو بمن قاموا بها مثل الثورة البلشفية أو الماوية أو الخومينية, وفي السنوات الأخيرة عرفنا الثورة البرتقالية الأوكرانية, والأرز اللبنانية, والورود الجورجية, وحتي الياسمين التونسية.
الزمن والتاريخ إذن مهم لدي المصريين, ولكنه محدد بما كان, وما هو كائن, ولكنه نادرا ما يبحث فيما هو قادم. وعندما تابعت المناقشات الدائرة قبل التصويت علي التعديلات الدستورية كان هناك كل شيء إلا الحديث عن المستقبل. ورغم أن كلا الطرفين كان يعرف يقينا أن الهدف من نعم أو لا هو الوصول إلي دستور جديد كلية لمصر فإن أحدا لم يذهب إلي ما بعد هذه النقطة وهي أي دستور نريد؟ بالطبع كان هناك من هم مغرمون بالتبسيط الشديد, فالمسألة سهلة ولا تحتاج أحيانا سوي أن ننفض الغبار عن دستور1954 ونضعه علي طاولة الوطن; أما البعض الآخر, خاصة من الخبراء الدستوريين, فإن المسألة من الوضوح بحيث لا تحتاج إلي اجتهاد جديد.
بالطبع فإن المسألة ليست بمثل هذه السهولة, ولو بذلت القوي السياسية المختلفة ربع وقتها الذي قضته في الخلاف حول التعديلات الدستورية لوجدت أن أصل المسألة, ونقطة البداية فيها, هو أنه بعد الثورة فإن السؤال هو أي مصر نريد؟ وبالمصادفة البحتة وجدت في ملفاتي مقالا نشرته في صحيفة نهضة مصر الغراء يوم الأحد9 يناير2005 بعنوان التفكير في المسألة الدستورية! سوف أنشره بنصه الكامل فربما كان فيه نفع أو فائدة فقد نشر قبل الإعلان عن التعديلات الدستورية في26 فبراير2005, وبالتأكيد فإنه نشر قبل قيام ثورة25 يناير وقبل أن تظهر ائتلافات الثورة الكثيرة وطلائعها الشبابية الشجاعة الوثابة.
لكل زمان أحواله, وتتأخر المجتمعات عندما تبقي نظما تخص أوقاتا سبقت في أوقات لحقت, وكان السلف الصالح قد قال بضرورة إعداد الأبناء لأزمنة أخري لأنهم خلقوا لزمان غير زمان الآباء. ومهما قيل عن أمور كثيرة تحتاج مصر بمثقفيها وعلمائها وأحزابها ونخبتها أن تبحثها من أول قضية الفقر حتي قضية المواصلات العامة, فإن المسألة الدستورية يجب أن تقع علي رأس الأولويات القومية. فالدستور هو المنظم الأساسي لحركة المجتمع, وهو أول القوانين, والمحدد الأساسي للمبادئ العامة للمجتمع, وبدونه فإن الدولة كلها تقف في خواء بلا مرجعية ولا جوهر.
وبالتأكيد فإن هناك الكثيرين ممن أجلهم يفهمون المسألة الدستورية أفضل كثيرا مما أفهمها, وبوسع أساتذة من نوعية الأستاذ الدكتور كمال أبو المجد, والأستاذ الدكتور يحيي الجمل, وغيرهم من أساتذة القانون الدستوري الأجلاء أن يشرحوا القضية ويشرحوها بجلاء ووضوح. ولكن ما يهمنا في هذا المقام ليس الدستور وصياغته ومدارسه في الشروح والفقه, وإنما الذي يهمنا هو صناعة الدستور ذاتها, واقتناع الجمع السياسي في مصر أن ما ارتضيناه من دستور في عام1971 لم يعد مناسبا لزمننا فضلا عن مناسبته للأزمنة القادمة. وخلال العقدين الماضيين واجهت عشرات الدول ذات المأزق بالنسبة لدساتيرها وكان ضروريا بالنسبة لها أن تقوم بالتغيير لكي يتناسب مع حجم التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي تجري في الدولة, ومع حجم التغيرات التي تجري في العالم ونظرته لطبيعة النظام السياسي للدولة كجزء من عملية تقييمها في إطار العولمة. وفي دولة مثل شيلي التي انتقلت خلال عقدين فقط من التخلف إلي التقدم, ومن الديكتاتورية إلي الديمقراطية, فإنها أجرت ستة عشر تعديلا دستوريا لكي تناسب مقتضي الحال من التطور والتغيير.
وبالطبع فإننا لا نريد تقليد دولة شيلي, بل من الضروري أن يكون الدستور عاملا ومصدرا للاستقرار في مصر وليس مدعاة ومصدرا للفوضي فيها; ولذلك فقد أصبح مهما للغاية وضع الموضوع علي دائرة البحث الدقيق. وحتي هذه اللحظة فإن بندا واحدا من الدستور هو الذي حظي بالاهتمام ـ وربما الاتفاق ـ العام وهو البند الخاص بانتخاب رئيس الجمهورية لكي يكون محدد الفترة الرئاسية, ومنتخبا من بين أكثر من مرشح يمثلون القوي السياسية المختلفة في انتخابات حرة تماما وخالية تماما أيضا من المظان والشبهات. ولكن المشكلة أن ذلك ليس كل المسألة الدستورية, فما نحتاجه حقا هو وجود تصور للمجتمع الذي سيقوم الدستور بتنظيم قواعد عمله وحكمه, وعلي سبيل المثال فإن دستور عام1971 قام علي تصور أن مستقبل مصر هو إقامة الدولة الاشتراكية ولذا كان القطاع العام قائدا, والتخطيط البيروقراطي هو الأداة, ومنظمات المجتمع المدني والبرلمان ومجلس الشوري وحتي الصحافة التي أصبحت سلطة رابعة تمثل الوعاء الملتزم بالتوصل إلي الهدف المقصود.
وعلي سبيل المثال فإن كثيرا من المنادين بتعديل وتغيير الدستور في مصر الآن لا يقدمون صورة اشتراكية للدولة, وإنما يقدمون صورة الدولة المحاربة التي عليها إنقاذ مصر ودورها في المنطقة, والتصدي للهجمات الإمبريالية متنوعة المصادر, وبالتأكيد فإن المهمة المصرية قد باتت إيقاف الولايات المتحدة عند حدها سواء حدث ذلك بالتعاون مع الصين أو مع أوروبا أو بدونهما. ولذلك ربما لا توجد هناك صدفة أن جماعة البحث في الدستور لا تتحدث إلا عن مادة واحدة ترمي إلي تغيير الحائز علي منصب رئيس الجمهورية الذي يري صورة مختلفة لمصر تقوم علي السلام مع الجميع, والتكيف والمواءمة مع طبيعة النظام العالمي المعاصر كما تفعل كل دول العالم الأخري الصغيرة والكبيرة معا.
وربما كانت هذه هي المسألة الدستورية الأساسية التي ينبغي أن تقفز إلي مقدمة الصورة, وفي رأي كاتب السطور أن تقوم هذه الصورة علي ما تواضع عليه العالم في القرن الحادي والعشرين وهي الدولة الديمقراطية الرأسمالية التي تكون فيها المقدمة للفرد المواطن المبادر في عمليات تبادل القيم وتبادل السلع داخليا وخارجيا. في مثل هذه الدولة فإن الشعب العارف هو بالفعل مصدر السلطات, وبالتالي لا مجال فيه لأثقال مميزة لجماعات مثل العمال والفلاحين, ولا مجال فيه لرسم سياسات توضع في الدستور; فالسياسات والبرامج والخطط هي من قبيل المصالح المرسلة التي تحددها الأغلبية حسب القدرات والإمكانيات, وحسب الفرص والمخاطر.
وبالتأكيد فإن ذلك ليس هو كل المسألة الدستورية في مصر, ولكن صورة مصر التي نبغيها اشتراكية أو محاربة أو رأسمالية ديمقراطية هي التي تنطلق منها كل المبادئ, وكل البنود, وكل القوانين. لقد آن الأوان لكي يصبح النقاش حول صورة المجتمع جزءا من النقاشات والحوارات حول الدستور, وبدونها فإننا نصبح كمن يعيش حالة من الطفولة والمراهقة الدستورية التي آن أوان تجاوزها والنضج فيها!!.
كان ذلك ما كتبته في ذلك الوقت مطالبا بدستور جديد, وكان الطرح هنا مقدما للسلطة والمجتمع معا, فلا يمكن أن تصل الدستور الجديد دون أن تعرف شكل المجتمع الذي ينظمه هذا الدستور, وبعد ذلك مضيت في الاجتهاد في مقالات متنوعة لخصت فيها إشكالياتنا. وكانت الإشكالية الأولي هي علاقة الدين بالدولة والتي عالجناها بطرق مختلفة منذ دستور1923 حتي التعديلات الدستورية لعام2007 مرورا بدساتير وإعلانات دستورية وتعديلات كثيرة. والثانية كانت علاقة الدولة بالمجتمع, أي ببساطة النظام السياسي الذي يحدد علاقة السلطة السياسية بالمحكومين أو الشعب. وهنا فإن الشائع عن حق أن الديمقراطية تحل كل المعضلات, ولكن هناك أمرا آخر لا يمكن إغفاله وهو أن النظام السياسي لا بد ألايكون فقط ديمقراطيا وإنما كفؤا, وفيه من الكفاءة ما يكفي لنقل الدولة كلها من حال الدول المتخلفة إلي حال الدول المتقدمة إذا كانت صورة الدول المتقدمة هي الصورة التي نريدها لمجتمعنا, أو قيادة دولة الخلافة إذا كان ذلك هو ما نرمي إليه. والثالثة هي علاقات وتفاعلات المجتمع وتنظيمها في ظل ثقافة سياسية بعينها, وببساطة كيف تقوم علاقة الأغلبية مع الأقلية ومعها كيف تنتظم حقوق الإنسان, ومرة أخري إذا كانت حقوق الإنسان جزءا من الدولة التي نريدها, هل هي عالمية تخص الإنسان في الأرض أو ابن آدم الذي خاطبته كل الكتب السماوية أم هو شخص آخر له الغلبة والقوة. والرابعة والأخيرة علاقة الدولة بالعالم الذي نعيش فيه; فطليعة الثورة من الشباب لا شك استفادت من التكنولوجيا التي أتاحتها العولمة, وهي تعرف جيدا ما يدور في أركان الكون. ولكن شباب جوجل ليس هو كل مصر, ولا توجد لدينا سلفية دينية فقط, بل لدينا سلفيات من كل الأنواع القومية والماركسية والليبرالية المولعة بالنظام الجمهوري البرلماني الذي يتيح لرئيس الوزراء صاحب السلطة الفعلية البقاء في الحكم إلي الأبد بينما تسعي لتحديد مدد رئيس الجمهورية الذي له سلطات رمزية وشرفية فقط. فهل نمتلك الشجاعة لكي نعرف الزمن بالمستقبل وليس فقط بالماضي؟
المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش