كثيرا ما يرد التعبير عن هذا المبدأ بـ السلطة التنفيذية والسلطة الاستشارية حيث نجد في التنظيم الإداري الحديث نوعين من السلطة وهما السلطة التنفيذية والسلطة الاستشارية» وعادة ما يتم الجمع بينهما فيما يسمى التنظيم الخطي أو التنظيم التنفيذي الاستشاري».
وقد سبق أن أوضحنا أن رجال السلطة التنفيذية هم رجال الإدارة الذين لهم وحدهم حق إصدار القرارات والسلطة التنفيذية هي ذلك النوع من العلاقة الأمرة التي يزاول الرئيس بها سيطرة مباشرة على المرؤوسين أما السلطة الاستشارية فهي علاقة استشارية في طبيعتها وليس لها الحق في إصدار قرارات، ومن ثم فهي ثانوية مساعدة في طبيعتها بالنسبة للسلطة التنفيذية.
ولا يمكن أن تظهر بمفردها في التنظيم دون وجود الهيئة دون وجود الهيئة الاستشارية التي هي الأساس في المشروع وتعتمد على الهيئة الاستشارية في مدها بالدراسات والأبحاث والاستشارات اللازمة لمعاونتها في اتخاذ القرارات الصائبة والفعالة بما يحقق الهدف المنشود ولأصحاب السلطة التنفيذية حق قبول أو رفض أراء ومقترحات الاستشاريين وذلك لسبب أساسي هو أن مسئولية نتائج العمل تقع على عاتق المديرين التنفيذيين [أصحاب السلطة التنفيذية وحدهم].
ونحن إذ نثير قضية العلاقة بين السلطة التنفيذية والسلطة الاستشارية فإما نؤكد أهمية الدور الذي تلعبه السلطة الاستشارية في التنظيم، والذي يعترف به الفكر الإداري المعاصر حيث تنشأ عنها علاقات إدارية تقوم فيها بواحد أو بأكثر من العمليات الآتية:
<!--جمع المعلومات وتبويبها وتلخيصها وتوزيعها
<!--التوصية بأساليب عمل أو مناقشة أساليب عمل وإبداء الرأي فيها
<!--تجهيز التعليمات والبرامج الأزمة لخطة معينة وشرح هذه التعليم والبرامج
<!--اقتراحات جديدة أو تعديلات على مخططات تحت التنفيذ
<!--تنمية المعلومات بين مستويات المنظمة المختلفة ونشرها وتطوير وسائل توصيلها]
<!--خلق التعاطف على السياسات الإدارية بين العاملين في المنظمة وتوجيها إلى أحسن سبل التنفيذ المتاحة لهم.
وإذا كان هذا هو دور السلطة الاستشارية في التنظيم في الفكر الإداري المعاصر، فإن ما يهمنا أن نبحثه هو مدى إلمام الفكر الإسلامي بمضمون هذا بمفهومها العلمي الحديث، ومدى أهمية الدور الذي تؤديه للتنظيم الإداري وذلك ما سوف يتضح من خلال تعرضنا لهذه النقطة.
والواقع أن فكرة الاستشارة لم تكن جديدة على المجتمع الإسلامي في مفهومها والعمل بها وذلك أننا لو تتبعنا الجذور التاريخية لهذه الفكر فسوف نجد أنها كانت موجودة ومعمولا بها في المجتمع العربي قبل الإسلام وهذا ما يشير إليه بعض الباحثين، حيث كانت حكومة القبيلة ديمقراطية وسلطة شيخها سلطة أبوية مشوبة بالعطف والحب، وكان يجتمع من حين لآخر لرؤساء العشائر وهم الذين كان يتألف منهم شبه مجلس شيوخ القبيلة، للتشاور والفصل في الأمور المهمة كإعلان لعرب أو إقرار السلام أو الشئون التي تخص نظام القبيلة، وبذلك قامت عند العرب فكرة الشورى قبل الإسلام.
وماذا إذن في الإسلام عن هذا المبدأ وإلى أي حد ذهب في الأخذ به؟ وما هو تفسيره له؟
يمكن القول بأن هذا المبدأ وهو ما يعبر عنه الفكر الإداري المعاصر بالسلطة [الاستشارية] هذا المبدأ من المبادئ التي استقرت في الفكر الإسلامي بشكل اتفاقي بين فقهاء الإسلام ، وهذا المبدأ ليس مخصوصاً به الحاكم أو رئيس الدولة] وإنما مبدأ يتميز بالشمولية ومقصود به أي قائد إداري في إدارة وتصريف شئون منظمته كما يستفاد ذلك من التوجيه العام، وعدم التخصيص في النصوص المستدل بها عليه.
<!--مصادر تقرير السلطة الاستشارية في الإسلام
وتأتي في مقدمة الأدلة التي يستدل بها على تقرير مبدأ الاستشارة آيتان شهيرتان
الأولى: قوله تعالى في وصف المؤمنين المتوكلين ﴿ وأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾. [الشورى : ۳۸].
الثانية: قوله تعالى مخاطباً رسوله ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ [آل عمران: ١٥٩].
وقد قيل إن الله أمر بها نبيه ليتألف قلوب أصحابه وليقتدي به من بعده وليستخرج منهم الرأي فيما لم ينزل فيه الوحي من أمر الحروب والأمور الجزئية وغير ذلك ، فغيره ﷺ أولى بالمشورة به.
ومن ذلك يتبين شمول الأمر في أعمال هذا المبدأ وانسحابه على كل ولي أمر من الأمور في ممارسته لعمله الإداري فتوجيه الأمر بالاستشارة من الله تبارك وتعالى لنبيه لم يرد بصفته . ﷺ . حاكما أو رئيسا ولمجرد هذه الصفة السياسية فقط، وإنما ورد أيضا لتعلقه هو وإدارة وتصريف شئون الأمة في السلم والحرب بشكل فعال. وضرورة وأهمية الاستشارة لسلامة اتخاذ القرارات الإدارية المختلفة في مجال وضع الخطط والسياسات والإجراءات والتنظيمات. الخ.
وبهذا الفهم المستقيم للنص القرآني وهو فهم لا يحتاج إلى تأويل يتضح أن القرآن الكريم قد وضع أساساً عريضا لقاعدة «الاستشارة» في الإسلام، وقدم للفكر الإداري مبدأ عاما وشاملا في العمل الإداري، تاركا لكل مجال ممارسة الأسلوب التطبيقي الذي يتفق مع ظروفه الخاصة في حدود هذا المبدأ العام والدليل على تقرير هذا المبدأ يمكن أيضا أن نستمده من السنة المطهرة قد روى عن أبي هريرة أنه قال: لم يكن أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله . ﷺ . وروي عن الرسول أنه قال " ما ندم من استشار ولا خاب من استخار".
و الواقع إن كتب التاريخ والتفسير والحديث زاخرة بالأمثلة الدالة على أن الرسول كان يكثر مشورة أصحابه والسنة العملية بهذا الشكل فضلا عن أنها في حد ذاتها مصدر تشريعي في هذه المسألة فقد كانت تطبيقاً رائداً لأوامر القرآن في الشوري.
فقد أنشأ الرسول . ﷺ . مجلسا للشورى يتكون من أربعة عشر نفرا اختارهم من بين أهل الرأي والبصيرة ممن يشهد لهم بالعقل والفضل وأبانوا قوة الإيمان وكفاية في بث دعوة الإيمان وكان المجلس بهذا التشكيل يشمل جميع التخصصات ﴿ فاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنبياء : ٧]. فلنتحدث مع أولي العلم والمعرفة في الأمور التي نجهلها وهذا يعني أننا يجب أن نسأل ونتحدث مع الخبراء وأهل العلم في المسائل التي لا نعرف عنها شيئًا، وأن نتحلى بالتواضع والاستماع لما يقولونه، وأن نعتمد على خبرتهم ومعرفتهم في اتخاذ القرارات والتصرفات الصحيحة.
فاستشيروا أهل العلم في المسائل المختلفة وهذا يعني أنه يجب علينا أن نستشير أهل العلم والخبرة في الأمور التي تحتاج إلى تحليل وفهم عميق، وأن نتعلم من تجاربهم ومعرفتهم، وأن نتحلى بالحكمة والصبر في اتخاذ القرارات الصائبة.
بالإضافة الى التوكل على الله والاستعانة بالعلم والحكمة وهذا يعني أننا يجب أن نعتمد على الله تعالى في جميع أمورنا، وأن نستخدم العلم والحكمة في اتخاذ القرارات والتصرفات الصحيحة.
وقوله تعالى ﴿ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾. [فاطر : ١٤]، وقوله تعالى: ﴿ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ﴾ [الفرقان : ٥٩].
تبين لنا فيما سبق أن القرآن والسنة قد قررا مبدأ هاما من مبادئ التنظيم الإداري هو "مبدأ الاستشارة" وهو المبدأ الذي يجسد السلطة الاستشارية بالمفهوم العلمي لها لدي فقهاء الإدارة والمعاصرين بين الوجوب والندب.
ويثور الجدل بين فقهاء الإسلام حول وجوب أو ندب المشورة وبعبارة أخرى، هل يشترط الأخذ بهذا المبدأ [الاستشارة] ويعد ذلك واجبا على القائد الإداري؟؟ أم ان ذلك شيء مستحسن فقط وغير واجب وملزم؟؟
وقد انقسم رأي الفقه الإسلامي إلى رأيين حول الاستشارة] رأي يري وجوبها وأخر يرى أنها سنة مندوبة على أن الرأي الراجح - والذي نميل إليه - هو أن الاستشارة تعد واجباً مفروضاً وأن الأمر الوارد فيها إنما هو على سبيل الوجوب لا الندب حيث إن الخطاب الموجه من الله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم باللجوء إلى الشورى قد جاء بصيغة الأمر إذ قال تعالى: ﴿ وَشَاوِرُهُم في الأمر ﴾. [آل عمران: ١٥٩]. فقد كانت سادات العرب كما يقول القرطبي، إذا لم يشاوروا في الأمر شق عليهم، فأمر الله نبيه أن يشاورهم في الأمر فإن ذلك أعطف لهم وأذهب لأضغانهم وأطيب لنفوسهم.
كذلك قد عرف عن رسول الله كثرة التجائه الى الاستشارة كما تقدم وكذلك كان كل من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والمشهور عن عمر كما تروى كتب السنة انه لم يبرم أمرا دون مشورة المسلمين ولهذا فإننا نجد أن عددا غير قليل من علماء هذا العصر يرون وجوب الشورى [الاستشارة] وفي مقدمة هؤلاء الإمام محمد عبده والشيخ عبد الوهاب خلاف والأستاذ عبد القادر عودة".
وتأسيساً على ذلك يمكن القول بأن الفكر الإسلامي قد أدرك تماماً أهمية الاستشارة في صحة وسلامة اتخاذ القرار الإداري في كل المجالات الدينية والدنيوية تلك الأهمية التي وصل بها لدرجة إلزام أولى الأمر من الرؤساء والقادة الإداريين باستخدامها في أدائهم لعملهم.