الشيخ محمد الحرقان شيخ الكتّاب في زمانه (<!--)
فتى عاش يبني المجد تسعين حِجة** وكان إلى الخيراتِ والمجد يرتقي
الله سبحانه وتعالي يهب لمن يشاء من عباده طول العمر والتوفيق لتعليم الناشئة لحفظ كلام الله العزيز الحكيم تلاوة وحفظاً، وفي الحديث الشريف: "خيركم من تعلم القرآن وعلّمه" ويعتبر الشيخ – المطوع – محمد بن عبدالله الحرقان الذي ولد في مدينة حريملاء في طليعة الأقدمين من المقرئين الذين منَّ الله عليهم وشرفهم بخدمة كتاب الله المطهر، وأطولهم مكثاً في تعليم وتربية الشباب الصغار بحريملاء لعقود طويلة من الزمن قبل وجود المدارس النظامية، وقد نفع الله به وبعلمه، فقد بدأ حياته العلمية بتدريس القرآن الكريم وحفظه مجوّداً عن ظهر قلب، ثم تولى التدريس بمدرسة العجاجي منذ عام 1335هـ بعد الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن سوداء حتى افتتحت أول مدرسة نظامية ابتدائية عام 1369هـ، واستمر بعد افتتاحها فترة قصيرة، ثم عين مدرساً بها، ونظراً لكبر سنه طلب التقاعد، ثم انتقل إلى مدينة الرياض إلى أن توفي في 1/10/1380هـ - تغمده الله بواسع رحمته - وقد تخرج على يديه أفواج عبر السنين الطويلة، منهم نخبة طيبة من العلماء والقضاة والسفراء، ومَن هم بمنزلة الوزراء نذكر على سبيل المثال سماحة الشيخ ناصر بن حمد الراشد، والشيخ عبدالله بن ناصر بن عمار، والشيخ سعود بن عبدالعزيز الدغيثر
-رحمهم الله -، والشيخ عبدالعزيز بن محمد الداود متعه الله بالصحة والعافية وأخويه سعد وحمد، وحمد بن عبدالرحمن المبارك- رحمهم الله -، بل ومعظم أبناء أسرة آل مبارك أمراء البلد في تلك الأزمان لقرب محلتهم من مقر المدرسة.. وغيرهم كثير.. ، ومعذرة لمن لم نستحضر ذكر اسمه، كما أن المجال لا يسمح بالإطالة..، فمدرسته - آنذاك -بمنزلة الجامعة حيث خرّجت عشرات الطلاب من حفظة القرآن الكريم ومن الكتاب الذين تسنموا مناصب عالية.. في كثير من المواقع داخل الوطن وخارجه..، وكان مشهوراً بالجد والحزم، مُلزماً لهم بالكتابة على الألواح الخشبية ليسهل عليهم حفظ السور والآيات الكريمة، مع التحسين لخطوطهم، وإذا حفظوا ما كتبوه أمرهم بمسح اللوح وكتابة آيات مرة أخرى، وهكذا حتى يختموا كلام الله، فهو شخص مهيب لدى تلاميذه يوجه طرف عصاه رجفاً إلى صدر المهمل حتى يستلقي على الأرض – أحياناً – مُتبعاً ذلك بهذه الكلمة المعهودة عنه "احفظ جعلك النزع..!! " أي الموت -رحمه الله، وإذا صدر من أحدهم إساءة إلى زميله أو تكرر غيابه عن المدرسة بدون عذر مقبول، فحينئذ يأمر بإحضار (الفلكة)المعروفة لدى الكسالى من الطلبة القدامى، فتوضع برجليه فوق الكعب – كأنها كلبشة مرور – ثم يرفعهما اثنان من الطلبة فيحصل له عدد من الضربات الخفيفة بالمسطعة..، وهذا نوع من العقوبة عند معلمي الكتّاب..،
فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً ** فليقس أحياناً على من يرحمُ
وكان ولي أمر الطالب المهمل حينما يُحضر أبنه للمدرسة يقول للمعلم على مسمع من أبنه: (ترى لك الجلد ولنا العظم..!) وهذا ضرب من التربية على ما فيها من رائحة القسوة، وكان عادات أهالي مدينة حريملاء ومن ماثلهم إذا ختم أبنهم القرآن الكريم يبتهجون فرحاً ويقيمون له شبه حفل، حيث يختار والد الطالب أحد الرجال الأقوياء ليحمل أبنه على كتفه مرخياً ساقيه على جنب حامله، فيدور به في أحياء البلد في وسط هالة من زملائه وهم يرددون في فرح بعض الأهازيج والأناشيد: خاتمين جزء عم والثلاثين.. خاتمين جزء عم والثلاثين.. بأصوات عالية، والأمهات ينظرن مع شرفات ونوافذ منازلهن تلك المشاهد الجميلة، بعد ذلك يميلون إلى دار زميلهم الصبي المتفوق وقد أعد لهم وجبة طعام شهي من (الجريش) وقد صب فوقه وابل من السمن البري الطبيعي وهو أفضل وألذ زاد قديماً وحديثاً، ثم يعطى حامل زميلهم ما تيسر من النقود القليلة أو الاكتفاء بتناول تلك الوجبة، وهذا من العادات التشجيعية التي تدفع الطلاب للتنافس في الحصول على قصب السبق في ذاك المضمار الديني..، أما "المطوع" فيهدى إلية كسوة: ثوب وغترة ومبلغ من المال يرضيه حسب حال والد الصبي المادية..، وهكذا حياة وعادات أوائلنا من الآباء بل ومن بعض الأمهات في تكريمهن لمعلمات بناتهن داخل مدرستهن..، وقد تضطر إلى بيع حليها لتدفعه بنفس راضية إلى المعلمة، فجو حريملاء جو علم وتكريم لحفظة القرآن الكريم حالياً وماضياً، فأبو عبدالرحمن الشيخ محمد بن حرقان يمتاز بتلاوة القرآن مجوداً بعيداً عن اللحن بسليقته وفطرته السليمة فجزاه المولى خير الجزاء، وهذه العجالة جزء من سيرته العطرة وذكر محاسنه.
وغداً توفى النفوس ماعملت ** ويحصد الزارعون ما زرعوا
تغمده الله بواسع رحمته.
رحم الله الجوهرة الوشيقري كريمة السجايا (<!--)
ومازلتُ أرمى كُلّ يومٍ بعبرةٍ ** تكاد لها صُمُّ الجبالِ تصدَّعُ
لاشك أن الموت حق ومشترك بين الخلق كلهم، حيث كتبه المولى جل ذكره على كل كائن حي بدون استثناء، ويبقى وجه ربنا ذو الجلال والإكرام، ولكن طبع الإنسان يتألم كثيراً حينما يفاجأ بفقد من يعز عليه فراقه من والدين وإخوة وأبناء، بل ومن سائر أسرته ومعارفه..، وهذه من الغرائز التي أودعها الله في نفوس بعض مخلوقاته وفطرهم عليها..، فتتابع رحيل أحبة الإنسان وقعه مؤلم لقلبه وضرباته أكثر إيلاماً، فمنذ شهور قلائل فجعت بفقد شريكة حياتي – أم محمد – مما كان له بالغ الحزن المقيم في نفسي، ثم ما لبث أن لحقت بها صديقتها إبنة أخي محمد والدة أبناء الشيخ/ إبراهيم بن علي العجاجي التي حزنت عليها كثيراً.. (رحمهما الله). وفي عصر يوم الثلاثاء 24/6/1433هـ انضمت إليهن صديقتها الأخرى الأخت الفاضلة الجوهرة بنت محمد الوشيقري جدة أبناء نجلي الأكبر محمد، أم الأخ الفاضل عبدالعزيز بن محمد بن ناصر الجماز (رحمها الله) ولقد حزن الكثير على رحيلها لما تتمتع به من مكانة عالية خلقاً وأدباً رفيعاً وتواضعاً جماً مع الكبير والصغير، وتعتبر من فضليات النساء كرماً وعطفاً على المساكين والأيتام، فهي ندية الكف تنفق سراً وجهراً ابتغاء مرضاة الله، وصديقة للأطفال يفرحون بالقرب منها ليسمعوا بعض القصص وأحاديث الأوائل التي تفيدهم في قابل أيام حياتهم، وتحثهم على حفظ ما تيسر من قصار السور والآيات الكريمة حسب مقدرتهم واستيعابهم لحفظها، وترغيبهم في اداء الصلوات ليعتادوا على أدائها اذا كبروا..، ولا تنسى أن تشجعهم وتمنحهم ببعض الهدايا المحببة لنفوسهم، كما أن أبناءها البررة لم يدخروا وسعاً في إسعادها وفي وضع المال بين يديها تنفق منه كيفما تشاء، ولاسيما في شهر الخير شهر رمضان المبارك ومواسم الحج وغير ذلك من الأوقات.. كما لا أنسى مواساتها لي في وفاة عقيلتي أم محمد، وفي وفاة ابنة أخي محمد والدة الأستاذ عبدالعزيز العجاجي..، وفاء منها رغم ما كانت تعانيه من أمراض مؤلمة..، ولا يسعني الآن عبر هذه الكلمة الوجيزة إلا أن أدعو لها من قلبي بأن يحسن الله وفادتها، ويعلي منزلها بدار النعيم جزاء ما قدمته من أعمال صالحة، وما أتصفت به من صفات حميدة، وإخلاص في العبادة، فهي كثيرة الصيام حتى في مواسم شدة الحر، مُديمة الصلوات في جوف الليل وحتى قبيل الفجر..، ولقد أجاد الشاعر أبو فراس الحمداني راثياً أمه حيث يقول:
ليبكيكِ كل يوم صمت فيه ** مصابرةً وقد حمي الهجيرُ
يبكيكِ كل ليل قمت فيه ** إلى أن يبتـــدي الفجر المنيرُ
وكان منزلها العامر محظناً دافئاً دائماً لأبنائها وبناتها وأقاربها وأطفالهم..، ولاسيما في أواخر كل أسبوع ليتضاعف حضورهم فيمسي جوهم جواً عائلياً يسوده الود والغبطة بمشاهدة عميدة الأسرة والدتهم، والإنصات إلى حديثها وتوجيهاتها السديدة لحديثي السن بنين وبنات ليكونوا قدوة صالحة ومثالاً يحتذى بهم في طاعة الله، واحترام الوالدين والإخوة، بل وجميع أفراد الأسرة وغيرهم من أبناء المجتمع..، فمجلسها بمنزلة المنتدى العائلي، وفي الآونة الخيرة أشتد بها المرض – يرحمها الله – فأخذ أبناؤها البررة يتنقلون بها من مصح الى مصح آخر، بل إنهم أتجهوا بها الى احدى المستشفيات الراقية بأوروبا علّهم يجدون ما يكبح جماح مرضها فأعيتهم الحيل، ثم عادوا الى أرض الوطن ليستأنفوا مواصلة علاجها الى أن تعذر جسمها الطاهر عن قبول أي دواء، فظلت تكابد ماحلّ بها من أمراض حتى أنتهى نصيبها من أيام الدنيا:
وإذا المنية أنشبت اظفارها ** الفيت كل "حيلةٍ " لاتنفع!
-رحمها الله رحمة واسعة -، ولقد حز في نفسي عدم حضوري لأداء الصلاة عليها والمشاركة في موارات جثمانها الطاهر بمقبرة أم الحمام بالرياض لأجراء عملية خفيفة بإحدى عيني، ولأن غاب شخص أم عبدالعزيز في باطن الأرض عن انظار أسرتها ومحبيها فإن ذكرها الطيب لا يأفل ولا يغيب -تغمدها المولى بواسع رحمته ورضاه-وألهم ذويها وأبناءها وبناتها وأخاها عبدالعزيز، وشقيقتيها ووالد أبنائها الشيخ محمد بن ناصر الجماز ومحبيها الصبر والسلوان.
رحم الله كريمة الشمائل أم عبدالرحمن الشدي (<!--)
لها منزل تحت الثرى وعهدتها **** لها منزل بين الجوانح والقلب
نعم الموت حق وآت لا محالة إلى كل كائن حي مهما تطاول به الزمن وأٌعطي فسحة من العمر، ويبقى وجه ربنا ذو الجلال والإكرام، فجادة الموت عامرة بقوافل الراحلين ليلاً ونهاراً إلى اليوم الموعود يوم الدين"يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم" الآية. فالسعيد من يرحل من هذه الدنيا بزاد من التقى، فكل يوم يتجدد حزننا فيه عند توديع كل غال وغالية، ولا يزال حادي الموت وراء كل حي، ففي الأشهر القليلة الماضية من هذا العام افتقدنا ستاً من فضليات النساء لهن مكانة عالية في قلوبنا أحدث غيابهن أثراً مؤلما يطول مداه في نفوسنا وبين جوانحنا، وهذا يذكرنا بقول القائل:
ولم أر مثلهم هلكوا جميعاً **** ولم أرى مثل هذا العام عاما
تغمدهن المولى بواسع رحمته – ففي يوم الأثنين أومأ شعوب بأن أيام الأخت الكريمة الفاضلة طرفة بنت حمد بن صقيه قد انتهت من الدنيا تماماً بعد معاناة من أمراض عدة وبعد رحلة طويلة عامرة بالطاعة وبالسيرة الحسنة، وحب البذل في أوجه البر والإحسان إلى الفقراء والأيتام، وبذل المعروف لذوي القربى والجيران، ولقد حزن الكثير على رحيلها حزناً عميقاً لمكانتها العالية في قلوب أسرتها ومحبيها، وكأن لسان حال أبنائها وبناتها وشقيقها ابراهيم يرددون معنى هذا البيت تحسراً وتفجعاً على غيابها وخلو دارها من شخصها:
حياتك كانت لي نعيماً وغبطةً **** وموتك عاد الصدر منه حطاما
ولقد بدأت حياتها منذ طفولتها بتلاوة القرآن الكريم وحفظ ما تيسر منه على أحدى معلمات القرآن الكريم بحريملاء، أذكر جيداً أني أثناء مروري على الحي الذي تسكنهُ عائلتها أنا ومجموعة من الأطفال لطلب العيدية من ربات البيوت قبل العيد بيوم أو يومين، فرأيتها وقد كبرت جالسة على عتبة درج بيتهم وفي يدها مصحف ورقه أصفر، ويعلم الله أني لا أزال ذاكراً ذاك رغم تقادم الزمن، ويقال أنها احتفظت به طيل حياتها:
وياظل الشباب وكنت تندى **** على أفياء سرحتك السلام
ومن الصدف الجميلة أنها قد اقترنت بابن عمتي منيرة الشيخ محمد بن عبدالمحسن الشدي – رحمهم الله – الواقع منزله مجاورا لمنزل والدي، فعاشت مع والدتي سنوات جميلة تحفها أجنحة الغبطة والمسرات، حتى أنهن قد اصطحبن إلى الحج لأداء فريضتهن على الجمال برفقة زوجها محمد (أبو عبدالرحمن) ووالدتي مع أخي محمد - رحم الله الجميع – ويقال أن المدة الزمنية في الوصول إلى مكة المكرمة والعودة منها تقارب الشهرين بالنسبة للقادمين من نجد ومن منطقة الرياض..، وقد خلفت ذرية صالحة بنين وبنات ساروا على نهجها محبين للبذل في أوجه البر والإحسان للأيتام والأرامل، والمساهمات في الجمعيات الخيرية التي تُعنى بحفظة القرآن الكريم وذوي الحاجات الخاصة والعامة، وبإكرام الضيف والعاني ومساعدة المقبلين على الزواج.. وبعدما تقدم بها العمر انقطعت للعبادة، والصيام في المواسم المفضلة والحج، والعمرة في أشهر رمضان يكون بصحبتها أبناءها وبناتها البررة، فيختار لها ابنها البار عبدالله (أبو أحمد) أقرب الأماكن المتاخمة للحرم الشريف مزوداً لها ما تحتاج إليه من مال وفير لإنفاقه على الضعفة والمساكين على اختلاف جنسياتهم – رحمها الله – وأجزل لهم الآجر والمثوبة، ولي معها ذكريات زمن طفولتي جميله لا تغيب عن خاطري مدى العمر حيث كنت ادخل عليها في منزلها وقت إحضار العشاء بعد صلاة العصر في بعض الأيام لعلمي بحلو طعامهم وخاصة المرقوق، فترحب بي لتناوله معها، ولم تكتف بذلك بل انها تدفعه في جانبي بيدها الطاهرة، وإذا رأت علي علامات الخجل، قالت كل يا (عزيز) ترى دارنا مثل دراكم، ولم يزل تذكر تلك اللحظات الحانية التي اعتبرها من اغلى ذكرياتي وأحلى أيام طفولتي، فاستمر التواصل معها والسؤال عن حالها على مدى العقود المتتابعة الى ان تعطلت لغة الكلام معها بسبب تدهور صحتها، ثم غيابها عن الدنيا حميدة ايامها ولياليها، حيث أديت صلاة الميت عليها بعد صلاة مغرب يوم الاثنين 14/7/1433هـ بجامع الملك خالد بأم الحمام، ثم تبعها خلق كثير الى مضجعها بمقبرة (مشرفة) بمحافظة حريملاء داعين المولى بأن يتغمدها بواسع رحمته ومغفرته، ومما أثار شجون الكثير من المشيعين مشاهدتهم أبناءها وشقيقها إبراهيم يكفكفون دموعهم ويدافعون عبراتهم، وهم يهيلون الترب لموارات جثمانها الطاهر على قبرها، وبداخلهم ما به من تحسر ولوعات الفراق الأبدي لأقرب إنسانة الى قلوبهم – كان الله في عونهم -ولسان حال أولئك الأبناء يرددون معنى هذا البيت:
سلام على قبر غدا طيب الثرى *** سأبكي وأستبكي عليه غماما
رحمها الله وأسكنها فسيح جناته، وألهم ذويها وأبناءها وبناتها وشقيقها ومحبيها الصبر والسلوان.
رحم الله العم محمد بن عبدالعزيز الخريف (<!--)
وإنما المرء حديث بعده ** فكن حديثاً حسناً لمن وعى
من الناس من يكون لهم في نفوس محبيهم آثارا طيبة، وذكرى خالدة – إذا غابوا عن الوجود – يجددها كر الليالي والأزمان فالسعيد من تلذّ الأسماع لذكره إذا استعرضت سيرته العطرة وعدت مواقفه المشرفة – حسب مكانته العلمية والاجتماعية، وبإنعام المولى عليه بحسن الخلق، والبسط في الرزق والإنفاق منه في أوجه البر وصلة الرحم، وإكرام الضيف، فهذه الصفات الحميدة مجتمعة تتجلى في شخص العم الفاضل محمد بن عبدالعزيز الذي رحل عن الدنيا منذ عقود من الزمن أي في الخامس أو الرابع من شهر محرم عام 1383هـ رحمه الله – بعد حياة طويلة حافلة بالعطاء وبالسماحة وطيب المعشر ، ولقد يعز علي أن يصدر الجزء الثاني من المراثي ولم يكن ضمن من نورّه من الراحلين البالغ عددهم الآن ما يربو على السبعين - رحمهم الله -فأفضال العم علي عظيمة لا أنساها مدى عمري ، فهو الذي غير مجرى حياتي مُبكراً من الأعمال المهنية البدنية ...إلى طلب العلم استجابة لرغبة والديّ الملحة - رحمهم الله رحمة واسعة – حيث أشار علي أن أنظم إلى حلق تلقي العلم بمسجد الشيخ محمد بدخنة في الرياض لدى سماحة مفتي الديار السعودية – آنذاك – الشيخ محمد بن إبراهيم ، وعلى فضيلة الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم ، وأنه سيصرف لي إعانة شهرية أتقوى بها على مواصلة تلقي العلم ، فلم أرى بداً من الاستجابة لمشورته – يرحمه الله – فبقيت لدى المشايخ عامي 69-1370هـ وبعدما أخذت نصيباً من مبادئ في العلم وحفظ عدد من المتون مثل : كتاب التوحيد ، ومتن العقيدة الواسطية ، وجزء من كتاب كشف الشبهات ، ومتن الأجرومية في النحو ..، شخصت مع بعض الأخوة إلى الطائف فالتحقت بدار التوحيد – أم المدارس آنذاك – عامي 71-1372هـ ثم انتقلت إلى المعهد العلمي بالرياض عام 1373هـ مواصلاً الدراسة بكلية اللغة العربية حتى حصلت على الشهادة العالية عام 1378هـ حامداً المولى أن أعانني على مواصلة دراستي ، فكنت من الدفعة الثانية من نفس الكلية .
ولقد ولد العم محمد بن عبدالعزيز بن ناصر الخريف في مدينة حريملاء في 1308هـ ، وعند بلوغه السابعة من عمره ألحقه والده بإحدى الكتاب لتعلم الخط وحفظ القرآن الكريم، بعد ذلك أخذ يحضر دروس العلم التي تقرأ في المساجد فنمى لدية حب العلم ، ثم رحل إلى الرياض مع بعض أقرانه لتلقي العلم على عدد من العلماء والمشايخ .. فلازمهم فترة من الزمن ، فحصل على نصيب من العلم وحفظ بعض المتون المعروفة في التوحيد والعقيدة الواسطية ،وغير ذلك من المتون والنصوص ..، وقد تحمل الغربة عن أهله بالرياض لينهل من موارد العلوم العذبة ، رغم مشاغله بالإشراف على فلاحتهم هو وشقيقيه – الأعمام – حمد وعبدالرحمن – رحمهم الله جميعاً – بعد ذلك عاد إلى بلده حريملاء ، ثم اخذ يعاود والدنا العالم الجليل الشيخ عبدالرحمن بن محمد الخريف في أوقات فراغه ليتلو عليه القرآن الكريم غيباً عن ظهر قلب ، وليستفيدا منه مُجوداً ، ويناقشه في بعض العلوم التي لها صلة بالعقيدة والمسائل الفقهية ، فالوالد – يرحمه الله – يعتبر مرجعاً لبعض العلماء والمبتدئين في علم التجويد وسائر الفنون الشرعية واللغوية بصفة عامة .
وكان العم محمد صاحب طاعة وعبادة غيور على دينه ، وعلى شباب بلده ، فأخذ هو وبعض المتطوعين المحتسبين يقومون بالمناصحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والسير داخل البلد وفي أطرافها ليلاً وذلك مجرد جولات للاطمئنان وإلا فالبلد بحمد الله لا يوجد بها شيء يحتاج إلى الاحتراس أو القلق حتى في عصرنا الحاضر كل ذلك تطوعاً قبل وجود مراكز لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعندما صدر الأمر السامي في تلك الحقبة الزمنية البعيدة مُوجهاً لفضيلة الشيخ عمر بن حسن آل الشيخ الرئيس العام للهيئات بمدينة الرياض بإنشاء مراكز للهيئات خارج مدينة الرياض ، فأخذ فضيلته يقوم بجولات إلى بعض البلدان المتاخمة للرياض بدأً بحريملاء ، فأجتمع بقاضيها -آنذاك – فضيلة الشيخ عبدالرحمن بن سعد فرُشِحَ رئيساً للهيئة وأختار عدداً من الأعضاء ، وفي طليعتهم العم محمد، وظل يزاول عمله بكل نشاط وإخلاص ولين في تعامله، حتى أنتقل إلى الدار الباقية في 5/محرم/1383هـ مأسوفاً على رحيله وغيابه عن أنظار أسرته ومحبيه، وكان هو وأخويه الكريمين مقصدا للضيوف في زمنهم شأنهم شأن من ماثلهم من الأخيار، ولا سيما أصحاب الفلاحة لتوفر التمور والعيش لديهم، ولوجود الأعلاف من برسيم وقصب وحشائش أخرى لإطعام مطاياهم ودوابهم التي تحملهم وتحمل أمتعتهم، فالضيف لا يرتاح حتى تكرم دابته وسيلة ركوبه، بل الأكثر منهم يأتون مشيا على الأقدام حتى يصلوا إلى ما يريدون..، فمعظمهم يؤتون من بلدان سدير والوشم، ومن الجهات المجاورة أثناء مرورهم عبر حريملاء متجهين صوب مدينة الرياض لقضاء حوائجهم، أو للعمل في مزارع النخيل كثيرة العدد المحيطة بالرياض وبجوانبه، أو للأعمال الحرفية كالبناء مثلا ، وفي ذلك مصدر رزق من يعمل لعدم توفر وظائف في تلك الأزمان وقلة العملة بأيدي الناس..، فرغم استمرار تتابعهم في المرور على القرى الكبيرة والصغيرة فإنه يقدم لهم ما تيسر من طعام وقهوة ، ولمواشيهم ما يكفيها من أعلاف، فالأوائل – يرحمهم الله – يُعنَونَ بإكرام الضيف ويؤثرونه على أنفسهم وأطفالهم ولو كان بهم خصاصة ، ومن حسن حظ العم محمد بن عبدالعزيز الخريف أن وفقه الله بزوجة صالحة تقوم بخدمته، وتربي أبناءهم تربية حسنة، وتجهيز الطعام في لحظات متناهية لمن يقصدهم من ضيوف أو عابري سبيل ليلا أو نهارا – رحمهم الله رحمة واسعة – فهي محبوبة لدى جيرانها وفي محيطها الأسري ، عطوف على المحتاجين، وكافلة لعدد من الأيتام، ولقد تربت في بيت علم ودين وهي شقيقة الشيخ المعروف علي بن ابراهيم بن داود – رحم الله الجميع – وكان زوجها العم من خواص الوالد ومن الملازمين له في كثير من الأوقات لحبه ولقرابته ومكانته العلمية، حتى أن الوالد حينما علم باشتداد المرض عليه هم بزيارته رغم ما يعنيه هو من بعض الأمراض المزمنة ، .. فقال العم لا تأتي سنلتقي قريبا، وكأنه قد رأى رؤيا فأحس بدنو أجلهما ، ثم غادر الحياة ، فلم يمضي على ذلك سوى أربعة أيام فقط حتى لحق به والدنا في يوم ثمانية محرم 1383هـ -رحمهم الله -، وكأن الشاعر العربي عناهُما مسلياً من فجع برحيلهما حيث يقول:
تعز فلا إلفين بالعيش متعا *** ولكن لوراد المنون تتابعا
ومن الصدفة أن تجاورا قبريهما ولكن لا تزاور بينهما.
ويحسن بي أن اختم هذه العجالة بهذين البيتين الذين قالتهما أم حكيم في رثاء أبيها عبدالمطلب:
ألا يعيـــنُ جــودي واستهلي *** وبَكّي ذا الندى والمكرمـــــات
وصولا للقرابة ( هَبْرزياً )1 *** وغيثاً في السنين المُمحِلاتِ
- رحمه الله رحمة واسعة –
رحمك الله يا كافلة الأيتام والأجيال (<!--)
سيبقى لها في مضمر القلب و الحشا *** ذخيرة ود يوم تُبلى السرائرُ
من النساء من يبارك المولى في أعمارهن وفي أوقاتهن, ويسهل طرق الخيرات أمامهن فتشرق آفاق السرور بين جوانحهن غبطة وسرورا, تجعل نفوسهن تستعذب كل عمل صالح يستهويها فعله, فيصبح جزءً من حياتها لا تمله, فهذه الصفات الجميلة والسجايا الحميدة من صفات الأم الفاضلة الراحلة منيرة بنت إبراهيم بن علي بن داوود -أم إبراهيم-التي ولدت في عام 1326 هـ -رحمها الله -وقد تربت في بيت علم وأدب بين أحضان والديها, ومع شقيقتها نوره أم أبناء إبراهيم الغدير, ومع شقيقها الشيخ علي الذي استفادت منه ومن علمه لاحقاً عندما كبرت وترعرعت..., ولقد التحقت بإحدى المدارس بتحفيظ القران الكريم لدى إحدى النساء الفضليات في تلك الأزمان, فأكملته وحفظت أجزاء منه, وقد شجعها أخوها الشيخ علي على حفظ متن ثلاثة الأصول وبعض الأحاديث النبوية الشريفة, وجزء من المسائل الفقهية المتعلقة بالطهارة والصيام وأداء الصلوات الخمس, فتكون لديها ثقافة دينيه رغم حداثة سنها, وقد تزوجت العم محمد بن عبدالعزيز بن ناصر الخريف رحم الله الجميع, وعاشت معه حياة سعيدة حياة ودً وتآلف وطيب عشرةً, وحسن تعامل وتعاون بينها وبين حماتيها -زوجتي العمين حمد , وعبدالرحمن -حيث مكثنَ مجتمعات مع أزواجهن في بيت واحد عدد من السنين حتى كبر الأبناء والبنات, ثم استقل كل واحد منهم في منزله وفي مزرعته فأخذت -أم إبراهيم -تضاعف جهدها في العمل معهُ مثل جني الخضار وبعض أنواع الفواكه الموجودة في تلك الأزمان, وتوزعها على بعض الأقرباء ومن يقصدهم من الضعفه والمساكين, فكلاهما ندي كف محب للزوار وللضيوف:
حبيب إلى الزوار غشيان بيته *** جميل المحيآ, شب وهو كريمُ
كما كانت تقوم بمزاولة بعض الأعمال الخاصة بهم مثل حصد البرسيم وسائر الأعلاف لمواشيهم, وحلب الأبقار والموجود من الأغنام.... وغير ذلك من الأعمال التي يسهلُ مزاولتها, شأنها شأن النساء الأوائل في تفانيهن في خدمة أزواجهن وتدبير شؤون منازلهن معتمدات على الله ثم على جهدهن -لعدم وجود خادمات في تلك الحقب البعيدة -فربات البيوت يقمن بجميع متطلباتهن من طحن وطبخ, وخياطة ملابسهن وملابس أزواجهن وجميع أفراد الأسرة, كما أن منزلها -رحمها الله -يعجُ بالزائرات من صديقاتها وقريباتها, بل ومن بعض ذوي الحاجات لما يجدونه من حسن استقبال وترحاب, وعند انصرافهن تمنحهن بما تيسر من منتجات نخلهم ومزارعهم حسب موسم كل صنف: من رطب أو فواكه وخضار, فزوجها العم محمد -يرحمهم الله -لايقل عنها كرما وبذلا لمن يقصدهم من الرجال والضيوف:
نحن للضيف إن هبة شمالُ *** مزعجة يجاوبها صداها
كما أن بيتها بمنزلة العيادة الطبية المتخصصة الناجحة في رفع العظم أو الغضروف المسمى بالعرف العامي بــ (الصقاط) بإحدى أصابعها الطاهرة الذي ينزل قليلاً في سقف لهاة الأطفال الصغار التي تتراوح أعمارهم بين العام والعامين فيشفون بإذن الله, كل ذلك تطوعاً منها, فأنا في صغري وبعض أولادي بنين وبنات قد استفدنا من خبرتها-رحمها الله رحمة واسعة -كما أن بعض النساء يأنسن بقراءتها ونفثها على صدورهن وعلى أطفالهن على مواقع الألم الذي يحسون به مرددة تلاوة بعض الآيات القرآنية: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) الآية, وبعض الأدعية المأثورة, داعية المولى لهن بشفاء العاجل, فهي يرحمها الله معروفة بالصلاح والاستقامة, كما أن الله وفقها وحبب إليها الإحسان وكفالة الأيتام, فقد كفلت أربعة أجيال من أقاربها مع تباعد الزمن بينهم وتقاربه, ولقد أدركتُ وشاهدتُ بعضهم في منزلها وهي تحيطهم بعطفها ورعايتها، وكان آخرهم أبناء ابنتها طرفة الثلاثة وشقيقتهم, وهم الأخوة: الأستاذ محمد, والأستاذ عبدالله، والشيخ عبدالرحمن بن غنام بن محمد الغنام الذي أصبح وكيلاً مساعداً لشؤون الدعوة في وزارة الشؤون الإسلامية. وقد انتقلت إلى رحمة الله عام 1404هـ بعد حياة حافلة بإخلاص العبادة لله، وطيب العشرة مع العم زوجها، وجيرانها وصديقاتها، والبر بوالديها والإحسان للأرامل والأيتام -رحمها الله رحمة واسعة -واسكنها عالي الجنان إنه سميع مجيب وهذه الكلمة الوجيزة وصفا لجزء من سيرتها العطرة ولسان حال أحفادها ومحبيها يرددون معنى هذا البيت:
ياويح نفسي أن كنت في جدث *** دونك فيه التربُ والكفن
معالي الأستاذ سليمان العيسى لاقى وجه ربه(<!--)
حكـــم المنية في البرية جــاري *** مــا هذه الدنيا بدرا قــــرارٍ
بينا يرى الإنسان فيها مخبرا *** حتى يرى خبراً من الأخبار
كثير من بني البشر في هذه الحياة مُغتبطاً بمن حوله من آباء وأبناء وزوجات بل ومن رفاق وجيران، يعيش في رغد من العيش مستمتعاً بأنواع الملذات وأطايب الحياة، وتطمح نفسه دوماً الى المزيد من ذلك، ولم تَدُر بخلده إطلالة شعوب على غرة مؤذنة برحيله على عجل، فالآجال كلها مخفية في ضمير الغيب لا يعلم حلولها إلا رب العباد جل ذكره، فبينما كان الأستاذ الإعلامي الكبير يتجاذب أطراف الحديث في جلسة أنس عائلي إذا بداعي المولى ينتزعه من بينهم، فانقلبت أجواء ذلك المجلس البهيج إلى سحابة حزن عميق تفجعاً على رحيله المفاجئ حيث انتقل إلى -رحمة الله -يوم الجمعة 19/11/1433هـ وقد خيم الحزن على سماء منزله ومنازل أسرته وإخوته فأديت عليه صلاة الميت بعد صلاة مغرب يوم السبت 20/11/1433هـ بالمسجد الحرام بمكة المكرمة، ثم دفن بمقابر العدل هناك.. -تغمده الله بواسع رحمته-وقد تأثر أفراد القسم الإعلامي من زملائه ونظرائه وجميع محبيه على غيابه عن الساحة الأدبية والإعلامية، وعن إطلالته عليهم وعلى سائر الشعب السعودي عبر نافذة وشاشة التلفاز ولا سيما في إعلان الأخبار والقرارات الملكية الهامة الرسمية، ولقد أحسن ولاة الأمر في اختياره مُذيعاً لحسن إلقائه وسلامة منطقة، كما أن الصحافة لها نصيب من مداد قلمه، فكل كتاباته هادفة تتسم بوطنيته، والموضوعات التي تحث على إخلاص العبادة لله، وعلى التآلف والتعاطف بين الأسر وسائر أفراد المجتمع. كما أنه في أحد مقالاته الأخيرة حث على صلة الأرحام والعطف على الأرامل والأيتام والبذل السخي في أوجه كثيرة من أعمال الخير ودعم الجمعيات التي تُعنى بالضعفة والمساكين، والحث على الترحم لمن غابوا عنا ووارتهم التُربُ من والدين وإخوة وسائر المسلمين وكأنها كلمة مودع -رحمة الله-كما أشار إلى التواصل بين الأسر والأصدقاء بالأقدام إن أمكن أو هاتفياً، ولا سيما في مواسم الأعياد ومواساة المحزونين بفقد موتاهم، وعدم الاكتفاء بالرسائل عبر الجوالات لأنها غير مجدية البتة، وتشجع على الجفاء وتناسي حق القربى، فما أشبهها بإشارات التخاطب مع ذوي الاحتياجات الخاصة.. فهو -رحمه الله – كله نصح ومحل تقدير لدى ولاة الأمر ومحبوب لدى أصدقائه ومعارفه وجيرانه، لما يتمتع به من أخلاق عالية وسجايا حسنة، جمع التواضع مع الكبير والصغير، ولقد سعدت بالتعرف عليه منذ ثلاثة عقود في أول لقاء (بالمُقَيبرة) وسط مدينة الرياض قبل إزالة المباني القديمة المحيطة بها فأهديته كتابا نفيساً هو عين الأدب والسياسة وزين الحسب والرياسة لأبي الحسن بن هذيل من أعيان القرن الثامن الهجري ففرح به، فقلت تراه عربون أن تشرفنا في بلدنا فقال أبشر ووعد بالتواصل وزيارتنا في حريملاء، ولكن ظروفه وارتباطاته الكثيرة لم تمكنه بما وعد، فكلما أُقابله على فترات متباعدة يُبدي اعتذاره قائلا لعل الظروف تسمح لزيارة حريملاء.. فمضت السنون، ومضى هو لسبيله بدون أن نراه هناك، فرحمك الله (أبا محمد) وأسكنك فسيح جناته وألهم ذويك وأبناءك ووالدتك الحنون، وزوجتك (أم محمد) ومحبيك الصبر والسلوان –
وكأن لسان حاله يردد قول الدكتور ناصر بن مسفر الزهراني:
ونرجو من الديان عفوا ورحمة *** ولطفاً إذا باتت علينا الصفائحُ
وبيت آخر:
رأيت أخا الدنيا وإن بات آمناً *** على سفرٍ يُسرى بهِ وهو لا يدري
وغاب سمح المحيا الأستاذ/ عبدالعزيز الغفيلي (<!--)
وجه عليه من الحياء سكينة *** ومحبه تجري مع الأنفاس
وإذا أحـــب الله يومــاً عبده *** ألقى عليه محــبة في الناس
من الناس من يبقى ذكرهم الجميل وإن تقادم رحيلهم في قلوب محبيهم وبين جوانحهم مُترحمين عليهم، ومتلذذّين بتذكر أفعالهم الحسان، وسيرهم التي تندى طيباً فواحاً لما خلفوه من آثار محمودة وأفعال جسام بقيت شاهدة لهم مسطّرة في سجل الخالدين ذكراً جميلاً إلى ما شاء الله، فالتاريخ خِزانة آمنه لحفظ ما أودع بها من حسنات وأعمال مشرفة، فالسعيد كل السعادة من تلذ الآذان لسماع ذكرهم الجميل وعن كرمهم وبذلهم المال في أوجه البر والإحسان، وإعراضهم عن مساوئ الناس، فمن أمثال أولئك الأخيار الأستاذ/ الفاضل المربي عبدالعزيز بن محمد العبدالعزيز الغفيلي الذي أحدث غيابه فجوة واسعة في محيطه الأسري وفي الميدان العملي التربوي، ولقد ولد عام 1361هـ بمحافظة الرس إحدى كبريات مدن القصيم، فباكرة اليتم بوفاة والده - رحمه الله - وهو في سن الخامسة من عمره، فعاش في كنف والدته التي تعتبر من فضليات النساء فحرصت عليه وعلى تربيته تربيه صالحه وعاش طفولته في ربوع مدينة الرس بين أترابه ومع بني عمومته وأخواله، ثم ألحقته ببعض مدارس الكتّاب لتعلم مبادئ القراءة والكتابة وحفظ ما تيسر من قصار سور المفصل تهيئة لإلحاقه بالمدارس النظامية ليسهل عليه مسايرة زملائه وهذا هو عين التربية فهي على جانب كبير من الدين القويم والأدب الرفيع مما كان له بالغ الأثر في نفس ابنها أثناء مسيرته العلمية والوظيفية، وكان محل عنايتها وتوجيهه التوجيه السليم مما خفف عنه وطأة اليتم ولوعات الفراق الأبوي، فقد عاش حياته محترماً محبوباً لدى الجميع، فكل ذلك بفضل الله ثم بفضل والدته الحنون، ولقد أجاد الشاعر حيث يقول:
الأم مدرسه إذا أعددتها *** أعددت شعبا طيبا الأعراق
ولقد تلقى تعليمه بالمرحلتين الابتدائية والمتوسطة بمدينة الرس بعد ذلك انتقل للرياض عام 1371هـ ودرس بمعهد المعلمين الابتدائي، ثم أكمل الدراسة بالمعاهد التكميلية بكل جد وتفوق، وكان مثالاً في الهدوء والجد في أداء دروسه والحرص على أن يكون جلوسه في مقدمة الصفوف طيلة المراحل الدراسية فهو محبوب لدى زملائه ومعلميه لما يتحلى به من أخلاق عالية ولا تسمع منه الكلمة النابية مبتعداً عما يشينه ويخل بدينة، ولله در الشاعر محذراً من صحبه قرناء السوء ومجالستهم حيث يقول:
ولا تركن إلى أهل الدنايا *** فإن خلائق السفهاء تعدي
لذا كثر محبيه على اختلاف طبقاتهم ومستوياتهم، وبعد تخرجه تم تعيينه مدرساً بمدرسة المصانع الابتدائية بالرياض عام 1377هــ وأدى مهامه التعليمية فيها بكل جد وإخلاص، ثم انتقل إلى مدرسة أسامة بن زيد الابتدائية عام 1383هـ، وكان يطمح في إكمال دراسته وتطوير مهاراته، فأخذ أكبر عدد ممكن من الدورات النافعة حيث حصل على مجموعة كبيرة من الدورات في تكنولوجيا التعليم..، وكان الهدف منها الرقي بالمستوى التعليمي إلى أعلى مستوياته في هذا الوطن المعطاء، كما كان من الرجال المخلصين والمتفانين في خدمة التعليم وأهله، بعد ذلك تم نقله إلى جهاز وزارة المعارف مديراً لإدارة توجيه الطلاب وإرشادهم عام 1388هـ، وبعدها نقل مديراً لإدارة الوسائل التعليمية، وله عدة مشاركات ومحاضرات دولية وداخلية بهذا الخصوص..، ثم تم نقله إلى إدارة الامتحانات ومكث فيها إلى عام 1413هـ، ثم نقل خدماته إلى المؤسسة العامة للتعليم الفني والتدريب المهني مديراً لإدارة الامتحانات بالمؤسسة حتى عام 1419هـ، وأخيراً تم تعيينه مديراً عاماً للإدارة العامة لشؤون الطلاب حتى وفاته – رحمه الله – بتاريخ 10/3/1420هـ وقد فصلنا في ذكر الأعمال التي تسنمها وتربع عليها بكل جدارة وإخلاص لعلو مكانته في قلوب محبيه، فكل أعماله مشرفة حافلة بالمهارات وبحسن القيادة وطيب المعشر:
دقـــات قلــب المــــرء قائلــة له *** إن الحــياة دقــــائق وثــــوان
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها *** فالذكر للإنسان عمر ثان
فسيرته مع عائلته – أسرة الغفيلي – تتسم بالمتانة وقوة الترابط والتعاطف، فهو مُسَودٌ في قبيلته مسموع الكلمة بآرائه الصائبة وله لمسات من خلال وضع اقتراحات بوضع صندوق خيري يتكفل بالمحتاجين من أفراد الأسرة وقد تم إنشائه حتى وقتنا هذا، كما اقترح بوضع استراحة كبيرة بالرس والرياض للاحتفالات الأسرية ومناسباتهم، وتم ذلك بمتابعته والرجال المخلصين من أفراد أسرته – رحمه الله رحمة واسعة -، كما أن علاقته بجيرانه وأصدقائه علاقة محبة وألفه ولقد وضع لهم دورية أسبوعية لرؤيتهم والاستئناس بهم وبأحاديثهم الشيقة، كما نصب أما منزله بيت شعر كبير لجميع الضيوف كل مساء من الجيران والأصدقاء:
حبيب إلى الزوار غشيان بيته *** جميل المحيا ، شب وهو كريم
أما علاقته مع أبنائه وزوجته فهي علاقة ود ومحبة ومعلماً ناصحاً، ومجالساً لهم ولأصدقائهم، ومصاحباً لهم في رحلاتهم ومشاركاً لهم في أنشطتهم الخلوية الرياضية والأدبية كركوب الخيل مثلاً رغم انشغاله وكثرة مسؤولياته فهو أبُ مثالي – يرحمه الله -ولقد رثاه الصديق الأديب الأستاذ عبدالعزيز بن صالح الرشيد بكلمة ضافية ألمح فيها بشطر من أفضاله وأعماله الجليلة لصحيفة الجزيرة يوم الأحد 13 ربيع الأول عام 1420هـ تحت عنوان (الغفيلي فقيد العلم والوطن) فأبو بسام كاتب معروف وصاحب مبادرات، لا يفوته يوم فيه شرف متعه الله بالصحة والسعادة.
ولنا مع أبو محمد (رحمه الله) ذكريات جميلة، وتبادل الزيارات؛ اذكر أنه أثناء عمله قد زار المدرسة المتوسطة والثانوية بحريملاء موجهاً وكان لين العريكة مع جميع العاملين بالمدرسة بل يكتفي بالإيماءات الخفيفة لعلمه أنها أجدى من بعض الأساليب الأخرى فأسلوبه مع أولئك قمة في الأدب والحنكة، ولقد أجاد الشاعر حيث يقول:
والنفس إن دعيت بالعنف آبية *** وهي ما أمرت بالرفق تأتمر
وعلى أي حال فإن هذه الأسطر الوجيزة لا تفي بحق (أبو محمد) – تغمده الله بواسع رحمته وجمعنا به في دار النعيم المقيم.
ورحل طيب المعشر حمد الناصر (<!--)
نبكي على الدنيا وما من معشر *** جمعتهم الدنيا ولم يتفرقوا !!
جادة الموتى عامرة بمرور الراحلين إلى مضاجعهم منذ الأزل، حتى ينفذ البشر وتضمرهم الأرض جميعا إلى أن يأذن الله بنهوضهم كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداعي ليقفوا ليوم الحساب ثم يتفرقوا فريق إلى الجنة وفريق في السعير، فالسعيد من يأخذ كتابه بيمينه إلى دار النعيم المقيم، فالإنسان المسلم حقا إذا شعر بدنو أجله وظن الظن اليقين أنه ملاق وجه ربه، فإن علامات البشر تطفح على محياه لحسن ظنه بمرضاة الله فيكون من الآمنين من عذابه جل ثناؤه، ففي مساء يوم الاثنين 22/11/1433هـ بعد غروب شمسه انتقل إلى جوار ربه الأخ الفاضل سمح المحيا حمد بن محمد الناصر، وقد صعدت روحه إلى بارئها بعد حياة حافلة بالإخلاص في عبادة الله، وفي أداء أعماله الوظيفية بكل جد وأمانه، ولقد ولد في مدينة حريملاء، ونشأ بها بين أحضان والديه مع أخوته، وتربى تربية صالحة وعند بلوغه السابعة التحق بالمدرسة الابتدائية بحريملاء إبان عملي مديرا لمعهد المعلمين مع إشرافي على المرحلة الابتدائية في أواسط الثمانينيات الهجرية، حيث أن المعهد حل ضيفا على مبنى المدرسة الابتدائية لمدة عشرة أعوام تقريبا حتى تخرج منها إلى المرحلة المتوسطة..، وكان حسن السيرة والخلق مع زملائه ومعلميه، وعندما بلغ السن النظامي تعين بوزارة التجارة كاتبا ومكث بها خمسة أعوام تقريبا، ثم انتقل إلى رئاسة دار الإفتاء وظل يعمل بمكتب سماحة المفتي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز - رحمه الله ، وبعد وفاة الشيخ استمر في عمله بجانب سماحة المفتي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ حتى بلغ سن التقاعد، وكان محبوبا لدى الشيخين لإخلاصه ودماثة خلقه، ثم أخلد إلى الراحة، فأخذ يقضي جل وقته ما بين منزله بالرياض وبين مزرعته في حريملاء الحافلة بأجود أنواع فسائل النخيل، وبالكثير من الأشجار المثمرة، فهي ملتقى لأحبابه ومعارفه وزملائه لكرمه ورحابة صدره، ومتنفس رحب لعائلته، ولاسيما في مواسم الأعياد والعطل، وكان صديقا حميما لشقيقيّ عبدالله وناصر-رحمهم الله -اللذين سبقاه إلى مضاجع الراحلين:
تعز فلا إلفين بالعيش متعا *** ولكن لوراد المنون تتابعا !!
وكنا نزوره أثناء انتدابه في العطلة الصيفية بمنزله في ربوع الطائف، فيبالغ في إكرامنا رغم شروطنا عليه بعدم التكلف، ولكن الكرم من سجاياه المتأصلة -رحمه الله -، وقد أصيب ببعض الأمراض الباطنية في أخريات حياته فأجريت له عمليات داخلية باستئصال بعض الأمعاء، وقد نجحت في بادئ الأمر وفي إثناء مرور طبيبه الجراح ليطمئن على نجاح العملية ولأجل أن يأذن بخروجه إلى منزله مستبشرا على تحسن صحته، وقد ذكر لي أحد أخوته ما قاله الطبيب عن طيب نفس وحسن نية استئصلنا يا أبا محمد من أمعائك ما يقارب متر أو أكثر فوقع هذا الخبر على قلبه كالصاعقة الملتهبة، فعلى إثرها سكت فجأة وألجم على لسانه إلى أن غادر الحياة -رحمه الله -، والحقيقة أن الطبيب لم يوفق بإشعاره بما حصل وخاصة أنه مازال يعاني من عقابيل العملية ولم يدر بخلد الطبيب معنى قول الشاعر المصري حفني ناصف بك:
وعللوهم بآمـــــــال مفرحــــــة *** فطـــالما ســـرت الآمــــال محـــزونا
لــولا الأماني فاضت روحهم جزعا *** من الهموم وأمسى عيشهم هونا
واليأس يحدث في أعضاء صاحبه *** ضعفا ويورث أهل العزم توهينا
وقد أديت عليه صلاة الميت بعد صلاة عصر يوم الثلاثاء 23/11/1433هـ بجامع الملك خالد بالرياض، ثم نقل إلى مهوى رأسه ومرتع صباه بمحافظة حريملاء حيث دفن بمقبرة (صفيه) في جو حزن وأسى مترحمين عليه بأن ينزله المولى منزل الأبرار – تغمده الله �