جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
الفعل الماضي في قصيدة
"قد كنت"
عبد الكريم موسى
للأفعال اثرها في النص الأدبي، إن كان على الكاتب/الشاعر أم على القارئ ـ فهي في حالة الماضي غيرها في حالة المضارع، فالماضي يعني شيء منتهي ولا يمكننا التغيير فيه أو تبديله، على النقيض من فعل المضارع الذي لم يحدث بعد، والذي يمكننا أن نغير فيه ونبدل ونعدل حسب ارادتنا.
ونحن في المنطقة العربية غالبا ما نتناول الماضي بصورته الايجابية، لنعوض ما نحن في من بؤس وتقهقر، لكن "عبد الكريم موسى" يتعامل مع الماضي أيضا بتك الصورة، فهو يريد أن يعوض بؤسه الآن من خلال تذكير نفسه والحبيب بذلك العطاء النقي الذي قدمه، يفتتح قصيدته:
"قد كنتُ أحفظُ ذكراكِ ولم أزلِ
وكنتُ أضحكُ دون الهمّ والكَللِ
وكنتُ أشعُرُ أن العمرَ ذو ثمنٍ
وأنّ يومي مزيجُ الحبِّ بالأملِ
ألاطِفُ الحُلمَ مذ كانت أنامله
تسعى إليكِ بألحاظي وبالقُبَلِ
وكنتُ أرسمُ قلباً نابضاً أملاً
وكانَ حرفُكِ دوما أوّلَ الجُمَلِ"
الشاعر يكرر كلمة "كنت" أربع مرات، وإذا ما وزعناها على الأبيات نجد أنها متساوية، ونجد فعل جميل، أبيض يتبع كلمة كنت: "أحفظ، أضحك، أشعر، أرسم" ولا يكتفي الشاعر بهذا بل يستخدم الفاظ أخرى بيضاء كما هو الحال في "الحب بالأمل، ألاطف الحلم، انامله، تسعى، بألحاظي وبالقُبَلِ، قلبا نابضا، حرفك، أول الجمل" كل هذا يجعلنا نتأكد أن نتعامل مع الماضي بصورة الحسرة عليه.
بعد ذلك البياض الماضي يقدمنا الشاعر من الحاضر الذي يرى فيه:
"رسمتُ همّي إذا ما الهمُّ أثقلني
على المياهِ وإن قد غصتُ في العَمَلِ"
الهم والثقل والغصة الآن كلها تجعل الشاعر يتشبث بالماضي الجميل، فهو يرى فيه الخلاص مما يمر به الآن:
"لكنّ عينَكِ مهما تاهَ نازلُها
يلقى دليلاً ويلقى الدفءَ بالنّزُلِ"
وكأن الشاعر يرفض الاعتراف بالواقع، ويريد أن يبقي تفكيره معلقا بالماضي الجميل، لهذا يستخدم "الدفء" وهذا يعكس الهوة التي تفصل بين ماضه وحاضره، فالحاضر يسبب الكآبة والحزن له، وهذا ما أكده عندما قال:
"فذاكَ وقتٌ أودُّ العَيشَ يُرجعُهُ
فلا أراكِ تُريني الكُرهَ بالمُقَلِ
ولا إذا جَمَعت بالحظِّ صُدفتنا
نمشي كأنّ هوانا كانَ لم يصِلِ"
بعد ان يستنفذ الشاعر كل جمال الماضي يبدأ بالانزلاق نحو الحاضر البائس، فيبدو لنا وكأن هناك قصيدة جديدة غير تلك التي كانت، فلغة القسوة والألم هي السائدة والمهيمنة:
"وقد أصابَ فؤادي صخرُ مقلتها
كمَن رمى البئرَ أحجاراً مِن الجبَلِ
فأوصلَ الصخرُ دمعاً في مدامعه
حتى ابتُللتُ به في كبوةِ الشَّلَلِ"
ثلاثة ألفاظ تشير إلى حالة القسوة "صخر، أحجار، الصخر" وهذا ما انعكس على بقية الالفاظ "رمى، الجبل، دمعا، كبوة، الشلل" بحيث نجد أنفسنا أمام حالة سوداء قاتمة ومؤلمة، فلم يعد هناك شيئا من الماضي الابيض الذي يستمد منه اللغة الناعمة والهادئة.
يضعنا الشاعر أمام حالة غير مستقرة وغير واضحة من خلال هذا البيت:
"إذا مشيتُ فإن القلبَ مرتجعي
وإن أبت قدمي أكملتُ في السبُلِ"
فهو استنفذ الماضي، ولا أدري ما الداعي للتقدم منه من جديد، فرغم أن البيت فيه صورة شعرية جميلة إلا أن موضعه ينسف نسق الأحداث، فهل هذا يعني/يشير إلى حالة الارتباك التي يمر بها الشاعر، بحيث كان وقع الحاضر عليه قويا ولم يعد يسيطر على قصيدته؟.
"ونُنكِرُ العشقَ والأعماقُ تطلبُهُ
ونترُكُ الحبَّ للقيعان والوحلِ
ونجبرُ العينَ ألّا تنثني نظراً
إذا القلوبُ تريدُ القولَ لم تَقُلِ
والكفُّ ما تركَ الخدينِ مذ رحلت
والعينُ قد نظرت للناسِ في عَجَلِ"
اعتقد أن هذه الابيات تشير إل حالة الارباك التي يمر بها الشاعر، فهو لم يحسم موقفه من الحاضر رغم يقينه أن الماضي الجميل لن يعود، لهذا نجد حالة صراع وتصادم بين الماضي والحاضر، فهناك "العشق والقيعان والوحل، ونجبر العين والقلوب تريد، ورحلت ونظرت" فهذا التباين يشير إلى حالة الصراع عند الشاعر الذي لا يريد أن يعترف بحقيقة الواقع، بحقيقة أن الماضي ما هو إلا ماضي وانتهى دون رجعة.
فالعاشق يبقى معلقا بالحبيب رغم التغيير السلبي والانحراف الكامل عن طريق الحب:
"من الفراقِ قلوبٌ لا تعي ألماً
فخصلةُ الوجدِ أقصتْ سالفَ الخُصَلِ
وحرّمَ القلبُ آياتِ الجمالِ على
عيونِ صاحبِهِ في العيشِ للأزلِ"
العاطفة حاضرة من خلال استخدام "القلوب، القلب" وكأنه يريد أن يبرر لنا عدم حسم موقفه من الحبية، فهناك القلب الذي لا يستطيع أن يسيطر عليه، وهذا ما نجده في الخاتمة التي يريد أن ينهي بها مأساته، حقيقة واقعه:
"واعتدّت الروحُ أن الموتَ مُخلصها
فلا تُريدُ معاشاً سيمَ بالعِلَلِ"
القصيدة منشورة على صفحة الكاتب على الفيس
المصدر: مجلة عشتار الالكترونية