نماذج التعايش مع الآخر‏(5-20)‏
الحبشة‏:‏الاندماج والتواصل
بقلم: د‏.‏ علي جمعة‏


حث الإسلام أتباعه علي احترام الآخر ومعاملته بالحسني‏,‏ ليكون المسلم نموذجا يحتذي به في كل زمان ومكان‏,‏ ويكون بأخلاقه ومعاملاته أبلغ داعية إلي الإسلام‏,

 

‏ مصداقا لقول الله تعالي‏:(‏ ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم‏)(‏ فصلت‏:34),‏ ومنها أخذ قولهم‏:'‏الدين المعاملة‏',‏ ففعل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل في رجل‏,‏ والمعاملة الحسنة تجعل الإنسان محبوبا بين الناس‏,‏ ومقابلة الإساءة بالإحسان‏,‏ تجعل من الأعداء حلفاء ومناصرين‏,‏ كما أن الإحسان في الدعوة إلي الإسلام فيه ترك ما يثير حمية غير المسلمين لدينهم ويقرب لين نفوس ذوي النفوس اللينة‏.‏
ومن هنا كانت علاقة الرسول صلي الله عليه وسلم والمسلمين مع النجاشي وأهل الحبشة علاقة ود واحترام ولين في الكلام‏,‏ فالمسلمون احترموا أهل الحبشة ولم ينكروا عليهم دينهم‏,‏ ولم يتدخلوا في شئونهم الداخلية إلا في مساعدتهم في إطار من التعاون والمشاركة والوفاء لجميل إيوائهم وحسن وفادتهم‏.‏ وعلي الجانب الآخر وفي ظل هذه العلاقة الطيبة كان النجاشي يبعث للرسول صلي الله عليه وسلم العديد من الهدايا تعبيرا عن تقديره للرسول‏,‏ فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت‏:‏أهدي النجاشي إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم حلقة فيها خاتم ذهب فيه فص حبشي‏,‏ فأخذه رسول الله صلي الله عليه وسلم‏..‏ ثم دعا ابنة ابنته أمامة بنت أبي العاص‏,‏ فقال‏:'‏تحلي بهذا يا بنية‏'(‏سنن أبي داوود‏92/4,‏ كذلك أهدي النجاشي إلي النبي صلي الله عليه وسلم خفين ساذجين‏-‏ليست عليهما زينة‏-‏ أسودين‏,‏ فلبسهما ومسح عليهما‏.(‏ابن ماجه‏182/1).‏
ولا شك أن الصحابة الذين هاجروا إلي الحبشة كانوا تحت رعاية النجاشي بنفسه وتحت نظره ليري ما يفعلونه في حياتهم من عبادات ومعاملات‏,‏ ولعل هذا ما أكد صدق كلامهم عنده في أول لقاء وقربه أكثر لمعرفة هذا الدين‏,‏ ثم تبادل مع الرسول صلي الله عليه وسلم الرسائل والمكاتبات‏,‏ وقد حمل بعضها دعوة رسول الله النجاشي إلي الإسلام‏,‏ ورد عليه النجاشي بحب وتوقير وإقرار بأنه رسول الله حقا‏,‏ وأنه صادق مصدق‏,‏ وختم ذلك بمبايعته له‏.‏ وهذا ما أكده حرص الرسول صلي الله عليه وسلم علي الصلاة عليه حين مات‏,‏ حيث قال صلي الله عليه وسلم‏:'‏مات اليوم رجل صالح‏,‏ فقوموا فصلوا علي أخيكم أصحمة‏'(‏البخاري‏51/5).‏
كذلك نري من خلال نموذج تعايش المسلمين في الحبشة كيف فرح المسلمون بنصر النجاشي علي عدوه الذي نازعه في ملكه‏,‏ وفي هذا تقول أم سلمة رضي الله عنها‏:'‏فدعونا الله تعالي للنجاشي بالظهور علي عدوه والتمكين له في بلاده‏...‏ فوالله ما علمتنا فرحنا فرحة قط مثلها‏.‏قالت‏:‏ ورجع النجاشي‏,‏ وقد أهلك الله عدوه ومكن له في بلاده واستوسق عليه أمر الحبشة‏,‏ فكنا عنده في خير منزل حتي قدمنا علي رسول الله وهو بمكة‏'(‏السيرة النبوية لابن هشام‏1/334).‏
وردا للمعروف لما قدم وفد النجاشي علي رسول الله صلي الله عليه وسلم كان يخدمهم بنفسه فقال له أصحابه‏:‏نحن نكفيك‏.‏فقال‏:'‏إنهم كانوا يكرمون أصحابي وأحب أن أكافئهم‏'(‏المصباح المضيء‏2/36.‏
كما فرح النجاشي بنصر النبي صلي الله عليه وسلم علي مشركي مكة في غزوة بدر بها قبل من عنده من المسلمين‏,‏ فأرسل إليهم‏,‏ فلما دخلوا عليه إذا هو قد لبس مسحا وقعد علي التراب والرماد‏,‏ فقالوا له‏:‏ما هذا أيها الملك؟ فقال‏:(‏ إنا نجد في الإنجيل أن الله سبحانه إذا أحدث بعبده نعمة وجب علي العبد أن يحدث لله تواضعا‏,‏ وإن الله قد أحدث إلينا وإليكم نعمة عظيمة‏,‏ وهي أن النبي محمدا صلي الله عليه وسلم بلغني أنه التقي هو وأعداؤه بواد يقال له‏:‏ بدر‏,‏ كثير الأراك‏,‏ وأن الله تعالي قد هزم أعداءه فيه‏,‏ ونصر دينه‏)(‏ الروض الأنف‏116/2).‏
وفي إطار هذا التعايش السلمي بين المسلمين وأهل الحبشة يذكر أن جعفرا رضي الله عنه ولد له بأرض الحبشة ثلاثة أولاد‏:‏محمد‏,‏ وعون‏,‏ وعبد الله‏.‏ وكان النجاشي قد ولد له مولود يوم ولد عبد الله‏,‏ فأرسل إلي جعفر يسأله كيف أسميت ابنك؟ فقال‏:‏عبد الله‏.‏ فسمي النجاشي ابنه عبد الله‏,‏ وأرضعته أسماء بنت عميس امرأة جعفر مع ابنها عبد الله‏,‏ فكانا يتواصلان بتلك الأخوة‏.(‏ الروض الأنف‏103/4).‏
وكما نجد أن المهاجرين اليوم إلي دول أخري يفضلون الإقامة الدائمة في تلك البلدان‏,‏ ما داموا آمنين مطمئنين علي أنفسهم ودينهم‏,‏ كذلك نجد أن فئة من الصحابة حبذت الإقامة في الحبشة حتي بعد هجرة الرسول صلي الله عليه وسلم إلي المدينة‏,‏ حيث بقي منهم في الحبشة نحو خمسين أو ستين تحت حماية النجاشي‏.‏
وفي هذه العلاقة الطيبة مع الآخر من خلال نموذج الحبشة نجد أن تعاليم الإسلام ومبادئه السمحة ما زالت بعيدة عن متناول أيدي غير المسلمين الآن‏,‏ مما يدفع الآخر إلي النفور من الإسلام‏,‏ حيث يري كثير من غير المسلمين أن الإسلام هو ما يقوم به المسلمون من معاملات معهم‏,‏ لذا فقد أصبحت معاملات بعض المسلمين الخاطئة والمنفرة مع الآخر بمثابة حجاب لحقيقة الإسلام‏,‏ يمنع الآخر من اعتناقه أو التقرب إليه‏,‏ مما يدق نواقيس الخطر لدي المسلمين ويرشدهم هم أولا أن يرجعوا إلي الالتزام بمبادئ الإسلام السمحة‏,‏ وأخلاقه القويمة في تعاملاتهم مع الآخر‏,‏ لتكون أفعالهم‏_‏ وليست أقوالهم‏_‏ نورا يهتدي به الآخرون إلي صراط الله المستقيم‏.‏
 

 

المزيد من مقالات د‏.‏ علي جمعة‏<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 30/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
10 تصويتات / 299 مشاهدة
نشرت فى 1 يناير 2011 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,791,652