بقلم: فاروق شوشة
من أروع ما أبدعه الشاعر الرائد صلاح عبدالصبور قصيدته الشهيد التي يضمها ديوانه الأول الناس في بلادي, حلق فيها إلي فضاء شعري لا أظن أن احدا من شعراء العربية ـ قبله أو بعده ـ قد اقترب منه
أو شارفه, من حيث الصورة الشعرية التي تجسدت في لوحة فاتنة, لا تغادر ألوانها وخطوطها وظلالها العين والقلب, والنفس الإنساني الحميم الذي يضفيه الشاعر علي قصيدته, فيجعلها قصيدة لكل شهيد, علي تعاقب العصور والأزمات, ووقفة خاشعة علي برزخ الشهادة هذا المعني الجليل النبيل, الذي عشناه, وارواحنا تحتضن شهداء ثورة الخامس والعشرين من يناير, وتزفهم إلي رحاب الملأ الأعلي, رموزا عزيزة خالدة للتضحية والفداء, وأمثلة فذة نادرة للاستشهاد واستحقاق الخلود.
يقول صلاح عبدالصبور:
ياعجبا, كل مساء موعدي مع المضرج الشهيد
كأن منديل الشفق
دمه
كأن مدرج الهلال كفه ومعصمه
كأن ظلمة المساء معطفه
وبدرة السنا أزرار سترته
كأنه مسافر علي جواد الليل مشرقا ومغربا
كل مساء, بلا ملال
يهيج في قلبي اللياع والشجي
لأن بين مقلتيه جرحا مايزال
ثم يقول صلاح عبدالصبور مصورا هذه الجلوة الليلية الشعرية التي يطالعه فيها وجه الشهيد, هذا الكائن النوراني الذي يواتي في المسافة بين الخيال والحقيقة, بين الرؤية والرؤيا, بين رؤية القلب وتساؤل العين:
وحين يوغل المساء أهتف اسمه الحبيب
أدعوه أن يخف لي من أفقه الرحيب
يجيء لايكسر قلبي
تجوز خفاه إلي جواري
ويتكي جنبي علي سريري
لكنما عيناي تطرفان, تعشيان
وكيف لي! وجرحه في وجهه مصباح الصمت, لا أحار منطقا
وربما أقول: أنت؟
وربما تطوف في وجهي أنفاسه
كأنما تقول: جئت
لكنما ديك الصباح صاح في الأفق: لنفترق..
لا تله عن موعدنا, إلي اللقا
وحين ينشر الجناح
يقول خافقي: كأنني رأيته
تقول مقلتي كأنني رأيت!
في المقطع الأخير من قصيدة الشهيد للشاعر صلاح عبدالصبور تصوير بديع للعلاقة التي لم تنقطع بالموت, فالشهيد لم ينس مدينته ووطنه, ومايزال قلبه يتوهج بالشوق إليها, وهو ينور مساءها بجراح استشهاده, فيصبح المساء صباحا, ويتألق وجودها بالنور. هذا الاتصال الحميم بين الشهيد ومدينته, هو السر في هذه العلاقة الحميمة الدائمة, لايقطعها فناء الشهيد جسدا, وإنما يؤكدها بقاء الشهيد روحا عارمة, تدب في أوصالها, وتسري في شرايينها, وتغرس فيها وفي صدرها مزيدا من الجرأة والعزم والتصميم, واتساع دائرة الأفق لموكب شهدائها الذين علي مر تاريخها يتتابعون, ويبثون فيها سحر البطولة, وعظمة الفداء والانتصار:
كل مساء ينزل الشهيد في مدينته
يبثها أشواق قلبه البريء
هنيهة,
وماج ثوبه علي استدارة الأفق
فوق ربي المدينة الفساح
ونور المساء بالجراح
كأنه صباح!
الشهيد يطمئن في كل ليلة علي مدينته التي كانت تضحيته وكان استشهاده من أجلها, والمساء الذي يرتبط عادة بحلول الليل ونزول ستائر الظلام, ينور ويضيء, ويتحول إلي صباح مشرق ويوم بهيج, فقد هيأت له جراح الشهيد زيتا ووقودا, فأشرق وتألق. فهل رأيتم مثل هذه الصورة الشعرية البديعة, لواحد من شهداء مصر الإبرار, وقد جسدتها ريشة واحد من شعرائها العباقرة: صلاح عبدالصبور؟
المزيد من مقالات فاروق شوشة<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش