علموا أولادكم الفنون.. ثم أغلقوا السجون
بقلم: د. محمد شاكر
هكذا يري أفلاطون... وتلك الرؤية عندما تأتي من أحد أسياد المعرفة في تاريخ البشرية.. تتخطي في مضمونها حدود الرأي الخاص.. لتصبح قيمة تزدان بها ثقافات التربية والعلوم السلوكية.. وركيزة نسترشد بها دوما في إدارة حركة الحياة.
إن العلاقة المستترة بين غياب الفنون.. وظلمات السجون( في مقولة العظيم أفلاطون).. تتمثل في عدم إعمال الفنون تلك الطاقة الفاعلة للنشاط الوجداني.. حيث تتشكل قيم الحدس والتأمل.. وطقوس المشاعر والمعاني.. ثم تقاليد الجمال.
والتنمية البشرية في مفهومها الأعم.. تبدأ منذ الشهور الأولي في عمر الإنسان.. حيث تلتقي الحواس مع الثقافات المكتسبة.. التي تتكون منها ملامح الأنفس والطبائع, فالمحيط الإجتماعي داخل الأسرة وما حولها.. من تنوع الأشكال والأنماط السلوكية.. ثم ذلك المستوي الحضاري الذي تقترب ــ أو تبتعد عنه ــ الشرائح الإجتماعية.. من التربية الواجبة والمستنيرة.. في مجالات الوعي.. والروح.. والوجدان. وإذا كان الشكل.. في طبيعة التأثير.. يتقدم علي المضمون.. فإن الجانب الخاص بلغات الفن وتقنياتها.. يكون هو الدرس الأول في أسس التنمية البشرية, ويبدأ ذلك المعني في عطائه منذ الشهور الأولي لعمر الإنسان.. من المكان الذي يبدأ فيه الطفل.. التأثر بحواس السمع والبصر, فالأصوات المحيطة( كلاما متبادلا... كلاما مغني.. تراتيل دينية.. موسيقي خالصة.. أو أي أصوات أخري مفروضة علي المكان من داخله.. أو من خارجه).. كل ذلك يؤثر سلبيا أو إيجابيا عند نشأة الإنسان.. في مرحلة الطفولة.. أثناء تكوينه لملكات التعبير بالتتابع والنمو, ومن هنا تبدأ الركيزة الأولي للثقافة السمعية المؤثرة في عطائه الإنساني... وقيمته فيما بعد. وكذلك حاسة البصر.. حيث العناصر المرئية والمحيطة حول الطفل, بتنوع الألوان وعلاقتها بالإضاءة المستخدمة ودرجاتها... ومدي علاقة ذلك بعلم التوافق.. كذلك المستوي المتزن في ملامح الأمكنة وعلاقتها بأسس التصميم وتعاليم الجمال.. من كل ذلك تتشكل أيضا الركيزة الأولي للثقافة البصرية المؤثرة ــ أيضا في عطاء الإنسان.. وقيمته فيما بعد. وإذا كانت العلوم السلوكية قد آمنت بضرورة التربية الجمالية والتذوق الفني.. فإن ذلك لا يتأتي إلا بقناعة هذه العلوم.. بأن هذه الضرورة.. تعتبر منهجا لطبائع المتحضرين وسمات أدائهم في حركة الحياة, إلي جانب الإرتباط الواجب بين هذه الضرورة في إطارها المثالي.. وبين شعائر القيم والمثل العليا..
ويحضرني ترجمة لمشهد في قصيدة للشاعر الألماني( ريلكه) يصف فيها غابة بها أشجار مرتفعة جدا( هذا هو موضوع القصيدة)... يقول الشاعر المبدع في تعبيره عن هذا المشهد الوصفي: لقد رأيت رءوس الأشجار.. وكأنها جذور تشرب من السماء..!!إن هذه الصورة شديدة الموهبة.. التي يعبر فيها الشاعر عن إرتفاع الأشجار.. لدرجة أنه تصور وكأن رءوس الأشجار.. أصبحت جذورا تشرب من السماء.. من شدة إرتفاعها, هذا إلي جانب الإيحاء الرائع لذلك المعني المتصوف.. علي مقدرة الخالق العظيم في معجزة الإنبات.. حيث يتنوع فيها العطاء اللا نهائي.. من الزهور والنباتات والثمار.. وتلك الإختلافات ــ وبلا حدود ــ في الشكل.. واللون.. والملمس.. والمذاق.. والعبير.. والرقة.. والحدة.. وغيرها وغيرها من الملامح والسمات والصفات.. وليس ارتفاع الأشجار فقط, هذه الصورة الإيحائية التي تفوق في بلاغة إيقاعها.. ما يقدمه جهابذة الدعاة ورجال العلم والدين.. من البراهين والحجج والآراء والأسانيد والأدلة.. علي عظمة الله وقدرته.. سبحانه وتعالي.
إن التراث الإبداعي في تاريخ البشرية.. زاد من الرقي الذي يجب أن نستغفر به عن ذنوب الجهل والتخلف.. ونتقرب به كثيرا نحو القيم والمثل العليا.. التي تتشكل من خلالها أخلاقيات الجمال والكمال.. ومحبة التدين.
وهنا تتضح تلك العلاقة التي يجب ألا تكون مستترة( في مقولة العظيم أفلاطون) بين ضرورة الفن.. وبين أصول التربية الجمالية والعلوم السلوكية. وفي واحدة من رباعيات الفيلسوف البديع.. صلاح جاهين.. تتألق الصور والأخيلة في رؤية فنية شديدة الموهبة يناقش فيها اللا منطق عندما يصير منهجا في حركة الحياة فيقول:( سمعت نقطة ميه جوه المحيط.. بتقول لنقطة.. متنزليش في الغويط.. أخاف عليكي من الغرق.. قلت أنا.. دا اللي يخاف من الوعد يبقي عبيط.. عجبي). وإذا تأملنا هذا المشهد الفريد في بلاغته.. فنجد أنه يبدأ برصد الحوار الذي استمع إليه بين نقطتي مياه, فالمياه تستطيع الكلام والكلام هنا بين نقطة مياه داخل المحيط(الذي يتكون من المياه أيضا) ونقطة مياه أخري.. حيث تنصح فيها النقطة الأولي النقطة الثانية( متنزليش في الغويط) الذي هو أيضا مياه, فالنقطتان من الماء والمحيط به ماء وأعماق المحيط( الغويط) أيضا نفس المياه.. وتأتي مبررات النصح من النقطة الأولي للثانية( أخاف عليكي من الغرق)!!, ثم ينتقل الفيلسوف البديع من هذا اللا منطق الرائع إلي سيادة المنطق بقوله: دا اللي يخاف من الوعد.. يبقي عبيط( عجبي).
هذا هو الإبداع يضئ لنا المتعة الذهنية بتلك الصور والأخيله التي تشرع لضرورة الفن.. ومدي أهميته في إثراء الأنفس وسلامة العطاء.
ساحة النقاش