جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
اللغة والمضمون عند
علي أبو عجمية
عندما تكون اللغة صعبة وشائكة فهذا يشير بطريقة ما إلى ما حالة الضيق التي يمر بها الشاعر/الكاتب، فهو من خلال التراكيب المعقدة والمبنية فوق بعضها يريدنا أن نصل من خلالها إلى ما ريد إيصاله، حتى لو لم نستطع تفكك العبارة/الصور، أو عجزنا عن تحليلها بطريقة منطقية، وهذا الشكل من الكتابة يستخدمه العديد من الشعراء منهم أدونيس ومحمد حلمي الريشة وفيصل قرقطي وغريهم، فرغم أن القارئ لا يستطيع أن يمسك الفكرة، لكن طريقة تقديم القصيدة توصل الفكرة، لهذا تجد القارئ يشعر بالراحة بعد قراءة هؤلاء الشعراء، فما يقدمونه يريحنا من ثقل الواقع، وكأنهم عبروا عنا نحن القراء، عبروا عما نعانيه، ما نمر به من ضيق وحصار واغتراب.
الشاعر "علي أبو عجمية" من هؤلاء الشاعر الذين يكتبون بطريقة شائكة ومركبة بحيث تكون صعبة وأحيانا مستحيلة التفكيك، يقول الشاعر في قصيدة "أقول للماء ولكن":
"(1)
هكذا أفركُ الماءَ الذي خلعَ البحرَ
بوردةٍ مالحة؛
وألوانَ لا تكفي لأصعدَ في صهيلِ الرَمْل،
اللغةُ: صفيحٌ فارغٌ تملؤه الشَمْس،
ولَيْلٌ أنثويٌّ
يعرجُ في الذاكرة!
المقطع الأول يبدو وكأنه كلام غير متزن، غير متجانس، كما أن طريقة صياغته تشير إلى القسوة والصعوبة، وكأن الشاعر من خلال اللغة والطريقة تقديم للقصيدة يريدنا أن نصل إلى المضمون، فالماء من المفترض أن يكون منسابا/سلسلا، وإذا علمنا أن مفهوم الماء يشير إلى حالة الظهارة والانتقال من حالة فكرية/عقائدية إلى أخرى جديدة، كما أنه مصدر الحياة، كل هذا يجعلنا نتأكد الهوة التي تفصل الماء الذي نعرفه عن ماء الشاعر، لهذا نجد ماءه غير الماء، واللغة والتي من المفترض أن تكون وسيلة تسهل التواصل بيننا يقدمها الشاعر بصورة قاسية "صفيح ساخن" كل هذا يجعلنا نقول أن مثل هذه اللغة وطريقة تقديم الصور الشعرية تؤكد على عدم سوية الواقع الذي يمر به الشاعر، فهو يريدنا أن نصل إلى حالته/إلى الفكرة بشكل جديد غير مألوف، وهذا بحد ذاته يمثل تمرد الشاعر على الواقع، على الظرف.
(2)
هَلْ أَدْلُقُ الماءَ على بابِ الأبجديّةِ؟
..
وأتركُ قلبي
في جَيْبها العُشْبِ
حيثُ يبكي الفراشُ على سَليقتهِ،
والعصافيرُ
تنقرُ لَحْمَ الحُواةِ الطيّبينَ
والشُعراء؛
شاعراً.. شاعراً
…
لا لَيْلَ بعد الحُبِّ؛ لا حُبَّ بعدَ الليل:
أسمعُ الخاطرَ الأبديَّ
يهذي في الطريق،
وأفتحُ الحُزْنَ والنسيانَ
لعاشقينِ..
وأمضي! "
المقطع الثاني يجمع الشاعر بين الماء واللغة معا ليقدمنا من حجم الضغط الواقع عليه، لهذا هو يخلط/يجمل عنصرين غير متجانسين، اللغة والماء، ونجده يستخدم افعال "واترك، يبكي، تنقر" فمثل هذه الافعال تشير إلى حالة القسوة، واعتقد أن الفقرة والوحيدة التي جاءت بشكل طبيعي هي:
"لا لَيْلَ بعد الحُبِّ؛ لا حُبَّ بعدَ الليل" كل هذا يجعلنا نقول أن الشاعر "علي أبو عجمية" استطاع أن يوصل لنا الواقع من خلال اللغة وطريقة تقديمه للقصيدة، والصور الشعرية المركبة والمعقدة.
هذا النهج نجده أيضا في قصيدة "فخ" والعنوان لوحده كافيا ليشير إلى ما جاء سابقا عن الشاعر، يقول:
" فخ
عودُ الثقابِ الذي يورقُ في فمِي
كلّما أوغلتُ
…
في أحاديثَ طارئة
بعد هذا الجوع الضروريّ،
الليلُ الكامنُ
في الشُرْفةِ التي تصعدُ
تصعدُ.. إلى الغيم،
لتنشلَ الماءَ والوحي،
….
كل شيء يستوي خلفي
ويفضحُ نفسهُ عاريا،
كل شيء.
وحبيبتي أيضاً
تلكَ التي تزيدُ ملعقةً
من الكمّونِ
على هذه العتمة!
" فهناك عود ثقاب، لكن ما علاقته بفم الشاعر؟، والشرفة التي تصعد إلى الغيم، والليل وملعقة الكمون، كل هذه الصور غير المنطقية والقاسة تؤكد على أن هناك حالة من القرف يمر بها الشاعر تجعله يستخدم هذا الشكل من الصور وهذه اللغة الصعبة.
وهذه الصورة يؤكدها في قصيدة "خبز" والتي يقول فيها:
" خُبْز
من سَيّجَ مملكةَ الحُزْنِ بالنَمْلِ
والحُمّى؟
تقولُ الأرضُ لجارتها
من أسْفلِ الشُرْفَةِ الخاوية:
يا سَمائيَ
من سَيّجَ مملكةَ الحُزْنِ
بالنَمْلِ والحُمّى..
…
والصيفُ يحرسُ قُوتَه
كلّما تداعى الحَقْلُ
على كاهلِ المِلْح،
تقولُ:
هل هُوَ المَوْتُ
في طريقِ غَزالٍ مُشتهى؛
أم ذلكَ الطائرُ المحمومُ
الذي يَهوي عند أوّلِ عاشقٍ
يَطْعَنُ الخُبْزَ في ظَهْرهِ..
ويجهشُ.. يجهشُ بالعويلِ
على أمّهِ السُنبلة؟!"
اعتقد أن الشاعر في هذه القصيدة يصل إلى الذروة، بحث نجد صورة غارقة تماما في الظلام والسواد، فهناك مملكة الحزن، والنمل، الموت، يهوي، يطعن، يجهش، بالعويل" هذا على مستوى الألفاظ، أما الصور فهي غارقة في الطلاسمية، فمن هي جارة الأرض؟، والصيف الحارس، وقوته، والملح، والخبز الذي يطعن في الظهر" كل هذا يجعلنا نتأكد ان الشاعر يتقن هذه الطريقة لإيصالنا صورة المأساة، التي يريدنا أن نفكر بالخروج منها، فهو لا يريد إثارتنا بقدر جعلنا نفكر ونجد الحلول لمثل هذه الصور/الواقع البائس.
في قصيدة "حرب" هناك تقدم أكثر نحو الطلاسمية والسواد والتعقيد، وكأن العنوان "الحرب" ترك أثرا على الشاعر بحيث لم يبق له أي مساحة من البياض، فكان أكثر إغراقا في الظلام والسواد:
" حَرْب
الرَجلُ الذي ماتَ
خلفَ حافلةِ النوايا
كقطٍّ
يلعقُ الحليبَ السُمَّ..
والصابونَ الذي خَلّفَتْهُ الحَرْب:
لم يكن يدري أنَّ فأراً ما
سوفَ يغتالُ الصُحونَ
ببزّة الليلِ العسكريّة،
ولم يكن يدري
أنَّ المُواءَ الدائريَّ حِرْفَةُ الكَوْنِ
والكواكبِ الآيلة،
تلك التي تثقبُ الرُوحَ..
وتذبَلُ
تذبلُ في الزُقاقِ الأخير.. كالشظايا!" مصطلحات الحرب حاضرة في القصيدة من خلال "الرجل، الحرب، ببزة، العسكرية، الدائري، تثقب، كالشظايا" وهذا ما يجعل القصيدة منسجمة من الالفاظ المستخدمة، قلنا في موضع غير هذا ان الحيوان غالبا ما يأتي ليعبر عن حنق الشاعر على الواقع، وهنا استحضر الشاعر "الفأر والقط" ليزيد من قتامة الحال الذي تحدث فيه الحرب، وإذا ما أضافنا الصور الصعبة والمركبة التي جاءت في القصيدة، نكون أمام حالة سواد مطلق والذي تتوحد فيه اللغة مع الألفاظ مع الصور مع المضمون، لتعطينا معا ومنفردة صورة وقع الحال على الشاعر.
القصائد منشورة على هذا الرابط
المصدر: مجلة عشتار الالكترونية