جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
قصيدة
"ضياء تشرين"
موسى الكسواني
استخدم الحروف بكثرة في النص الأدبي يعطي دلالة إلى أن الكاتب/الشاعر يردنا أن نتفهم الصورة/الحدث/الموضع الذي يطرحه، وكثرة استخدام الحروف يشير إلى الانحياز الشاعر وحبه لما يُراد طرحه، وهنا سيفقد الكاتب/الشاعر شيئا من سيطرته على النص، بحيث يأخذه الموضوع الأدبي بعيدا ويغرق في سرد التفاصيل، لكن الكاتب/الشاعر المتقن لصناعة الأدب بالتأكيد سيمتع القارئ من خلال قدرته على استخدام الصورة الشعرية/الأدبية، ومن خلال سلاسة واللغة، الشاعر "موسى الكسواني" يقدم لنا قصيدة طويلة، سنحاول أن نقف عندها ونرى كيف كان تقديمه لقصيدة "ضياء تشرين".
يفتتح الشاعر قصيدته قائلا:
"مِنْ دونما دِرايةٍ
تشرينُ جاءَ بَغتةً مَخاضُهُ"
فهذه الفاتحة التي بدأت بحرف "من" سنجدها تؤثر على كيانية القصيدة كاملة، بحيث نكاد لا نجد بيت في القصيدة دون وجود حرف يُفصل الحدث/الصورة التي يتناولها الشاعر.
"قُبيلَ أنْ يَطالَ شاربَ النُّعاسِ نومُهُ
وقدْ تلاشى في عِراكِهِ
مَعَ اعتلالِ سادِناتِ مَعبدِ النُّجومِ حُلمُهُ
حتى أتى اليقينُ في بِشارةٍ زهراءَ
هلَّلتْ بها مُغرداتُ الصُّبحِ في مَسرَّةٍ
على جَناحِ سابحٍ تلفَّعتْ بدفئهِ
مَولودةُ السَّماءِ في تشرينْ"
إذا ما توقفنا عند هذا المقطع سنجد فيه تفاصيل كثيرة وشروحات، لهذا نجد اسهاب في الشرح، من خلال حروف "أن، في، مع، بها، على" ونجد التواصل والتكامل في الحدث/الصورة التي يراد تقديمها، من هنا يتم تجاوز الصورة الطويلة التي يقدمها الشاعر، فالتواصل والترابط يجعل الصورة قريبة من المتلقي، لكن الشاعر لا يكتفي بهذا التواصل والترابط، بل يضيف إليه صور شعرية قصيرة تأتي ضمن هذه الصورة الكبيرة، مما يجعل المتلقي يستمتع بها متجاوزا حالة الشرح، فيتوقف عند كل مقطع لما فيه من صور شعرية مثل "شارب النعاس، جَناحِ سابحٍ تلفَّعتْ بدفئه" وإذا ما اضفنا إليهما الأسطورة والتراث المتمثلان ب"سادنات، الزهراء" نكون أمام قصيدة تفتح شهية المتلقي لينهل منها بشغف وشهية.
وإذا ما زدنا التوقف عند المقطع السابق سنجد فيه عناصر مخففة مهدئة، فهناك الطبيعة "الصبح والشمس"، وهناك حضور المرأة الذي جاء من خلال "السادنات والزهراء"، وكلنا يعلم رمزية "الزهراء/عشتار" وما تحمله من معنى للحب والجمال، كل هذا يجعل القصيدة سلسة ويستمتع بتناولها.
وهناك جانب يضاف إلى ما سبق، إلا وهو اللغة البيضاء التي جاءت في القصيدة، وبما أن الشاعر يحب وينحاز لموضوع قصيدته التي اسهب في تناولها، فلا بد أن ينعكس هذا الحب والانحياز على الألفاظ والمضمون الذي أرادنا معرفه، فالمقطع السابق يكاد يخلو من أي لفظ قاس أو مؤلم إذا ما استثنينا لفظ "تلاشى، عراكه، اعتلال" تكون بقية الألفاظ بيضاء بالمطلق، وهذا ما يجعل القصيدة منسجمة بين الألفاظ والمضمون/الفكرة التي أريد طرحها والطريقة التي قدمت بها القصيدة ـ الشرح والتفصيل ـ.
الشاعر يحدثنا عن شهر تشرين هو شهر من السنة، بمعنى أن له نقيض، فالفصول تتبدل وتناقض بعضها بعضا، من هنا جاءت فكرة الملحمة الكنعانية "البعل" التي تتحدث عن الصراع الأزلي بين "البعل" والموت، وقد سبق أن اشار الشاعر إلى الأسطورة من خلال "الزهراء" بمعنى أن هناك شيء في العقل الباطن عند الشاعر يشير إلى هذا التناقض/الصراع، فيكيف جاء في قصيدة؟:
"فزمَّلتها ناشِراتُ الوَمْضِ في فِراءٍ مِنْ حَنينْ
وَلاذَ في مِحرابِها
فَتيلُ مَنْ يُصافحُ الصباحَ في
لُهاثهِ الخفوتِ مثلَ رَجرجاتِ قنديلٍ
تدلَّى في ارتعاشةٍ
نادى بها نداءُ الفجرِ قبلَ أنْ
يَبيضَّ شَعرُ اللَّيلِ في سُدولهِ الأخيرْ"
صراع الطبيعة ليس صراع دموي كما هو الحال بين البشر، بل صراع هادئ/ناعم/طبيعي، فرغم التناقض بين فصول السنة إلا أن حياة أو موت أي فصل يحمل بين ثناياه ولادة جديدة، فالتعاقب بين الربيع والخريف وبين الصيف والشتاء يخدم فكرة الحياة، من هنا سنجد انعكاس لهذا التكامل في (الصراعات) على طريقة تقديم القصيدة، فتبدو لنا كحالة طبيعية، من هنا نجد الألفاظ القاسية محدودة، وتخدم فكرة البياض أكثر مما تخدم فكرة السواد، وهذا ما نجده في عبارات: "لهاثه الخفوت، رجاجات قنديل، يبيض شعر الليل" ، والألفاظ القاسية "لاذ، لهاثه، رجاجات، ارتعاشه، الليل، الأخير" كلها جاءت بصورة مخففة وتخدم فكرة البياض التي أراد الشاعر تقديمها.
من هنا يمكنا أسقاط هذا الأمر على هذا المقطع من القصيدة:
"في كلِّ عامٍ مرةً
يجيءُ وجهُها الضحوكُ كلَّما
أتَى الفتى تشرينُ حاملًا بهِ
فانوسَ مُعجزاتِه على حَفاوةٍ
ليعلنَ الولادةَ الأولى لِشمْسِنا الحنونْ"
يبدو المقطع متماثلا مع فكرة عودة "البعل" إلى الحياة، فمن خلال الألفاظ التالية: "يجيء، الضحوك، أتي، الفتى، فانوس، معجزته، حفاوة، ليعين، ولادة، شمس، الحنون" يمكننا القول أنها ألفاظ تتماثل وتتطابق مع تلك التي جاءت في ملحمة "البعل" الكنعانية، فهل أثر المكان والظرف على الشاعر بحيث جعله يستخدم عين فكرة الملحمة، أم ان الشاعر متأثرا بالملحمة الكنعانية؟.
بعد أن يعم الخير بظهور البعل/الخصب، يأخذ الناس بتمجيد القادم الجديد:
"تشرينُ يا نبوءَةَ القلبِ التي
تحقَّقَ افتراشُها للكونِ
ساعةَ انبلاجِ الدِّفءِ في المَدى الفَسيحْ
" تشرينُ يا صديقيَ السَّميحْ
تَفلتَتْ منَّا على عَمايةٍ عقيلةُ الزَّمانِ
بَعدَ أنْ تاهتْ على رَمْضَائِنا
جحافلُ الذين قد شَرَوْا أنوارَهم بظلماءِ البسوسِ
واشترَوْا عُوارَهم بما
زَهتْ بهِ نفائسُ النفوسْ
وفي انْبساطِ غُفلِنا نثرنا كُلَّنا
وما حوَتْ جِعابُنا عطورَ مَجدٍ خاطئٍ
على صِحافٍ منْ بَياضْ
فَسارَ فينا ألفُ عامٍ غافلٍ عنَّا
ومَا يَزالُ كاتبُ التاريخِ تستهوي دواتُهُ
عُفونةَ انتصارهِ لغيهبٍ من الكذبْ
وما يزالُ فاغرًا فمَ الغباءِ ليلُنا الكسيحْ"
تمجيد "البعل/تشرين" جاء من خلال:
"تشرينُ يا نبوءَةَ القلبِ التي
تحقَّقَ افتراشُها للكونِ
تشرينُ يا صديقيَ السَّميحْ"
فيبدو لنا المخاطب "تشرين" أكبر مما هو بشري، لهذا نجد الشاعر يعظمه، من خلال استخدام صيغة التعظيم "يا" ونجد حالة الناس البائسة دون وجود "تشرين/البعل":
" تَفلتَتْ منَّا على عَمايةٍ عقيلةُ الزَّمانِ
بَعدَ أنْ تاهتْ على رَمْضَائِنا
جحافلُ الذين قد شَرَوْا أنوارَهم بظلماءِ البسوسِ
واشترَوْا عُوارَهم بما
زَهتْ بهِ نفائسُ النفوسْ"
وكأن الشاعر يقول أن الحياة دون "تشرين/البعل" صعبة ومؤلمة وقاسية، فهو يسهب في تناوله لحالة الألم، وكأنه يريد أن يفضي ما في نفسه من ألم "لتشرين/للبعل" لهذا يبدو لنا كصديق حميم للشاعر أو كإله، وهنا نتوقف متسائلين: لماذا استخدم الشاعر شهر تشرين الخريفي وليس شهر نيسان الربيعي؟ علما بأن تشرين يمثل فصل الخريف، وهل لهذا علاقة بحالة التواصل والتكامل بين الفصول، أم إنه خطأ وقع فيه الشاعر؟، أم أن الحالة البائسة التي يعيشها الشاعر جعلته يتخذ "تشرين" الخريفي صديقا يفضي له، فهو يريد شخص/حالة/إله على شاكلته ممتلئ بالسواد والقتامة؟.
اعتقد أن المقطع السابق يشير إلى حالة الالم التي يمر بها الشاعر، فهو يتحدث عن الضغط الواقع عليه، لهذا نجده يستخدم "تفلتت، تاهت، رمضائنا، بظلماء، غوارهم، غفلنا، خاطئ، غافل، غفوته، الكذب، الغباء، ليلنا، الكسيح" وإذا ما قارنا هذا المقطع مع ما جاء في فاتحة القصيدة، يمكننا ان نجد التباين بينهما، حتى يبدو وكأن هناك قصيدة جديدة غير تلك التي افتتحت بها القصيدة، وهذا ناتج عن حالة الضغط والالم الذي يمر بها الشاعر.
يقدمنا الشاعر أكثر مما يعانيه فيقول:
"لُغاتُنا مريرةٌ في لَغْوِها
وجَمعُنا نِثَارْ
وكلُّ ما فينا مَكاثيرٌ عِثارْ
وذِي السَّوافُ قدْ تَجلبَبَتْ أمَانينا الكُثارْ"
إذن هناك حالة من القهر يمر بها الشاعر، وهذا ظاهر في القصيدة، لكن لماذا تباينت افتتاحية القصيدة البيضاء عن متناها الأسود؟، اعتقد أن الشاعر/الإنسان بطبيعته يميل نحو البياض، لهذا هو دائما يحلم/يفكر بعالم جميل مترع بالبياض والأمل، وهذا ما وجدناه في فاتحة القصيدة، فالشاعر له دور اجتماعي يضاف إلى دوره كشاعر، كأديب، من هنا أراد من خلال حديثه عن الطبيعة البيضاء أن يقدمنا من الأمل، بعد أن تأكد أننا مؤمنين بالمستقبل، فاتجه إلى ترغيبنا بالمستقبل، من خلال تناوله لتفاصيل السواد والألم الذي يعيشه، فبعد أن غرس فينا بذرة الحياة، أراد أن يرينا الموت كي نسرع بالتقدم من الحياة التي أرادها لنا.
"تشرينُ ذارعُ المدى القَصيِّ في مَسيرنا المديدْ
تشرينُ يا مُكاءَ روحيَ التي
اسْتولدْتَها الكمالَ كُلَّما تَنَفَّسَتْ
رِئاتُ العمرِ عامَها الجَديدْ
ضياءَ تشرينِ البهيِّ يا وليدةَ السماءْ
إليك مَملوكُ الهوى قلبي
كأي نسمة تشمُّها إناثُ النور
في صباحٍ مِنْ عُطور
مَملوكةٌ إليك أنفاسي
كأيِّ هَمسةٍ آوتْ إلى احتِضانِ لهفةٍ
على سريرٍ مِنْ سرورْ
إليكِ مَملوكُ الهوى شِعري أيا صغيرتي
كأيّ لثغةٍ تَراقَصتْ
على شفاهِ طفلةٍ خَجولْ
مَملوكةٌ جوارحي إليكِ يا حبيبتي
كأيِّ موسيقى تَذوَّبَتْ دلالًا مثلما الحفيفُ
فوقَ هفهفاتِ زيزفونةٍ جَسور"
التماثل بين المقدمة والخاتمة يشير إلى طبيعة الشاعر التي تنحاز للبياض والحياة الجديدة، وهذا ما كان في قصيدة "ضياء تشرين" فالمضمون أبيض والألفاظ كذلك، حتى أننا لا نجد أي لفظ اسود أو مؤلم، فهناك عالم ناصع، وهذا التقدم من جديد نحو البياض يؤكد على أن الشاعر يحمل في عقله الباطن الأمل بالحياة، وهذا ما اراده لنا نحن المتلقين للقصيدة، فالفاتحة وخاتمة البياض، يشير إلى حرص الشاعر على مشاعر المتلقين للقصيدة، بحيث لا يريد صدمنا بالحديث عن الألم في الفاتحة، وأخر الحديث عن الألم انسجاما مع طبيعته البيضاء، لهذا جعل الألم بين بياضين.
القصيدة منشورة على صفحة الشاعر على الفيس.
المصدر: مجلة عشتار الالكترونية