سبق أن أوضحنا العلاقة بين الاستشارة والتنفيذ في الفكر الإداري المعاصر على أساس أن السلطة الاستشارية تعتمد في وجودها على السلطة التنفيذية وتظهر السلطة الاستشارية بقيام مجموعة من المستشارين أو المتخصصين بإعطاء النصيحة لرجال الإدارة التنفيذية في صورة توصيات لا قرارات نهائية.

بينما أصحاب السلطة التنفيذية لهم حق قبول أو رفض آراء ومقترحات الاستشاريين حيث إن المسئولية عن نتائج الأعمال تقع على عاتق السلطة التنفيذية وحدها. ويهمنا هنا أن نوضح موقف الفقه الإداري الإسلامي من هذه القضية وإذا كان واجباً على أصحاب السلطة التنفيذية الاستعانة بأصحاب السلطة الاستشارية وطبقاً للرأي الراجح بين علماء المسلمين - فهل من الواجب عليهم العمل برأي أصحاب هذه السلطة؟ وهل يعد رأيهم ملزما أم لا؟ ويرى البعض أن الأية الكريمة" وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله" تدل على عدم الزام السلطة التنفيذية برأي السلطة الاستشارية.

ومعنى ذلك أن الرسول وهو صاحب السلطة التنفيذية غير ملزم باتباع رأي أهل الشورى وتلك هي القضية التي أوضحها القرطبي في تفسيره لهذه الأية إذ يقول: فإذا صح عزمك بتثبيتنا إياك وتسديدنا لك فيما نابك وحزنك من أمر دينك ودنياك فامض لما أمرناك به وافق ذلك أراء أصحابك وما أشاروا به عليك أم خالفه.

أيضا فإن الرسول بالنسبة لحادثة أسرى بدر لم يأخذ برأي بعض أصحابه ومنهم عمر بن الخطاب والذي رأى قتل الأسرى وإنما أخذ برأيه الذي شاركه فيه بالمشورة أبو بكر الصديق والذي رأي أخذ الفدية من الأسرى. ويحكى لنا تاريخ الشيخين أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - مخالفتهما في بعض المسائل الكبيرة لرأي الجماعة أهل الشورى، كما حدث بالنسبة لمسألة قتال المرتدين في عهد أبي بكر.

أما عن عمر فيكفينا أن نضرب المثل بمسألة جمع السنة وتدوينها فقد صح عنه أنه استشار أصحاب رسول الله في ذلك الأمر فأشاروا عليه بكتابة السنن ولكنه رجع ولأسباب موضوعية فعدل عن كتابتها مخالفاً بذلك رأي أصحاب رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.

كما أن هذا الرأي يؤيده شرع من قبلنا في قصة بلقيس ملكة سبأ حينما تلقت کتاب سليمان واجتمعت بمستشاريها لأخذ رأيهم فيما طلبه منها وما حكاه القرآن في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ، إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ، قالت يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ، قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ﴾. [النمل : ۲۹-۳۳].

فمن الواضح أن رأي المستشارين كان يشير عليها بأنهم على استعداد للمواجهة بالقوة ولكنه ترك امر اتخاذ القرار المناسب لها. وأخذا في الاعتبار الجاهزية والاستعداد للمواجهة إلا أن ملكة سبأ كان لها رأي أخر وأخذت القرار بإرسال هدية لسليمان عليه السلام والدخول في تفاوض معه وهذا ما رفضه سليمان بالطبع. ولكن دلالة هذه القصة في موضوعنا، إن صاحب السلطة التنفيذية عليه أن يستشير وله بعد ذلك أن يأخذ برأي المستشارين أو أن يأخذ بغيره ويتخذ في النهاية ما يراه من قرار ويتحمل مسئولية نتائجه.

ويتبين مما سبق موقف الفقه الإداري الإسلامي من قضية العلاقة بين السلطة التنفيذية والسلطة الاستشارية باعتبار أن السلطة الاستشارية ليس لها حق إلزام السلطة التنفيذية بما تراه من أراء وما تقترحه من حلول في حين أن السلطة التنفيذية لها حق تكليف السلطة الاستشارية بمدها بالمعلومات والبيانات والدراسات التي تلزمها في المواقف الإدارية المختلفة. وهذه هي العلاقة المنطقية التي تتمشى مع مبادئ التنظيم الإداري السليم، وذلك راجع إلى ما يلي:

<!--أن إعطاء السلطة الاستشارية حق الزام السلطة التنفيذية برأيها فإن هذا يعنى في الواقع أنها تحولت إلى سلطة تنفيذية تشترك في اتخاذ القرار وإصداره ولم تعد جهة استشارية] وهذا في حد ذاته يتعارض مع مبدأ وحدة الأمر، ولا يتماشى مع مبدأ وحدة مركز اتخاذ القرار.

<!--أصحاب السلطة التنفيذية هم وحدهم الذين تقع عليهم المسئولية عن نتائج الأعمال] فلزم منطقياً أن يكونوا هم وحدهم الذين لهم حق إصدار القرارات حيث إن هناك خطورة في أن يكون للسلطة الاستشارية حق إلزام السلطة التنفيذية بتنفيذ قرار معين لا تتحمل فيه السلطة الاستشارية مسئولية النتائج المترتبة على اتخاذ القرار، بحيث يمكن أن تكون في موقع من يحكم ولا يسأل بينما السلطة التنفيذية تكون في موقع من يسأل ولا يحكم.

ومن كل ما سبق يمكن أن يقال أن الفقه الإداري المعاصر جاء متمشيا مع الفكر الإسلامي فيما يتعلق بمسألة العلاقة بين السلطتين التنفيذية والاستشارية.

غير أنه يجب أن نشير إلى إن الفكر الإسلامي قد عزز منطقية العلاقة بين السلطة الاستشارية والسلطة التنفيذية بما يشكل عبقريته في هذا المجال ويميزه عن الفكر الوضعي المعاصر، فالعلاقة التي يقررها الفكر الوضعي بين السلطتين تركت مرسلة دون ضوابط أو التزامات تقع على الجهة الاستشارية وبالتالي فهناك قصور واضح في هذا الصدد حيث تعمل السلطة الاستشارية على هواها طالما أنها لا تتحمل أي مسئولية عن نتائج القرارات والأعمال خصوصا إذا ما كان هناك سوء نية نتيجة للضعف البشري أو العلاقات الشخصية.

و من هنا فقد حرص المنهج الإسلامي [الذي يضع ضوابط التطبيق الحسن لأي  مبدأ من المبادئ]. على أن يعالج هذه المسألة على النحو الذي يحمل كل جانب مسئوليته الخاصة به.

فالهدى القرآني العام واضح في ذلك حينما يدعو إلى الترابط الأخوي بين أعضاء الجماعة الإسلامية حينما يقول عز من قائل: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾. [آل عمران : ١٠٣]. ويحذرنا من سوء مغبة التنازع في قوله تبارك وتعالى: ﴿ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾. [الأنفال : 41]. وقوله تعالى ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾. [التوبة : ١٠٥].

أما في السنة النبوية ففيها الكثير الذي يوضح أهمية مسئولية المستشار عن الإخلاص والأمانة في عمله حيث يقول الرسول الكريم: في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله . ﷺ ." المسلم أخو المسلم، لا يخونه، ولا يكذبه، ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام عرضه وماله ودمه، التقوى ها هنا، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم."

كما يقول: فعن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله ﷺ: " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ". ويقول . ﷺ . كما في صحيح الإمام الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ " الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالبُنيَانِ يشد بَعْضُهُ بَعْضا ". كما يأمر الرسول الكريم بإبداء الرأي عند طلبه وتقديم ويقول أيضاً في الحديث الشريف: " كلكم راع وكلكم مسئول عَنْ رَعِيهِ فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُل رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مسئول عن رعيته".

 كما يأمر الرسول الكريم بإبداء الرأي عند طلبه وتقديم المشورة على أكمل وجه وبأمانه كاملة دون تحيز أو مجاملة عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ . ﷺ . " إذَا اسْتَشَارَ أحَدُكُمْ أخَاهُ فَليشِر عليْهِ" . والمستشار مؤتمن وبالتالي فالمستشار مكلف عقديا بأن يبذل كامل جهده وخبرته في تقديم المشورة الجيدة التي تؤدى إلى اتخاذ القرارات السليمة من وجهة نظر الصالح العام والصالح الفردي، وهذا ما لا يتوافر للفكر الإداري الذي لا يلتزم بالمبادئ والتوجيهات الإسلامية

ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 56 مشاهدة

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,704,350

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters