بقلم: د. طه عبد العليم
بدأت مرحلة الزراعة الحديثة, التي دشنها أو أطلق زنادها محمد علي في سياق بناء الدولة الحديثة في مصر, بانقلابه التاريخي من نظام الري الحوضي إلي نظام الري الدائم,
في مركب جديد يجمع بين الأصالة والحداثة, أي بين نظامي ري الحياض والري الدائم. وقد تقدم وتطور بالتدريج عبر قرن كامل بعده الإنقلاب الذي بدأه محمد علي بالزراعة والري, وبلغ قمته ببناء السد العالي في عهد عبد الناصر. ولا جدال أن إنقلاب الري والزراعة يكتمل معناه التام بالتوسع الزراعي في حواف الوادي والدلتا واستكمال مشروعات ترعة السلام وجنوب الوادي, ومشروعات ترشيد استخدام المياه في عهد مبارك.
وحتي ندرك مغزي وحجم إنجاز إنقلاب الري ومن ثم الزراعة في عهد محمد علي علينا أن نتعرف علي حالة الزراعة عشية الإنقلاب. وباختصار فقد تقلص المعمور الزراعي بنحو1.5 مليون فدان علي الأقل, أي بنحو40% من المساحة الصالحة للزراعة في الدلتا حسب تقدير ويلكوكس وكريج. وكان هذا التآكل في الأرض المزروعة نتيجة كارثة البراري التي ترتبت بدورها علي إهمال الأشغال العامة في صيانة الري, في مصر المعتمدة زراعته وبشكل يكاد يكون مطلقا علي منظومة الري الإصطناعي.
وليست كارثة البراري, التي لم تترك سوي60% للمعمور أو الأرض المزروعة, مجرد أكبر نكبة طبيعية وبشرية منيت بها جغرافية مصر عبر التاريخ كله, وإنما كانت أيضا أخطر تغيير بيئي, سلبي وإلي الأسوأ, في جغرافية مصر التاريخية بأسرها. وكانت كارثة البراري بمثابة حكم بالإعدام علي البيئة الطبيعية سلب مصر ربع قاعدتها الأرضية والحيوية تقريبا, مما أدي بالحتم إلي عملية إفقار وطني مباشر وغير مباشر. وبالنسبة نفسها, بالتالي, تقلصت قاعدة الوطن المادية فإمكانياته الاقتصادية والسكانية فوزنه وحجمه البشري والسياسي... الخ
وقد أدي فقدان الدلتا أكثر من ثلث أرضها الزراعية علي الأقل الي تغير الأوزان النسبية بين الدلتا والصعيد. وإذا اعتبرنا المساحة الصالحة للزراعة في الدلتا قبل البراري4.3 مليون فدان مقابل2.2 مليون للصعيد بالتقريب, فان الدلتا بعد البراري إذن لم تعد لتزيد كثيرا عن الصعيد. ولعل هذا ما يفسر لنا بروز الصعيد نسبيا في العصور العربية والإسلامية عموما, كما توحي كتابات أغلب الرحالة والجغرافيين والمؤرخين المعاصرين.
كما تحولت مصر من شبه واحة ساحلية إلي واحة شبه داخلية. والأمر أنه فيما عدا بضعة منافذ علي البحر المتوسط أصبح جسم مصر الحيوي منفصلا عنه بنطاق عريض من فراغ اللامعمور, تقريبا مثلما ينفصل الوادي عن البحر الأحمر بنطاق الصحراء. ولولا كوات وثغور منعزلة لصارت مصر دولة داخلية, بلا سواحل حقيقية فعالة. ولاشك أن هذا الانفصال قد ساهم في عزلة مصر الوسيطة عن عالم البحر المتوسط وأوروبا, وساعد علي الانطواء الداخلي بقدر أو آخر. ومنذ تكونت البراري, وبعد أن تمددت بدرجات متفاوتة في عصور التخلف المملوكي التركي, أصبح كل نشاط توسعي يهدف إلي أن يقضم منها رقعة هامشية هنا أو هناك يستنقذها للعمور والمزروع. ولكن كثيرا ما عادت اليد العليا للتملح والبوار!
وكان أسوأ حالات النبض الهامشي السالبة ما وصلت إليه مصر قبل الحملة الفرنسية. فقد انكمشت الرقعة المزروعة بشدة, وتخللها البور في كل مكان تقريبا, وهجر الفلاحون الوادي هربا إلي الصحراء, وغزا العربان الوادي مع الصحراء وانتشروا فيه. كانت الصحراء لا تنفك تغزو الأرض الزراعية وتطغي عليها وتتخللها, حتي صار ما بين الإسكندرية ورشيد صحراء يبابا, وما بين القاهرة والإسكندرية قري هامدة وأكواخا وعششا خربة. وفقط مع انقلاب الري الدائم وحده, الذي دشنه محمد علي, توقف النبض الهامشي السالب وترك مكانه للنبض الموجب, حيث ملئت ثغرات البور المتخلل, وتمددت أطراف الأرض الزراعية الحدية, وبدأ استصلاح البراري بجدية.
وتنقسم ثورة الري الدائم في عهد محمد علي إلي مرحلتين أساسيتين, أولاهما مرحلة الترع بلا قناطر, وثانيتهما مرحلة قناطر الرفع, كما سجل جمال حمدان. وقد بدأت المرحلة الأولي قبل عام1820, بتجربة الرفع الآلي المباشر لمياه الري. فقد حاول محمد علي للحصول علي محاصيل صيفية بتوفير المياه الصيفية عن طريق الرفع الميكانيكي من الترع النيلية المنخفضة إلي الحقول مباشرة, وذلك بالآلات الزراعية التقليدية من سواقي وشواديف. لكن هذه التجربة فشلت بعد قليل لأنها عملية شاقة وباهظة التكاليف.
وبين عامي18251820, بدأت محاولة خفض قاع الترع عند رؤوسها في الدلتا, حتي يمكن لمياه الصيف المنخفضة أن تدخلها, وحتي يتوافر الري بالراحة علي طول هذه الترع. غير أن هذه المحاولة فشلت هي الأخري, حيث استمرت الحاجة إلي رفع الماء بكل صعوباتها ونفقاتها. ومن ناحية أخري, وهذا هو الأسوأ, كانت الترع تطمي باستمرار, فكان لابد من تطهيرها بلا انقطاع, وبالتالي لزم جيش كامل من عمال السخرة لعملية التطهير كل عام أنفار العونة.
وبين عامي18431825, بدأت تجربة رفع مستوي الماء بالنواظمregulators. فقد أقيمت مجموعات عديدة من النواظم عبر ترع الدلتا علي طول امتداداتها. غير أن الإطماء عاد من جديد ليخنق قطاعات الترع ويقلل حجم الماء الداخل إليها. ومرة ثانية كان الحل الوحيد التطهير بجيش من السخرة قوامه400 ألف لمدة4 شهور كل سنة. وفي محاولة أخري في الثلاثينات جري سد فرع رشيد أثناء التحاريق بسد من الحجارة لكي يرتفع مستوي الماء في فرع دمياط الذي تأخذ معظم ترع الدلتا مياه الري منه.
وقد استمرت تجارب هذا النظام وذاك إلي أن بدئ في إنشاء القناطر الخيرية, لتبدأ مرحلة قناطر الرفع, وهي المرحلة الأساسية الثانية في التحول إلي الري الدائم, ولكنها قد تعد عمليا البداية الحقيقية لانقلاب الري. ولا تختلف المرحلة الجديدة جوهريا عن المرحلة السابقة, من حيث أنها تعتمد مثلها علي مياه الصيف المتاحة وحدها دون أي تخزين وإنما بالرفع المؤقت. ولكن الجديد كان الرفع بالقناطر الهندسية الثابتة الدائمة, وهو ما بدأ مع بناء القناطر الخيرية عند رأس الدلتا, أو بالدقة إلي أن بدأت هذه تعمل بكفاءة معقولة.
وكانت القناطر الخيرية, أو قناطر محمد علي, أول وآخر ما بني في ظل مصر المستقلة, وبخبرة فرنسية, وقبل الإحتلال البريطاني لمصر. وكانت قناطر مزدوجة, ذات شعبتين, علي فرعي رشيد ودمياط, وهي من هذه الناحية الوحيدة في مصر. ولم تخل القناطر عند انتهاء بنائها من عيوب ونقاط ضعف عديدة, حتي أن بناءها قد استغرق نحو عقدين ولم يكتمل سوي في عام.1861 بيد أنها- كما يشهد صاحب شخصية مصر ومنظر ثورة يوليو جمال حمدان- كانت بدون شك أول مشروع ضخم من نوعه, ومشروعا رائدا. وقد بدأ بناء قناطر محمد علي في1843, فكانت بذلك أول قناطر هندسية علي النيل, ومن أولي قناطر الري الحديث في العالم كله.
[email protected]
المزيد من مقالات د. طه عبد العليم<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش