من الواضح تماما أن قوى "الثورة المضادة" -إن كان هناك ثمة من يمكن تسميتهم بذلك- قد نجحت سريعا وبلا مقاومة تذكر، بل وبمساعدة مجانية تقدم إليهم وبمنتهى حسن النية من البعض، في تحقيق هدف هام جدا بالنسبة لهم، ألا وهو صناعة الفرقة والتشرذم والوقيعة والفتنة وتفتيت لحمة أبناء الوطن الواحد، وهي الصناعة التي طالما أجادوها واستخدموها في التمكين لأنفسهم وإطالة عمر بقائهم في السلطة.
وبرأيي المتواضع أن البداية الحقيقية لهذه الفتنة بدأت مع حالة الاستقطاب الحاد الذي غلب –وبلا سبب موضوعي- على مشهد الاستفتاء على تعديلات 19 مارس الدستورية، الذي رأيت فيه في حينه فخا دستوريا وسياسيا وقع فيه بسهولة المجتمع بأسره، سواء منهم من قال "نعم" ومن قالوا "لا". فلقد استبدل شركاء الوطن بكل أسف -وفي أول اختبار عملي حقيقي لوعي الثورة- الروح العالية التي حكمت برقي وبنبل ممارساتهم أيام الثورة، والتي التقى فيها الغني مع الفقير، والمثقف مع البسيط، والمسلم مع المسيحي، على حب الوطن والتسامي فوق ذوات الأفراد والمصالح الضيقة للأحزاب والجماعات، استبدلوها بمشهد عبثي لا يسعد به إلا أعداء الوطن والثورة، مشهد يتلاسن فيه الجميع ويتبادلون الاتهامات ويتراشقون بالمصطلحات ويتنابذون بالألقاب، فهذا مسلم وهذا مسيحي، وهذا إخواني وهذا سلفي، وهذا صوفي وهذا جهادي، وهذا علماني وهذا ليبرالي، وهذا نخبوي وهذا شعبوي، وهذا مدني وهذا عسكري، ناسين عفوا أو متناسين عمدا أن الثورة لم تنجح بعد في تحقيق أهم أهدافها، ألا وهو وضع أسس سليمة لبناء الدولة المدنية الحديثة، وها نحن أولاء أصبحنا نتصرف كصياد أحمق ينشغل بالتفكير في سلخ الدب قبل صيده، أو كمهندس أخرق يخطط لتسيير القطار قبل أن يقوم بتثبيت القضبان.
وبالرغم من أنني لا أميل بصفة عامة إلى نظرية المؤامرة، إلا أنني لا أتفهم وجهة نظر من يروجون لبديل التعجيل بإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية، بغض النظر عن مدى جاهزية المجتمع ككل وقواه الشبابية والسياسية المستجدة والناشئة في مرحلة ما بعد 25 يناير واستعدادها لخوض معترك المنافسة السياسية في مناخ صحي داعم للتعددية ومعزز للممارسة الديمقراطية، وفي ظل تكافؤ حقيقي –وليس شكلي أو هزيل أو هزلي- في الفرص. ولا أدري حقا هل هذا الذي يحدث هو ترتيب متقن من قوى "الثورة المضادة" أم أنه من وساوس الشياطين التي تغرينا بما يفسد علينا أمرنا. فبالرغم من أن الإنجازات التي حققتها الثورة كانت ضخمة بكل المقاييس كما ونوعا وعمقا، إلا أنه ما زال أمام الثوار الأطهار العديد من التحديات التي تتطلب التوحد حولها وتستلزم الاصطفاف من خلفها. وكلي ثقة في يقظة المصريين جميعا لما يمكن أن يحاك ضد ثورتهم من مؤامرات ولما يمكن أن ينزلق أو يستدرج إليه البعض من صفقات سياسية ومن مقايضات، وكلي ثقة أيضا في نصر الله لهذا الشعب الصابر الأمين. ولله المنة من قبل ومن بعد، وله سبحانه الحمد في كل حين.
ساحة النقاش