بقلم: السيد يسين
أصبح لدي يقين بعد تفاعلي العميق مع شبكة الإنترنت وتتبعي لما يدور فيها من مناقشات فكرية بالغة الخصوبة, ومن معلومات تفيض بها, أن الكاتب المعاصر.
لا يستطيع أن يمتنع عن الإبحار في محيط الفضاء المعلوماتي الزاخر بالتفاعلات, وإلا حكم علي نفسه بالتخلف والجمود.
ونعرف جميعا أن العالم قد تغير تغيرات عميقة, ونتيجة لذلك نشأ مجتمع عالمي جديد لابد أن نرسم له ـ كما فعلنا في كتابنا االخريطة المعرفية للمجتمع العالميبـ القاهرة ـ نهضة مصر2008 ـ الملامح الرئيسية التي تحدد تضاريسه المعقدة.
وهذه الخريطة المعرفية هي التي ستكون البوصلة التي ستوجه مسارات القراءة لكل باحث يطمح إلي التجدد المعرفي, حتي يمكن له أن يتابع بشكل منهجي انفجار المعلومات, وانبثاق المعرفة العلمية الجديدة التي ستغير من الكون والمجتمع والإنسان في الألفية الثالثة.
ونتيجةلثورة الاتصالات الكبري ابتدعت وسائط جديدة للتفاعل بين الكتاب والقراءة, فقد أصبح متاحا لهم أن يرسلوا بتعليقاتهم علي ما يقرأونه من مقالات علي الشبكة, فور نشرها في الصحف التي لها مواقع إلكترونية.
ولم يعد الكاتب يستطيع أن يتجاهل أهمية التفاعل العميق مع التعليقات علي مقالاته, بما تتضمنه أحيانا من انتقادات لأفكاره, أو تأييد لأطروحاته.
وهكذا منذ افتتاح موقع الأهرام الإليكتروني تعودت علي قراءة التعليقات علي مقالي الأسبوعي الذي ينشر كل خميس, وفكرت كيف يمكن أن أستجيب بشكل خلاق لهذه التعليقات, التي تتضمن أحيانا أفكارا نيرة تستحق المناقشة, أو انتقادات ينبغي الرد عليها, ليس من باب رفضها بالضرورة, بل من زاوية الاستفادة منها في تصويب المسار الفكري, إن كان يستحق التعديل.
ولذلك منذ فترة خصصت مقالة خاصة للدخول في حوار تفاعلي مع قرائي, وأريد اليوم أن أكرر التجربة بعد أن قرأت تعليقات مهمة لعدد من القراء المحترمين علي مقالي السابق صعود وسقوط الإيديولوجيات السياسية العربية الذي نشر يوم9 ديسمبر.2010
وقد قررت أن أدخل في حوار مع القارئ المحترم الأستاذ طلعت جبر وهو يعمل مترجما, لأنه في تعليقه تطرق إلي عدد من الموضوعات البالغة الأهمية التي تستحق النقاش.
وكنت قد أنهيت مقالي السابق بفقرة قلت فيها: يبقي التحدي الأخطر وهو هل سيستطيع المجتمع السياسي العربي أن يواجه مخاطر العولمة وإيجابياتها في الوقت نفسه, من خلال شحذه قدراته علي التفاعل الحي الخلاق عن طريق الارتقاء بمستوي الأداء السياسي, وفتح الباب أمام الديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان, والأداء الاقتصادي بتفعيل التنمية البشرية, مع الاهتمام بالارتقاء بنوعية الحياة وعدالة التوزيع, والأداء الثقافي من خلال حوار الحضارات والإسهام الفعال في إنتاج الفكر العالمي.
كتب الأستاذ طلعت جبر تعليقه تحت عنوان محاولة للإجابة, ويقصد الإجابة عن الأسئلة التي طرحتها في الفقرة النهائية للمقالة.
وقد قرر أنه لا يمكن التفاعل الإيجابي مع العولمة, كما اقترحنا إلا إذا طبقنا النهج الديمقراطي, وألقي بالمسئولية علي عاتق المثقفين لتثقيف العامة سياسيا حتي يمكن للمواطنين فهم معني الديمقراطية والليبرالية ـ وبحسب قوله ـ فهم إنها ليست رجسا من عمل الشيطان!
والواقع أن هذه الملاحظة تثير عدة قضايا أساسية لعل أخطرها مشكلة الانفصال بين النخبة والجماهير في مجتمعنا.
وهذه المشكلة ـ في تصورنا ـ أحد أسباب التخلف الاجتماعي السائد, لأن قسمة المجتمع بين نخبة مثقفة, وإن كانت بعض فصائلها ثقافتهم سطحية وضحلة للأسف, لأنهم مجرد متعلمين وليسوا مثقفين بمعني الكلمة يصدرون عن خلفية فكرية عميقة ويتبنون رؤية نقدية للحياة, وبين جماهير عريضة نسبة كبيرة منها مازالت غارقة في الأمية تعوق إلي حد كبير كل مشاريع التنمية.
بعبارة أخري ونحن في عصر مجتمع المعلومات العالمي الذي نشأ نتيجة الثورة الاتصالية الكبري, ونعني البث الفضائي التليفزيوني وشبكة الإنترنت, ليس من المقبول أن يكون نحو40% من السكان في مصر أميين, وإذا أضفنا إلي ذلك معدلات عالية من الأمية الثقافية, لاكتشفنا أن تدني مستوي الوعي الاجتماعي لا يمكن ـ مهما يرسم من سياسات ومهما تصدق النيات في الإصلاح ـ من الانتقال من حالة التخلف إلي آفاق التقدم.
غير أننا نختلف مع القارئ الكريم السيد/ طلعت جبر لأنه يأخذ علي المثقفين تحيزهم إلي جانب سياسي معين وكما يقول( غالبه اشتراكي يساري).
وسر اختلافنا معه أن المثقف الحقيقي هو الذي يمتلك رؤية محددة للعالم, وقد تكون هذه الرؤية يمينية تقوم علي اختيار الإصلاح وسيلة لتطوير المجتمع, وقد تكون يسارية تنهض علي أساس تبني الثورة, بمعني التعديل الجذري للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ولذلك نجد في كل مجتمع معاصر ـ ومن بينها المجتمع المصري ـ مثقفين يمينيين تختلف درجات اتجاههم اليميني من أول عدم الرغبة في التعديل الجذري للأوضاع إلي هؤلاء, من بينهم الذين يتبنون آراء محافظة أو رجعية.
وهناك مثقفون يساريون, من بينهم دعاة التعديل الجذري للأوضاع الاجتماعية, وقد نجد فصيلا منهم يدعو للانقلاب علي المجتمع من خلال ثورة عارمة تعيد صياغة أنساقه السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
بعبارة موجزة انحياز المثقفين لاتجاهات سياسية مختلفة ليست المشكلة, ولكن المشكلة الحقيقية في ضرورة أن تكون الحلول التي يطرحونها لمواجهة أزمة المجتمع قابلة للتنفيذ وليست حلولا خيالية من ناحية, أو حلولا محافظة أو رجعية, من شأنها أن تعود بالمجتمع إلي الوراء في سلم التقدم, كما تفعل بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة, والتي من خلال القياس الخاطئ والتأويل المنحرف للآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة, تدعو لعقائد سياسية من شأنها أن تنشر التطرف الذي قد يصل ـ كما حدث ـ إلي حد ارتكاب جرائم إرهابية باسم تطبيق الشريعة الإسلامية.
وتطرق القارئ نفسه إلي موضوع يتعلق بتأويل تاريخ مصر الحديث والمعاصر, وهو موضوع يثير مشكلات منهجية ونظرية وسياسية.
علي سبيل المثال, هل حركة الجيش التي قام بها الضباط الأحرار كانت انقلابا أم أنها كانت ثورة؟
وما يطرحه السيد/ طلعت جبر مشكلة اختلفت فيها الآراء, وفي تقديرنا أن القول إن ما حدث في يوليو1952 كان ثورة, ليس تزييفا للتاريخ, وذلك أنه إذا كان صحيحا أن حركة الجيش بدأت كانقلاب عسكري, إلا أنها ـ في رأينا ـ تحولت إلي ثورة فعلية بحكم أنها تبنت مشروع التغيير الاجتماعي الذي صاغته القوي الوطنية المصرية قبل1952 من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار.
والدليل علي ذلك أن قانون الإصلاح الزراعي الأول الذي أصدره الضباط الأحرار بعد ستة أسابيع فقط من قيام الثورة قام علي أسس ثلاثة مشاريع سابقة للإصلاح الزراعي, سبق أن قدمها كل من إبراهيم شكري عضو مجلس النواب, ومحمد خطاب عضو مجلس الشيوخ, وإبراهيم بيومي مدكور عضو مجلس الشيوخ.
والقارئ محق في أن الثورة أخطأت في نشر آرائها السلبية عن ثورة1919 والزعم أن سعد زغلول زعيم الثورة ركب موجتها, كما أن تقديم العصر الليبرالي باعتباره كان فاسدا كله فيه تجاوز للحقائق التاريخية.
وقد لا نوافق علي نقده للمثقفين الذين مازالوا يتمسكون بالقومية العربية لأن انتماء مصر العربي حقيقة تاريخية وجغرافية, ومكون أساسي من مكونات الأمن القومي المصري, ومما لاشك فيه أن قلة من المثقفين هي التي مازالت تؤمن بشخصية االزعيم المخلصب, لأن هناك إجماعا بينهم علي أنه ليس هناك من سبيل لتجاوز أزمة المجتمع المصري إلا بالتطبيق الدقيق لقواعد ومسلمات النظام الديمقراطي.
هل هناك إمكان لتطبيق الديمقراطية الحقيقية في مصر, أم أن ذلك من رابع المستحيلات؟
سؤال نحاول الإجابة عنه في مقالنا المقبل!
المزيد من مقالات السيد يسين<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش