نظرات

موقع اجتماعي سياسي و تربوي ونفسي يهتم بالطفل وتربيته وقصصه

 

                  أنماط من الشخصيات الرئاسية :

 سوف نستعرض نماذج من الشخصيات الرئاسية لنرى كيف أثرت وتؤثر فينا , وقد يكون فى بعضها تشابها فى بعض الملامح مع شخصيات عامة أو خاصة حقيقية فى الماضى أو فى الحاضر , وهذا ليس مقصودا فلسنا بصدد الحديث عن أشخاص بعينهم مهما كانت أهميتهم , وإنما نتحدث عن ملامح نفسية لنماذج فيها جوانب إيجابية وأخرى سلبية بهدف الوصول إلى رؤية موضوعية متوازنة تجاه أمر يؤثر فى حياتنا اليومية جميعا بشكل مباشر أو غير مباشر , وأنبه القارئ أنه سيغلب علينا الحديث عن المستويات الأعلى للسلطة الأبوية بهدف رؤية النموذج فى أوضح صوره ولكن نرجو ألا نغفل عن بقية مستويات السلطة الممثلة فى الأب ( أو الأم ) وفى مدير المدرسة وإمام المسجد وكاهن الكنيسة ومدير المؤسسة ورئيس مجلس إدارة الشركة والوزير .... الخ  , وذلك حتى لا تختزل رؤيتنا للإصلاح فى مستوى دون آخر :- 

* الزعيم الملهم : وهو شخصية تتمتع بكاريزما شخصية عالية وجاذبية جماهيرية طاغية , وقد جاء هذا الزعيم فى ظروف تاريخية أو سياسية أو اجتماعية خاصة جعلته يستقبل على أنه المنقذ والمخلص والبطل الأسطورى , واستطاع هو أن يتجاوب مع الأحلام والأمنيات والطموحات الشعبية وبذلك أصبح بطلا شعبيا تعامل معه الناس على أنه ملهم يتوجه نحو الصواب دائما ولديه بوصلة خفية وسحرية تهديه الرشد , فهو محق فى كل ما يراه ويقرره ويفعله . وهذا الزعيم يخدمه ويهئ لبروزه مجيئه فى لحظات ضعف وانكسار ثم قدرته على تحقيق بعض الإنتصارات المبهرة للعامة , ومن هنا ينشأ الإعتقاد فى تفرده وإلهامه وتنشأ الرغبة لدى الجماهير الساذجة والمستلبة والسلبية والإعتمادية فى اتباعه والإنقياد لكل ما يراه  , وإضفاء كل صفات البطولة والقدرةالخارقة عليه , وهم يفعلون ذلك بدافع خفى واحتياج نفسى لديهم وهو أن يعفو أنفسهم من مسئوليات التفكير وبذل الجهد والحيرة والقلق والفعل ويلقون بكل شئ على أكتاف بطل أسطورى ملهم وقادر يعرف ماذا يفعل ومتى وأين يفعل , وغالبا ما يقع الزعيم الملهم فى الفخ خاصة وأن سماته الشخصية تكون أقرب للنمط البارانوى ( المتعالى – المستبد ) فتتضخم ذاته أكثر وأكثر ويحكم قبضته على عجلة القيادة ويتخلص من كل من يعارض توجهه أو توجه رعيته ( خاصة أنه شكّاك ضمن طبيعته البارانوية ) , ويتواصل تضخم الذات لدى الزعيم الملهم حتى تبتلع الوطن بأكمله ويصبح هو والوطن شيئا واحدا , بل قد تتجاوز الذات حدود الوطن الضيق فتحاول التمدد خارج هذه الحدود فى آفاق أوسع من خلال محاولات ( أو مغامرات ) التوسع تحت أى دعوى و وشيئا فشيئا يصبح الزعيم نموذجا للبطولة لدى كل المقهورين والمظلومين فى العالم ويصبح أبا روحيا لكل الساعين إلى التحرر .

والزعيم الملهم غالبا ما يتصف بالطلعة المهيبة وارتفاع القامة وقوة البنيان ولمعة العينين وعمق النظرة وحسن الملبس , فهو يمثل صورة البطل التى يرى فيها البسطاء أنفسهم . وهوقادر على مخاطبة الجماهير بصوته الجهورى العميق ونبرته الحماسية التى توقظ بداخلهم الإحساس بالكرامة واحترام الذات وتنتشلهم من حالة اليأس والإنبطاح والإستذلال والخوف من الأعداء . والخطاب الجماهيرى الحماسى من ضرورات وجود الزعيم الملهم خاصة وسط جماهير تزيد فيها نسبة الأمية وتعلى من قيمة الكلمة المسموعة وتشكل اللغة أحد أهم دعائم وجودها التاريخى . وصمت الزعيم لا يقل بلاغة وتأثيرا عن كلامه بل  يزيده سحرا وغموضا لذيذا لدى الجماهير . وهو يبدى حبا عاما للجماهير التى رفعته وترفعه على أعناقها ومع ذلك فهو غير قادر على حب أحد من الناس بشكل شخصى وذلك بسبب تشككه فى ولاء من حوله وتوقعه الغدر والخيانة فى أى لحظة ومن أى إنسان , ولذلك تجده كثيرا ما يتخلص من المحيطين به أو يستبعدهم عند أى بادرة شك فى ولائهم ( حتى ولو كانوا من أقرب الناس إليه أو ممن ساعدوه على ارتقاء السلطة ) , وتعرفه حين يتكلم فيأخذ وضع العظمة والكبرياء وتصدر منه الكلمات وكأنها كلمات مأثورة أو حكم خالدة يتناقلها الرواة عبر الأزمان , وربما يوحى هو لتابعيه أو يتطوعون هم دون إيحاء بكتابة أقواله وآراءه على الكتب المدرسية والكراسات وعلى الجدران والصفحات الرئيسية فى الصحف والمجلات , وتبدأ نشرات الأخبار بأقواله وأفعاله وتحركاته  , وتملأ صوره وتماثيله الشوارع والميادين والبيوت والقلوب  .

والزعيم بما له من فعل السحر فى الجماهير وإيقاظ مشاعر الكرامة الوطنية عندهم ورفع صورة الذات لديهم وإنقاذهم من الهزيمة النفسية التى يعيشونها أو عاشوها فى مراحل الإنكسار فإنه ربما يأخذهم بعيدا عن أرض الواقع فتنتابهم نشوة الإنتصار ولا يلتفتون إلى ما يجرى على أرض الواقع , ويزيد من خطورة هذا الموقف شعورهم الطاغى بأن الزعيم أسطورة لا تهزم وأنه قادر على تحقيق كل شئ لهم بقوته الذاتية وبكلمات سحرية منه , وإذا حاول الزعيم فى لحظة صدق تمر به أن يعيد الجماهير إلى رشدها فإن الجماهير ترفض ذلك وربما تعلن غضبها وتؤثر الإستمرار فى الحلم اللذيذ على العودة إلى الواقع المؤلم , ويجد الزعيم نفسه مضطرا لمجاراة الجماهير فى حلمها اللذيذ وهذا يؤكد ما يقال من أن شخصية الزعيم تأسر الجماهير ثم ما تلبث أن تصبح هى أسيرة للجماهير .

ولا بد من توافر سمات خلقية للزعيم مثل الشجاعة والإخلاص والحب الشديد للوطن والإيمان العميق بقدراته الشخصية وقدرات وطنه وقدرات شعبه وحبه الأصيل لكل هؤلاء , وأن يكون نظيف اليد واللسان , متواضعا فى شموخ وكبرياء , حالما يتجاوز حلمه قيود الواقع المعاش , ولديه إحساس مرهف بالجماهير التى تحبه , وهو حريص على الإستجابة لتلك المشاعر والتفاعل معها طول الوقت , وهو إذ يفعل ذلك يفعله بصدق فى الأغلب حيث أنه منتميا إلى أهله وناسه وفخورا بذلك الإنتماء وخاصة للبسطاء منهم , ولذلك نجده متسقا مع معتقداتهم وثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم وصورة البطل عندهم , ويسعى لإرساء العدل الإجتماعى لصالح الفئات المعدومة . والزعيم قادر بحكم كاريزميته وصفاته وكلماته على انتشال الجماهير من مشاعر التخاذل والهزيمة واليأس والإنبهار بالعدو والتشكيك فى القدرات الذاتية , ثم تحريك الساكن والكامن من طاقاتهم وشعورهم الإيجابى بذاتهم وكرامتهم واستعلائهم . وفى هذه الظروف تفقد الجماهير قدرتها على التفكير النقدى الموضوعى العقلانى وتسلم نفسها للأمانى والأحلام فتبتعد شيئا فشيئا ( هى والزعيم ) عن الواقع .  

وفى قمة لحظات انتفاخ الذات ( الشخصية للزعيم والوطنية للجماهير ) وتمددها وفى قمة الإنبهار والإستلاب والسحر لدى التابعين النائمين المخدوعين السذج يحدث الإنهيار عند أول اختبار حقيقى على أرض الواقع وهنا تهتز الأرض من تحت أقدام الجميع ( الزعيم الملهم والجماهير الساذجة المخدوعة المستلبة ) وربما يبحثون عن تفسير أو تبرير يعطيهم مزيدا من الوقت والحلم ولكن إن آجلا أو عاجلا يختفى الزعيم الملهم ( بالموت أو بغيره ) فيخرج أبناءه أو رعاياه اليتامى يبكونه ويبكون يتمهم وضياعهم , وما أن يفيقوا حتى يبحثوا عن أب جديد وزعيم جديد يقودهم فى دورة ( أو دورات ) جديدة من القيادة والإنقياد .

* المعجبانى : هذا نمط مختلف فى شكله وفى مضمونه , وإن كان لا يختلف فى نهاياته , فالأب أو المدير أو الرئيس المعجبانى لديه ميول نرجسية عالية فهو شديد الإحساس بذاته وشديد الإعجاب بها وربما يدفعه ذلك للعمل على أن يكون فى موضع الصدارة لتتحقق له فرضية أنه الأقوى والأجمل والأجدر والأقدر. وهو يمشى كالطاووس مهتما جدا بشياكته وأناقته وصحته وصورته لدى الآخرين , ويجرى توحدا بينه وبين زعماء التاريخ ورموزه العظام , وربما يتقمصهم فى مشيته أو طريقة كلامه أو بروفيلات صوره وتماثيله أو فى عصا يحملها فى يده . والمعجبانى لايرى ولا يحب إلا نفسه , ويتحدث كثيرا عن ماضيه وعن طفولته وعن نشأته وتطور شخصيته وكفاحه وبطولاته وتضحياته . والمعجبانى يهتم كثيرا بتسجيل كل مراحل ولحظات حياته الشخصية ( بالصوت والصورة ) فهى فى رأيه جزء من التاريخ الوطنى بل جزء من التاريخ الإنسانى العظيم  , ويهتم اهتماما خاصا بالإحتفال بعيد ميلاده أو عيد توليه وأعياد انتصاراته (وهى كثيرة ) ويعتبرها أياما تاريخية يحبس التاريخ أنفاسه عندها إجلالا وهيبة ورهبة . والمعجبانى لا يحتمل النقد أبدا لأنه يعتبر نفسه كبير العائلة والأب المقدس والرمز والدلالة , ولذلك يهتم جدا بالتزام طقوس الأدب والإحترام من جانب الرعية والرعايا تجاه شخصه العظيم , وإذا تجرأ الناس على نقده سعى فى تأديبهم وربما استصدر قوانين تحرم وتجرم العيب فى ذاته ( مع أن الأنبياء عليهم السلام لم يمنعوا الناس من نقدهم والإختلاف معهم رغم مكانتهم عند الله وعند الناس) . والمعجبانى يبالغ كثيرا فى مظاهر الملك والأبهة والعظمة والسلطنة بدءا من مظهره الشخصى وأناقته وشياكته وطريقة كلامه الدرامية الإستعراضية مرورا بقصوره واستراحاته واحتفالاته ومهرجانات انتصاراته التاريخية .

والمعجبانى يسعى دائما للإبهار فيتخذ من القرارات ما يجعل الجميع فى حالة دهشة وانبهار , وربما يميل إلى المفاجآت والصدمات والتحولات المسرحية , وكل هذا يجعل المتابعين له يحبسون أنفاسهم دهشة أو إعجابا أو خوفا أو انبهارا , وهذا ما يحتاجه المعجبانى . وهو مولع بالشعارات والكلام الكبير فيصدر منها الكثير , ويجعل لكل فترة شعاراتها وعناوينها الضخمة لأن كل فترة هى بمثابة مرحلة تاريخية أو منعطف تاريخى هام وخطير  يقف الخلق جميعا ينظرون إليه وإلى حكمته البالغة . والمعجبانى يسعى لأن يتوحد الوطن بشخصه العظيم ( لا أن يتوحد هو به ) ويطلق على نفسه أوصافا تاريخية أو دينية تلحقه بالخالدين .

وبما أن المعجبانى مشغول بحب نفسه عن حب الآخرين لذلك لاتجد له محبون من رعاياه على الرغم من انبهارهم واستغرابهم وربما تأييدهم , وهم يضيقون به رغم ما يحققه لهم من إنجازات وكأنهم يضيقون بذاته المتمددة التى ضيقت عليهم مساحة وجودهم وضيقت عليهم أنفاسهم , لذلك يغضبون ويتمنون الخلاص منه , وإذا حدث ذلك تنفسوا الصعداء ولم يكلفوا أنفسهم عناء وداعه وكأنهم يعلمون ولعه بالأبهة والمظاهر فيريدون أن يحرمونه من هذه الأشياء فى آخر عهده بالدنيا .

الموظف:  والرئيس الموظف هنا يقوم بدور المدير وهو يكون قد وصل إلى هذه المكانة بغير ترتيب أو سعى وإنما لعبت الظروف دورا هاما فى وصوله , فلم تكن طموحاته تصل إلى ذلك ولم يكن هو معدا لنفسه للقيام بهذا الدور فلم يكن له فى حياته أى اهتمام بالسياسة بل كان يمقتها ويعتبرها من قبيل اللف والدوران والمراوغات , ومع هذا يقبل القيام به كأى موظف يقبل التكليف بعمل فى نطاق وظيفته , ولذلك يبدأ متواضعا بعيدا عن أبهة الرياسة والحكم , ويقبل بالأوضاع القائمة ويسعى لثباتها وترسيخها مستفيدا فى ذلك من اللوائح والقوانين التى وضعها الأسلاف , إذ ليست لديه رؤى أو أهدافا أو استراتيجيات جديدة , ولذلك يحاول طول الوقت التركيز على الهياكل الوظيفية والإجراءات الشكلية , ويهتم اهتماما وسواسيا ملحا بالإجراءات والضوابط واللوائح التى تضمن الإستقرار والثبات والذى يصل إلى حالة الجمود . وبما أنه موظف فهو يحافظ على " أكل عيشه " لذلك لا يميل إلى المغامرات أو المخاطرات أو الهزات , فالمهم عنده أن تمر الأيام دون مشكلات , وكل حركة لديه مشكلة تهدد الإستقرار وتعكر الصفو العام , لذلك لا يطيق المطالبون بالحركة والتغيير ويعتبرهم أعداءا للإستقرار وأعداءا للوطن وأعداءا له هو شخصيا لأنهم يكدرون صفوه واستقراره واستمراره , وشعاره دائما

" استقرار الإستمرار واستمرار الإستقرار " . والموظف لا يملك رؤى استراتيجية أو تاريخية أو ثقافية أو حضارية , بل إن هذه الكلمات تضايقه وتؤرقه ويعتبرها تقعرا وتفلسفا من جانب قلة غير واقعية يتحدثون حديثا عاطفيا غير موضوعى , أما هو فلا يتحدث إلا عن الواقع اليومى الذى يعيشه بين مرؤسيه للحفاظ على لقمة عيشه وعيشهم , فهو يسعى إلى انضباط الأمور بكل الوسائل ويحاول أن يقود السفينة دون أى اهتزازات , ولذلك يفضل القيادة بجانب الشاطئ دائما . وهو على الرغم من ادعاءاته بالثبات وعدم الخوف وعدم التأثر بالأحداث وطمأنينته السطحية لصواب قراراته وارتياحه المبالغ فيه لحالة الإستقرار السائدة واستهانته بكل ما يحيط به من تحركات وأخطار , إلا أن هذا كله يعكس حالة عميقة من الخوف الداخلى وانعدام الأمان ,تلك الحالة التى تدفعه بلا وعى إلى التمسك بالوضع القائم والتمسك بالثبات الجامد والمتجمد  لأن الحركة تحمل تهديدات لا يحتملها والجديد بالنسبة له يحمل رعبا لا يطيقه . والموظف يسلك سلوكا تقليديا عسكريا فيطلب الطاعة المطلقة من مرؤسيه فى حين يخضع هو لمن فوقه . وطوحات الموظف ليست كبيرة فهو يرضى دائما بالأدنى وليست له رؤى بعيدة المدى أو سقفا عاليا يصبو إليه , وليس لديه حلم ولا يملك أصلا القدرة على الحلم بل هو يعيش الواقع اليومى بتفاصيله القريبة , أى أنه يعيش فى مستوى الإحتياجات البيولوجية التى وصفها ماسلو وليس لديه اهتماما بالطبقات الأعلى من الإحتياجات فى هرم ماسلو الشهير مثل الحب والتقدير الإجتماعى وتحقيق الذات وغيرها , وبالتالى ليس لديه اهتمام بالنواحى الثقافية أو الجمالية أو الحضارية , ويشعر بالمقت تجاه المثقفين والمفكرين والفنانين , ويعتبرهم أقرب إلى مهرجى السيرك , وينظر إليهم على أنهم واهمون حالمون غير واقعيين لأنهم لا يرون الحقيقة وتستغرقهم الأوهام والأحلام الفارغة , أما هو فيهتم باللحظة الحاضرة ويسعى لتحسين أحوال الناس المعيشية ويحقق (أو يريد أن يحقق نتائج ملموسة على أرض الواقع ) , وهو يتجنب الدخول فى المخاطرات التى يدعوه معارضوه إليها لأنه يدرك مالا يدركوه من تأثير ذلك على تابعيه , فهو يخطط على المستوى التكتيكى القريب من حياة الناس اليومية واحتياجاتهم القريبة قصيرة الأمد , ويركز على النتائج الملموسة , وهو يسترشد فى قراراته بالأرقام والمعلومات والحسابات ولا يخرج عن التعاليم واللوائح والتعليمات , ويختار تابعيه على أساس الكفاءة فى التنفيذ وثقته فى ولائهم ولا يتوقع منهم تخطيطا أو إبداعا فهو يمقت الإبداع ولا يريد من سكرتاريته إلا الإتباع وتنفيذ الأوامر بدقة , ويستخدم معايير الثواب والعقاب لضبط مرؤوسيه ولتحقيق أهدافه , وهو لا ينظر إليهم باعتبارهم بشرا أكفاءا لهم القدرة على الإبداع والإضافة والحذف والتغيير وأنهم موارد وطاقات بشرية يمكن تنميتها وتطويرها ولكن ينظر إليهم على أنهم مجرد أشياء لتنفيذ برامج أو احتياجات أو إجراءات معينة , ولذلك لا يهتم بأشخاصهم أو تاريخهم أو مشاعرهم أو مشكلاتهم ولا يرتبط بأى منهم بصداقة أو علاقة إنسانية بل ينساهم فور انتهائهم من أداء مهامهم ,فهم فى نظره غير جديرين بالصداقة أو العلاقة الإنسانية , ولذلك تجد علاقاته سطحية ووقتية وفاترة , ولا تجد له تاريخا من البشر , وهو لا يتحدث عن تاريخه الشخصى كحياة إنسانية حافلة بالصداقات والعلاقات والمؤثرات الإنسانية , وإنما إذا تحدث عن تاريخه فإنه يتحدث عنه من خلال المهام التى أتم إنجازها طبقا للأوامر والتعليمات .

والموظف يكره الأحلام والأمنيات ويحتقرها ويحتقر من يتمسك بها ويعتبره ساذجا غريرا غافلا لذلك فهو يسعى لتكريس الأمر الواقع والقبول به , وهو إذ يفعل ذلك يثبط الهمم باسم التعقل ويقيد الحركة باسم التروى ويخنق الأفكار ويقتل الأحلام باسم الموضوعية , ويضحى بالإرادة والكرامة للأقوى باسم الواقعية والحفاظ على الحياة وأكل العيش .

وقد يتسم الموظف ببعض السمات الوسواسية فيصبح مدققا وعنيدا لا يقبل رأيا آخر ولا يتنازل عن شئ مهما صغر ويتمسك بالشكل دون الجوهر , ويعتقد أن الآخرين ليسوا جديرين بالثقة لأنهم لايقومون بالتنفيذ كما يجب لذلك نراه حريصا على عمل كل شئ بنفسه ومتابعة كل شئ بنفسه حتى لو توقفت الأمور وتعطلت مصالح الناس , وعلى الرغم من عدم تعبيره عن مشاعره العدوانية بشكل صريح إلا أن عناده يكشف عن عدوانيته الكامنة بداخله .

وهو لايميل إلى التميز أو التجديد بل يحب أن تسير الأمور فى مسارات عادية , فهو شخصية عادية , بل ومفرط فى عاديته . وأصعب لحظة فى حياة الموظف هى خروجه للمعاش , لذلك يحاول بكل الطرق أن يستمر فى منصبه لأطول فترة ممكنة وربما للأبد لأن حياته بدون الوظيفة لاتساوى شيئا ولا تطاق , فليس لديه أية اهتمامات أو هوايات أو أى شئ له معنى خارج إطار الوظيفة الرسمية .

المبدع المشوه : وفى هذا النموذج نجد أن ذات الطفل نشطة وتتمثل فى حالة من المرح والدعابة مع ميل إلى الإبداع المشوه فنجده يعلن أفكارا تبدو جديدة أو مبتكرة أو صادمة أو غريبة وكأنها صادرة من فنان أو مفكر بوهيمى أو فيلسوف منقطع الصلة بالواقع اليومى , والأخطر من ذلك أن هذه الأفكار والتوجهات الغريبة والشاذة تتحول إلى نظام للحكم وفلسفة للإدارة وإطارا للتفكير ولا يجرؤ أحد على مناقشة هذه الأفكار أو تفنيدها , بل يوجه أصحاب الفكر جهودهم فى تفسير وتحليل وتبرير آراء وأقوال وأفكار الزعيم المفكر المبدع المشوه المتناقض , وهذا النموذج يحير من يراه أويتابع سلوكياته فهو تارة شديد الوطنية والثورية والتقدمية وتارة أخرى مستسلما ومهادنا وخاضعا , وتارة تراه شديد الإهتمام بمظهره فيلبس ثيابا عسكرية مليئة بالنياشين والأوسمة ( كطفل اشترى له أبوه بذلة عسكرية مبالغ فى ترصيعها ) وتارة أخرى تراه يرتدى لباسا بسيطا ويعيش عيشا بسيطا , أو يجمع بين هذا وذاك فى تركيبة غريبة ومتناقضة وأحيانا مضحكة . والمبدع المشوه لا يستطيع أحد توقع قراراته أو ردود أفعاله فكل شئ لديه مفاجئا وغريبا , وهو يشتهر بمغامراته الطفلية الفاشلة والتى ربما يعطيها أبعادا وطنية ويضفى عليها معانى الإنتصار العظيم ( أو يترك تلك المهمة لمريديه وكتابه ومنظريه )  

شيخ القبيلة : وهو يأخذ مشروعيته من عصبية القبيلة أو العائلة , والعلاقة بينه وبين رعيته تقوم على التسليم بقوة العصبية والجذور العائلية , ولقاءاته بهم يغلب عليها تقبيلهم ليده وكتفه ورأسه ثم تناول العشاء والإنصراف مع الدعوات بطول العمر , أو تقديم معروض بهدف الحصول على منحة مالية أو رفع دين أو قطعة أرض صحراوية أو مرعى جبلى . وقد يكون هناك نوع من الشورى لدى الملك أو الأمير ( شيخ القبيلة ) من خلال جلسات مع رؤساء القبائل أو العشائر ولكنها شورى استئناسية غير ملزمة .

العسكرى ( من الشاويش إلى المشير ) : فى العالم العربى ولع بتنصيب العسكريين ( الحاليين أو المتقاعدين ) فى المناصب القيادية والسيادية , فنجد فى كثير من المواقع رتبا عسكرية تبدأ من الشاويش وتنتهى بالمشير مرورا بالعقيد والعميد واللواء والفريق , والسبب فى ذلك هو كثرة القادة العسكريين فى مؤسسات الحكم واعتقادهم بأن الضبط العسكرى هو أهم عوامل النجاح فى إدارة شئون الناس , هذا إضافة إلى عوامل التحيز وضمان الولاء وجوائز نهاية الخدمة . والعقلية العسكرية – رغم احترامنا وتقديرنا الشديد لها فى موضعها – تتميز بالإلتزام الحرفى بتنفيذ التعليمات والمهام دون نقاش , وهى لا ترى الإحتمالات المختلفة والتباينات فى السلوك اليومى المدنى للناس ولا تحتمل الغموض ولا تدرك أهمية الحوار والإختلاف وتوظيف ذلك للمصلحة العامة فالإختلاف لديها خيانة وطنية والمخالفون أو المعارضون خونة مثيرون للقلاقل والإضطرابات لذلك يبالغون فى الضبط والربط والقهر , ويميلون للرؤية الأحادية , وهذا يؤدى إلى مشكلات كثيرة فى الحياة المدنية التى تحتاج لرؤى متعددة واحتمال الغموض والخلاف واحترام أصحاب الآراء المعارضة . والمشكلة تكبر وتعظم إذا كان العسكرى على رأس السلطة فهنا تحدث إشكاليات كثيرة سببها أن هذا الشخص قد تربى خلال سنوات طويلة من حياته على أحادية الرأى وأحادية الرؤية وعلى الإلتزام بتنفيذ التعليمات , وهاهو الآن يحكم فئات متباينة ويعيش الحياة السياسية ( التى لم يتعود عليها ولم يتربى فى أحضانها ) بغموضها وتناقضاتها وتعددية مستوياتها واحتاجاتها للمرونة والمواءمة , ففرق كبير بين عقلية السياسى وعقلية العسكرى وكل منهم ميسر لما خلق له وهو موفق ومطلوب فى مكانه ولكن المشكلة تأتى من اختلاط الأدوار وتداخلها .

المستقطب : وهو الأب المنحاز إلى بعض أولاده دون الآخرين أو المدير المنحاز إلى مجموعة من الموظفين يصطفيهم ويميزهم عن باقى زملائهم وربما يسخرهم للتجسس عليهم ومضايقتهم , أو الرئيس الذى ينتمى إلى طائفة أو جماعة أو حزب فينسى أنه رئيس للجميع ويعمل طول الوقت لخدمة جماعته أو طائفته أو حزبه على حساب مصالح بقية الفئات . وهذا الشخص المستقطب يحدث شرخا فى الأسرة أو المؤسسة أو الدولة وينشئ عداوات شديدة فى الوسط الذى يعيش فيه . وإذا كان الإستقطاب على أساس سياسى يصبح المعارضون خونة أما إذا كان على أساس دينى فإن المعارضون فى هذه الحالة يصبحون كفارا .

المستغرب : وهو شديد الإعجاب بالنموذج الغربى لذلك يعيش عليه ويربى أولاده عليه ويصبغ كل من حوله بهذه الصبغة ويراها الأنسب للحياة العصرية , ونجده يحول كل مظاهر الحياة فى نطاق حكمه بالصبغة الغربية لغة وسلوكا ومعمارا وتخطيطا ,  ومع هذا ربما يحتفظ بقشرة بسيطة يعلن بها هويته العربية كالزى الوطنى ( المستورد من الخارج ) .    

الفيلسوف الحالم : وهو لا يستطيع بهذه المواصفات أن يصل بنفسه إلى أى موقع قيادى ولكن الظروف قد تحمله إلى هذا الموقع بحكم القرابة أو الظروف , وهذا الشخص نجده يتحدث طويلا عن مثاليات ومبادئ ومطلقات منقطعة الصلة عن الواقع , وهو معزول غالبا عن حركة الحياة الطبيعية حيث تعود أن يعيش فى برج عادى يرى العالم منه كما يحب أن يراه , ويوافقه المحيطون به على ما يراه خوفا أو طمعا . وضعف الفيلسوف الحالم يستغله بعض المحيطون به فيحركونه كما يريدون مع إيهامه بملكية زمام الحكمة والحكم.

الوريث : وهو قد ورث الملك أو الرئاسة بفعل القرابة أو العصبية أو الظروف السياسية وليس عن كفاءة وكفاح وتاريخ طبيعى فى العمل السياسى , ولذلك يلاحظ تدنيا فى أدائه خاصة عند مواجهة الأزمات الكبرى , وهذا ما أكده ابن خلدون من ضعف الجيل الثانى والثالث من الملوك , وربما يكون هذا أحد أسباب التحول فى المجتمعات البشرية مع رقيها من النظام الملكى إلى النظام الرئاسى واعتبار النظام الملكى أو التوريث نكوصا بالمجتمع إلى مراحل أكثر بدائية وتخلفا . والوريث بما أنه ورث السلطة دون جهد فإنه يميل لأن يكون مستهلكا للثروة لا صانعا لها فيميل إلى حياة الترف والدعة خاصة وأنه قد تربى عليها منذ صغره , ولا يحتمل رأيا آخر لأنه عاش طول حياته يعامل كأمير فى جو يتسم بالطاعة المطلقة من خادميه والمحيطين به مع تلبية لكل رغباته , ويضاف إلى ذلك غربته واغترابه عن المحكومين الذين لا يعرفهم إلا من صورهم فى وسائل الإعلام , ومن باب أولى لم يخالطهم ولم يعش حياتهم , بل هو محاط طول الوقت بطبقة سميكة من الحراس والخدم يعزلونه عن الشعب  . والوريث غالبا ما يحكم بالوكالة بمعنى أنه يعتمد على أفراد آخرين من أصدقائه أو المقربين له ممن يعتقد فى قدرتهم على فهم الشعب وإدارة الأمور , وهؤلاء يقومون بمعظم المهام بالنيابة عنه ويملون عليه ما يحقق مصالحهم هم , وبما أنه لا يدرى عن حقيقة القاعدة الشعبية شيئا بحكم ظروف نشأته فهو يسلم لهم إما استسهالا أو عدم معرفة بحقيقة الأمور , وفى كل الأحوال هو يشعر أنه يريد أن يستمتع بما ورثه من عظيم ثروة وأبهة سلطان .   

ونظرا لكثرة احتمالات المشكلات الشخصية لدى القادة والحكام الذين يمارسون حكما فرديا وأثر ذلك على شعوبهم بل وعلى العالم كله أحيانا لذلك ظهر اقتراح فى الجمعية العالمية للطب النفسى بمتابعة الحالة النفسية للرؤساء والزعماء على مستوى العالم ( خاصة المعمرون والمستبدون منهم ) حتى لا تحدث كوارث إنسانية بسبب تحكم شخص مضطرب أو مشوه أو مستبد فى مصير ملايين البشر . 

المصدر: الاستاذ الدكتور محمد المهدي ‘ن مقال ( شخصية الزعيم )
  • Currently 45/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
15 تصويتات / 567 مشاهدة
نشرت فى 10 مايو 2011 بواسطة nazrat

ساحة النقاش

محمدمسعدالبرديسي

nazrat
( نظرات ) موقع إجتماعي يشغله هم المجتمع سياسيا وتربويا بداية من الاسرة الى الارحام من جد وعم وخال الى آخره , الاهتمام السياسي أساسه الدين النصيحة و يهتم بالثقافةبألوانها ويعد الجانب النفسي والاهتمام به محور هام في الموقع كذلك الاهتمام بالطفل ثقافة وصحة »

ماذا تود البحث عنه ؟

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

645,625

مصر بخير

                         
* الشكر واجب للسيد العقيد هشام سمير  بجوازات التحرير , متميز في معاملة الجمهور على أي شاكلة ..

* تحية للمهندس المصري محمد محمد عبدالنبي بشركة المياه