علماء التراث وقضايانا المعاصرة‏(1‏ ـ‏2).‏ محمد زاهد الكوثري
بقلم : د‏.‏ محمد عبدالفضيل القوصي ‏*‏ عضو مجمع البحوث الإسلامية


لا يكاد المتأمل المنصف يمد عينيه صوب المرحلة المتأخرة من العلماء المجاهدين حتي يبرز اسم العلامة الشيخ محمد زاهد الكوثري لامعا خفاقا‏,‏ فهو ذلك الرجل الذي جمع بين التضلع في علوم الإسلام قاطبة‏,‏ وبين شجاعة الموقف‏,‏

 

 وفروسية الرأي‏,‏ وجسارة الكلمة‏,‏ ذودا عن حياض الإسلام ودفاعا عن حرماته‏!!‏
في منتصف القرن العشرين‏,‏ وحين تكالبت الأحداث الهوجاء العاصفة علي الخلافة العثمانية في تركيا‏:‏ وجد علماؤها ـ وفي الطليعة منهم ـ هذا العالم الفذ‏:‏ أن لا مفر من مفارقة الديار والهجرة بدينهم وعلمهم‏,‏ فلقد كانت المداهنة والممالأة آنئذ‏:‏ محنة وفتنة‏,‏ وكان السكوت حينئذ‏:‏ خورا وضيما‏,‏ ومن ثم فقد كان الملاذ الآمن ـ أمام تلك الكوكبة الزاهرة من علماء الترك‏:‏ هو‏'‏ مصر‏'‏ التي حباها الله تعالي بمحبة العلماء ومعرفة فضلهم ونشر علمهم‏,‏ وهكذا استقر المقام بالشيخ الكوثري ـ الذي كان وكيلا في تركيا للمشيخة العثمانية ـ بأرض الكنانة‏,‏ ينشر فيها عبق‏'‏ مقالاته‏',‏ ودقيق تحقيقاته‏,‏ وبارع كتاباته‏!!‏
ولم يكن الكوثري مجرد عالم محقق يوصد مغاليق عقله علي ذخائر التراث‏,‏ ويسد أمامه منافذ الواقع ونبضات حركته‏,‏ بل جمع جمعا خصبا بين دقة العلم وأقضية الحياة‏,‏ ولم يكن هذا مطلبا يسير المنال‏,‏ فقد كان العلماء حينئذ ـ ولا يزالون ـ صنفين‏:‏ صنف تستنزفه بطون المصادر وتستغرقه دقائقها الخفيات‏,‏ وصنف ينغمس في لجة الواقع‏,‏ فلا يبقي له بعدئذ أثارة من الفراغ الذهني والنشاط العقلي‏,‏ لكن الكوثري نجا بنفسه وبعقله من استقطاب هذه الثنائية الحادة‏,‏ مضيفا إليها فعالية دائبة في مجال الجهاد الفكري والعلمي‏,‏ دفاعا ـ بالعقل والقلم ـ عن‏'‏ أصول الدين‏'‏ وتشريعاته ونظمه ومسلماته الثابتات‏!!‏
ثم إن جهود الكوثري العلمية لم تقف عند مجال بعينه من مجالات العلم الإسلامي الزاخر بمختلف فروعه‏,‏ فلئن كان هذا الشيخ الجليل قد أنجز عددا وفيرا من المؤلفات والتحقيقات في مجال العقيدة الصحيحة‏(‏ علوم أصول الدين‏)‏ ـ ذلك المجال الذي أولاه كبير اهتمامه وعميق عنايته ـ غير أنه قد برع في علمين آخرين موازيين‏;‏ هما علم الحديث رواية ودراية‏,‏ وعلم الفقه أصوله وفروعه‏,‏ وبخاصة علي مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان‏,‏ كما أن القارئ لهذه المؤلفات المتخصصة التي أنجزها في هذه الميادين‏:‏ يجد بين ثناياها معرفة موسوعية بسائر علوم الإسلام الأخري التي ترفد سابقاتها‏,‏ وتمدها بالاستفاضة والعمق‏,‏ وشمول النظرة‏,‏ ورحابة الرؤية‏.‏
من خلال ذلك كله يمكن للمرء أن يضع يديه علي محاور عدة تميز فكر ذلك العالم الجليل وتجسد دوره البارز وإسهامه المرموق‏:‏
أول تلك المحاور‏:‏ نفوره الشديد من‏'‏ حرفية الفهم‏'‏ وظاهرية التناول لنصوص الكتاب والسنة المتعلقة بذات الله تعالي وصفاته وأفعاله‏,‏ فلقد كان الشيخ الكوثري من ذلك النفر من العلماء الذين يجمعون ـ في فهمها ـ جمعا متبصرا بين العقل والنقل‏,‏ ويضيقون ذرعا بالتمسك بظواهر النصوص وحدها‏,‏ مدركا ـ بوعي لماح ـ مدي ما تنتهي إليه تلك الحرفية الظاهرية‏,‏ من ضيق الأفق‏,‏ ومن تعسف الرؤية التي تسري حتي فروع الفروع‏,‏ كما أنه كان مدركا أن إهمال دور‏'‏ العقل‏'‏ المتبصر الرصين في فهم تلك النصوص‏:‏ منزلق إلي‏'‏ التكفير‏',‏ وإلي الاتهام الجانح الجامح بالخروج عن الملة‏,‏ ومن ثم تفريق كلمة المسلمين وتمزيق جماعتهم‏,‏ وفي ذلك الشر المستطير‏!!‏
وفي الحق أن هذه القضية الكبري ـ قضية تنزيه الله تعالي عن مشابهة المحسوسات ـ قد استنفدت قسطا وفيرا من الجهد العلمي الفذ لهذا الشيخ الفذ‏,‏ وحق لها أن تحظي بهذا القدر من الاهتمام‏,‏ فلقد كانت الشغل الشاغل ـ ولا تزال ـ لشراذم من المسلمين ـ قديما وحديثا ـ لا يرضون بغير التصور الحسي الجامد لنصوص الكتاب والسنة‏,‏ في غفلة بائسة عن بلاغة القرآن ومجازاته وتأويلاته‏,‏ بما يؤدي بالضرورة إلي تدني تصوراتهم لمقام الألوهية المتعالي‏,‏ وهبوطها إلي‏:‏ درك التشبيه ووهدة التجسيم‏!!‏
ثاني تلك المحاور‏:‏ الدفاع الحار عن كيان المذاهب الفقهية وصيانتها من الهدم والعبث‏,‏ فلقد كانت الدعوة إلي طرح المذاهب الفقهية ـ بدعوي إغتراف الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة مباشرة ـ وإهمال قواعد الفقهاء في استنباط تلك الأحكام ـ شائعة في عصره بتأثير عوامل شتي‏,‏ فإذا بالشيخ الجليل يتناول تلك الدعوي الخطيرة بالنقد المنهجي الصارم‏:‏ تناولا مستفيضا‏,‏ إلي الحد الذي انتهي به إلي عبارته الذائعة الصيت وهي أن‏'‏ اللامذهبية قنطرة اللادينية‏',‏ تلك العبارة التي طوفت الآفاق‏,‏ وسارت بها الركبان‏!!‏
إن تاريخ المذاهب ـ كما أوضح الشيخ ـ بصدد هذه القضية ـ يمتد في جذوره الأولي إلي خير القرون‏,‏ حين كان عدد من الصحابة رضوان الله عليهم يختصون بإفتاء المسلمين بعد انتقاله صلي الله عليه وسلم إلي الرفيق الأعلي‏,‏ استنباطا من الكتاب والسنة‏,‏ ثم خلف من بعدهم‏(‏ الفقهاء السبعة‏)‏ حتي انتقلت علوم هؤلاء إلي شيوخ الإمام مالك في المدينة‏,‏ ثم إلي الكوفة حيث بعث إليها الفاروق رضي الله عنه بعبد الله بن مسعود ليفقه أهلها في دينهم قائلا‏:(‏ إني آثرتكم علي نفسي به‏)‏ حتي أتي أبو حنيفة رضي الله عنه فتكون علي يديه ما يمكن أن يسمي‏'‏ مجمعا فقهيا‏'‏ قوامه أربعون فقيها‏,‏ ثم جاء الشافعي وأحمد ـ رضي الله عنهماـ فصنعا شيئا من هذا الصنيع أو قريبا منه‏.‏
لكنك قد تسأل عن السر في أن تكون‏'‏ اللامذهبية قنطرة اللادينية‏'‏؟
إن المذاهب الفقهية المعروفة لم تصل إلي حكم شرعي في قضية ما‏:‏ إلا عن طريق فهم النص الشرعي المتعلق بالقضية‏,‏ وما اختلفت تلك المذاهب في أحكامها الفقهية بصدد تلك القضية‏:‏ إلا لاختلاف أفهام الفقهاء حول هذا النص الشرعي وتقليب النظر فيه علي جميع وجوهه التي تتيحها اللغة‏,‏ واقتناص مختلف احتمالاته التي تتسع لها دلالات النصوص‏,‏ فمن أراد أن ينكر تلك المذاهب جميعا ـ وقد احتوت جميع الأفهام وسائر الدلالات ـ فقد أصبح بمنأي عن جميع احتمالات النص‏,‏ وبمعزل عن‏'‏ سائر وجوهه‏'‏ وما ذلك ـ إلا محاولة تعني في جوهرها‏:‏ التمرد علي النص نفسه‏,‏ والرغبة في الانعتاق منه‏,‏ والخلاص من عهدته‏,‏ مهما بدا ذلك في صورة‏'‏ الاجتهاد‏'‏ و‏'‏التجديد‏'!!‏
ثالث تلك المحاور‏:‏ التصدي الحاسم لكل‏'‏ مظاهر العلمانية‏',‏ فلقد اكتوي الرجل بنارها في بلده‏,‏ حيث رأي بعيني رأسه آثارها ونتائجها‏,‏ ومن ثم فقد تصدي ـ بحرارة متقدة ـ لبعض دعاة العلمانية في عصره‏,‏ أولئك الذين فهموا من القول‏'‏ بصلاحية الدين لكل زمان ومكان‏',‏ ومن الحديث النبوي الشريف الذي يتضمن أن الله تعالي يبعث علي رأس كل مائة من يجدد للأمة أمر دينها‏:‏ ما يتيح لهم الدعوة المستنكرة إلي ـ فصل الحياة عن الدين ـ بدعوي صلاحيته لكل زمان ومكان تارة‏,‏ أو بزعم التجديد المدعي تارة أخري‏,‏ فلئن آلت تلك الصلاحية ـ أو ذلك التجديد ـ إلي هذا المآل التعس فهذا عين الهدم والمحو‏,‏ وليس من الصلاحية أو التجديد في شيء‏!!‏
ثم يتبع ذلك بعبارات هي أقرب إلي التفجع والأسي‏,‏ وعينه علي ما حل ببلده قائلا‏'‏ إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين‏,‏ والعاقل من اتعظ بغيره‏'!!‏
ثم أتساءل أخيرا‏:‏ أليست تلك القضايا التي أقضت مضجع الإمام الكوثري هي ذات القضايا التي تقض المضاجع في هذا الزمان؟‏!‏

azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 174 مشاهدة
نشرت فى 1 يناير 2011 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,791,833